جوكر التنس
لسنا نتحدّث عن مستر بين أو جيم كاري أو عادل إمام، أو غيرهم من ظرفاء عالم الفن والكوميديا، الذين طالما رسموا على شفاهنا الابتسامات وأخرجوا من أفواهنا القهقهات، بل حديثنا اليوم عن ظريف من نوع آخر وفي عالم آخر، فهو بطلٌ رياضي وأيما بطل! بطلٌ حقّق من البطولات والإنجازات ما جعله بطلًا قوميًا في بلاده فحاز على أرفع أوسمة الاستحقاق فيها، إنه لاعب التنس الصربي الرائع نوفاك دجوكوفيتش، الذي لم تمنعه شهرته الصارخة ومكانته الرفيعة في عالم الكرة الصفراء من إظهار روح الدعابة والفكاهة لديه، فاستحق لقبًا نادرًا لم يسبقه إليه أحدٌ من قبل هو: جوكر التنس أو سوبرمان التنس الظريف.
نبوغٌ مبكّر
عام 1994 أطلّ طفلٌ على شاشة التلفزيون الصربي ضمن أحد البرامج الرياضية وقال: “حلمي أن أكون لاعب التنس الأول في العالم”، لم يلقِ الكثيرون لكلام ابن السابعة بالًا، ولكنّ مدربته بطلة التنس اليوغسلافية السابقة إيلينا غيسيتش كانت تدرك جديّة طموح هذا الطفل المولود عام 1987 والذي قالت عنه إنه “أعظم موهبة يوغوسلافية رأتها في حياتها منذ الأسطورة مونيكا سيليش”، هذا ما أخبرت به مدربة الطفل نوفاك دجوكوفيتش والديه، اللذان اقتنعا حينها بأن طريق ابنهما البكر إلى التألق الرياضي يمرّ بعيدًا عن التزلج على الجليد، لعبتهما المفضلة والرياضة الأكثر شعبية في بلادهما صربيا، فطفقا يشجعانه بكل ما أوتيا، ولم يبخلا بالغالي والنفيس في سبيل صقل وتزكية موهبته الفذّة، فبعد ثماني سنوات من التدريب في مسقط رأسه بلغراد، أرسلاه إلى مدينة ميونيخ الألمانية وهو ابن 12 عامًا، ليتتلمذ على أيدي أفضل مدربي التنس العالميين في أكاديمية (نيكولا بيليك)، حيث قضى ثلاث سنوات ونيف قبل أن يلج عالم الاحتراف رسميًا عام 2003.
خطوات المجد الأولى
لم تكن خطوات “نولي” الأولى في عالم الاحتراف سهلةً، فقد استغرق حوالي عامين حتى تمكن من الوصول إلى تصنيف يتيح له المشاركة في بطولة كبرى (غراند سلام)، حين لعب عام 2005 أمام الروسي سافين في أول أدوار بطولة أستراليا المفتوحة وخسر دون مقاومة تذكر، وأعاد الكرّة في العام التالي ولكن في بطولة رولان غاروس حيث استطاع بلوغ دورها الثاني، كما بلغ في العام ذاته رابع أدوار بطولة ويمبلدون الكبرى وثالث أدوار فلاشينغ ميدو الأمريكية، وفي الـ2007 تمكّن نولي من الفوز بأول ألقابه في بطولات الماسترز ذات الألف نقطة، بإحرازه لقب بطولة ميامي الأمريكية على الملاعب الصلبة، ألحق به لقب بطولة ماسترز أخرى في مونتريال، كما استطاع ذلك العام بلوغ نهائي بطولة فلاشينغ ميدو الكبرى الذي خسره أمام روجر فيدرير.
