قلبي وسيفي مع الحركة الإسلامية في صراعها الدامي التي تخوضه اليوم – من جديد – ضد العسكر في مصر وهي تشرف على سنة جديدة من فصوله التي يُضاف إليها كل يوم سطر جديد من سطور البشاعة والشناعة ضد أبرياء عزل في السجون والشوارع ومن وراء أسوار الجامعات.
وفي وسط هذا الصراع اللاحب لا يزال ثمة لغط يفور ويخفت حول المراجعة والمناصحة، والمحاسبة والمساءلة والمكاشفة، وما يزال التلاسن والتناوش بين “هذا وقته” و “هذا ليس بوقته” دائرا بحماس كلما جدّت مسألة أو وقعت مناسبة، أو برز تصريح .. وبعيدا عن الإقحام في تبريرات الفريقين، ودون التصنيف في أحدهما، فإنني أتسلل إلى صفوف أهل المراجعة والمناصحة لأكتب سطرين في هذا الباب لعل فائدة تقع فيه أو خيرا يُرتجى منه.
أنا من المتفائلين ببروز جيل جديد –بصورة عامة- في وسط هذه الظلمات، ومستبشر كذلك بجيل جديد من رحم الحركة الإسلامية، خاصة من جيل الجامعات والمدارس الثانوية الذي رمى به القدر مقتبل عمره في هذه المعركة الضروس وجعله عليها من الشاهدين، وهذا الجيل المتأخر يكاد يشهد تمام تسعين عاما من عمر جماعته الكبيرة، وهو يقرأ للرعيل الأول في ماضيها “أدب المحنة” ويقرأ في حاضره وحاضرها ذات الأدب هو هو باختلاف الأشخاص وبتشابه الأحداث!
هذا الجيل المتحرر يسعى إلى امتلاك مكانة جديدة تليق به لكن الأحداث تطحنه طحناً مريرا لا يكاد يرفع رأسه من نكبة إلا ضربته أخرى، وهي تترك فيه النُدب والجروح ظاهرة وباطنة، رغم كونه يقاومها ما استطاع بما تسعفه خبرته المتواضعة في المناوشة والمهاوشة، وظني أن ثمة تغييرا بطيئا يقع في جسد الحركة الإسلامية دخولا من هؤلاء الشبان ومحاولة فرض واقعهم، لكنه تغيير بدأ بلا تنظير ولا تأطير واضحَين، وهو حتى الآن غبشٌ لا تستطيع معرفة مداه ولا تأثيره، ومختلط لا تعرف منهجيته ولا مراجعه، وغامض لا تقدر على بيانه وتحريره، لكن الاستقراء يقول أن ثمة اهتزازا يقع ربما كُتب له – لو نجح – التأثير على المدى المتوسط أو الطويل لأن نشأة الأفكار وتحركها إلى وقائع عملية لن يقع بين يوم وليلة أو عشية وضحاها!
المهم هنا لهذا التحرك الناشئ أن يبدأ التترس بالتنظيرات الفكرية التي تعينه إذا سعى، وتساعده إذا اختل، وتقويه إذا ضعُف، وتسعفه إذا نشب صراع الأفكار، والأهم منه أن ينظر في الحمل الثقيل من أفكار الجماعة وأن ينتقي منها انتقاء الحذِر المتوقّى بلا وجل ولا خوف وأن يضع أقوال الرجال كلها في منزلة واحدة بلا فضل لأحد على أحد ولو كان الإمام المؤسس حسن البنا!
تدوير التراث الفكري للحركة الإسلامية إذا هو باب الولوج لهذه الطفرة الفكرية والحركية، ولست من أولئك المولعين بالهدم والإطاحة لكل قديم، ومن الغباء البالغ الاعتقاد بأن هذا الكمّ التراثي شرّ كله لا خير فيه، لكن هذا التحريض على المراجعة مردّه عدة أمور:
أولا: أنه قد يليق بالتكوين ما لايليق بالاستمرارية، وإذا كانت أفكار النشأة قد أقامت هذا الصرح الكبير فإن من الإجحاف أن نحسب أن الدوام من أصولها وأركانها، وإذا كانت الفتيا والأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان والعوائد والحالات – وهي من دين لله – فأولى للأفكار أن تختلف وتتبدل وهي من أفعال البشر ..
ثانيا: أبدت الأيام أن انحرافات وفيرة وقعت في المنهج والتطبيق مع إلف تأصيلها والعمل بها وصارت أصولٌ محلّ الفروع وفروعٌ محلّ الأصول واختلط البياض بالسواد فوجبت المراجعة وردّ الأمور إلى نصابها بدون إفراط ولا تفريط ..
ثالثا: محاولات التأصيل والمراجعة والمحاججة والمناقشة داخل الحركة الإسلامية ضعيفة إلى حد الركاكة أحيانا، ابتداء من مناقشة تأصيلات الأستاذ الشهيد التي تمت على استحياء بالغ بعد عمر طويل من كتابتها وخرجت كلها تدور في ذات الفلك وتشرح المشروح وتؤكد المؤكد كأنما تمنعها المهابة أن تناقش الرجل أقواله وفعاله، وانتهاء إلى هذا الوقت التي تعض فيها بالنواجذ على الأقوال القديمة في تشبث عجيب حتى انقلبنا وكل من كتب في نقد الجماعة كان قد خرج منها ابتداء !
رابعا: ملحوظ أن شباب الحركة اليوم صاروا أكثر جرأة من الماضي وهذا الانفتاح أعانهم بقوة على رفع القامة وعلوّ الصوت، واختلاف المشرب واضح بين تلكؤ الشيوخ وحسم الشباب، وكل المدوّن من قديم صار لا يصلح لهذه النزعة المتحمسة، وأمل الثورة الينايرية لا يزال يدبّ في النفوس رغم قسوة العثرات بعدها، والمنهج الثوري صار أقرب وأوقع عنده إذ لم يجد في طريق الإصلاح العتيد الذي تشبّع به في المنهج حولا ولا طولا ولا حتى واقعية لا في المشهد المصري ولا في المحيط الإقليمي وهو محتار بين عسكرة وسلمية، أو بين شغب وكفّ أذى ..
كل ذلك وغيره يدفع دفعا إلى محاولة مراجعة حاسمة يتكيء بها الحراك المشتعل اليوم على تنظير مدروس عاقل ممنهج يواكبه ويدفعه إلى الأمام ولا يجذبه إلى الوراء، ويعرف به مبتدأه ومنتهاه، ووسيلته وغايته، ويلفظ أفكارا منحرفة بالية إما تعيقه ولا تعينه، وإما تنحرف به ولا تقيمه، ومقصد الدعوة هنا إلى كتابة الرسائل من جديد هو تحرير فكرٍ متطور من فكر حسن البنا يكون إليه المردّ الجديد وفيه المتكل وعليه الاحتكام، وأياً ما كان هذا التحرير الجديد أكثره من القديم أو أقلّه منه فلا بأس، فإن بلوغ المقصد الصحيح على أي نحو هو المبتغى..
الفرض هنا والواجب والمؤكد أن نعي