عام 2008 حمل معه أول الغيث، حين استطاع “سوبر نول” الظفر بأولى اللآلئ الثَّمان في عقد الغراند سلام الثمين الذي يزيّن عنقه، كاسرًا هيمنة نادال وفيدرير على البطولات الكبرى، عبر الفوز ببطولة أستراليا – التي أصبحت بطولته المفضّلة فيما بعد – إثر انتصاره في النهائي على الفرنسي تسونغا، وألحق بها بطولتي إنديانا ويلز وروما، قبل أن يختتم الموسم بالفوز ببطولة الأساتذة الختامية التي تجمع أفضل ثمانية لاعبين في العام على حساب الروسي دافيدينكو، ليدرك حينها نجوم التنس ومتابعوها أنهم أمام إعصار قادمٍ قادرٍ على أن يحصد الأخضر واليابس.
الإعصار الجارف
لم يأتِ عاما 2009 و2010 للسوبر نول بالخير الوفير، فاكتفى من خلالهما بالحفاظ على تصنيفه العالمي الثالث عبر الفوز ببطولة ماسترز واحدة في باريس، وبلوغ أدوارٍ متقدّمة في البطولات الكبرى دون إحراز شيء منها، فظنّ بعض النقاد أن إنجازاته عام 2008 لم تكن إلا طفرة فحسب، ولكن واقع الحال كان غير ذلك، إذ لم يكن هذان العامان إلا فترة الهدوء الذي يسبق العاصفة، والسكون الذي يليه إعصار ليس لأحدٍ من دهاة التنس إيقافه!
إعصار نولي بدأ مطلع عام 2011 مع أستراليا المفتوحة، بطولته المحببة التي أحرز ثاني ألقابه فيها على حساب البريطاني أندي موراي بعد أن أزاح قبله المايسترو السويسري روجر فيدرير، قبل أن يحرز أول ألقابه في بطولة ويمبلدون العريقة بفوزه المثير على الماتادور الإسباني رافا نادال، وليكمل مسيرته الرائعة ذلك العام بحصده لقب أمريكا المفتوحة على حساب الماتادور أيضًا، ويتمكن حينها من إزاحته عن قمة التصنيف العالمي، ولسان حاله يردّد قول الشاعر:
وإني وإن كنت الأخير زمانه … لآتٍ بما لم تستطعه الأوائلُ
وهذا ما كان فعلاً، فقد أنهى السوبر نول عام 2011 بإنجازات لم يبلغها أحد من أوائل لاعبي التنس أو أواخرهم، فقد حصد فيه إضافة إلى بطولات الغراند سلام الثلاث، خمسة ألقاب في بطولات الماسترز من أصل تسعةٍ ممكنة بفوزه بألقاب: إنديانا ويلز وميامي وروما ومدريد ومونتريال، كما حقق في نفس العام سلسلة فريدة قوامها 41 انتصارًا متتاليًا، لم توقفها إلا خسارة نصف نهائي الرولان غاروس أمام فيدرير، ليحصل النجم الصربي على لقب الرياضي الأفضل لعام 2011، متفوّقًا على كبار نجوم الرياضات الأخرى كليونيل ميسي وأوسين بولت وسيباستيان فيتل.
وفي الـ2012 تابع إعصار نولي دورانه فانتزع لقبه الثالث في أستراليا المفتوحة، وأتبعه بألقاب ميامي وتورينتو وشنغهاي، وتكرّر الأمر في 2013 مع تجدد الفوز بأستراليا المفتوحة، ومعها ألقاب كل من مونتي كارلو وباريس وشنغهاي، قبل أن يفقد لقبه في أستراليا عام 2014 بسقوطه أمام السويسري فافرينكا، ولكنه استطاع تعويضه بأفضل صورة ممكنة عبر الفوز بلقبه الثاني في الويمبلدون على حساب فيدرير، إضافةً إلى ألقاب إنديانا ويلز وميامي وروما وباريس في نفس العام.
وفي العام الحالي 2015، أعاد نولي إلى الأذهان صورة البطل الذي لا يُهزم التي كوّنها عام 2011، عبر فوزه بجميع البطولات التي شارك فيها، بدءًا بأستراليا المفتوحة التي استعادها عبر الفوز على موراي، أتبعها بأربع بطولات ماسترز في كل من إنديانا ويلز وميامي ومونتي كارلو وروما، قبل أن يقترب من تحقيق حلمه الكبير بالفوز بجميع بطولات الغراند سلام الكبرى ببلوغه نهائي الرولان غاروس، ولكنّ الخسارة أمام السويسري فافرينكا قبل أيام حطمت آماله وأجلّت حلمه حتى حين، لتبقى هذه البطولة هي الحاجز الذي طالما توقفت عنده طموحات السوبر نول.
سوبرمان التنس
يبدو نوفاك في كثيرٍ من الأحيان أشبه برجلٍ خارقٍ أو سوبرمان غير قابل للهزيمة، فهو مزيجٌ من فنّيات وذكاء فيدرير ولياقة وتركيز نادال، فقامته الفارعة (188 سم) تعطيه رؤيةً واسعة للملعب تمكنه من توجيه ضربات إرساله القوية بدقةٍ متناهية، وكذلك الأمر بالنسبة لضربات يمناه الأمامية (الفورهاند) التي تحاكي ضربات فيدرير بسرعتها ودقتها، كما أن ضرباته الخلفية (الباكهاند)، رغم اعتماده على كلتي يديه فيها، ولكنها قليلاً ما تخطئ هدفها، أما العامل الإضافي الذي استطاع سوبر نول تطويره مع مدربه الحالي نجم التنس الألماني السابق بوريس بيكر، فكان عامل اللياقة الذهنية والتركيز، إضافةً إلى تحكّمه الثابت بأعصابه، التي لطالما أضاعت عليه انفلاتاتها القديمة الكثير من الأشواط والمباريات.
أما أسلوب لعب السوبر نول فيعتبر من أبرز نقاط قوّته، فهو يمتلك من المهارة والدهاء ما يمكنه من تبديل طريقة لعبه بما يتناسب مع سمات خصومه ونقاط ضعفهم، فهو يلجأ للعب الهجومي السريع مع اللاعبين طوال القامة ذوي الحركة الثقيلة، ويطيل البقاء في الخط الخلفي بانتظار الفرصة المواتية لكسر نسق اللعب عندما يواجه خصومًا من ذوي النفَس الطويل، ويتنقّل بين هذا وذاك ويغيّر من أسلوبه مراتٍ عدة في المباراة الواحدة وفي الشوط الواحد أحيانًا، تبعًا لحالة منافسه البدنية والذهنية خلال المباراة، مما يعطيه السيطرة والتفوّق على أغلب خصومه.
تواضع الأبطال
قال الحكماء قديمًا: من كانت في نفسه دعابةٌ فقد برأ من الكبر.
وهذا ما ينطبق على نجمنا الصربي الظريف، الذي أطلق لنفسه عنان التصرّف على سجيّتها المرحة المتحررة دونما تكلّف أو تصنّع، فتراه تارةً يرقص مع المشاة في الشوارع، وتارةً أخرى يمازح الأطفال جامعي الكرات في الملاعب، كما اشتهر بقدرته الفائقة على المحاكاة والتشخيص، ونذكر كيف انتزع الضحكات من القلب عندما قلّد منافسه رافا نادال في إحدى مواجهاتهما، وتبقى أروع اللقطات تلك التي دارت بينه وبين الشاب حامل المظلات في الملعب أثناء استراحة إحدى مبارياته، حين لاحظ نولي إرهاق الشاب فدعاه إلى الجلوس بجانبه وقدّم له الشراب ثم حمل عنه المظلة وأهداه مضربه، فاستحقّ تقدير واستحسان كل من شاهد تلك اللقطة لما لمسوا فيها من تواضعٍ وإنسانية تتماهى مع شخصيته المرحة الجذلة، إنه تواضع الأبطال الذي لا يزيدهم في عيون الناس إلا رفعةً وسموًّا.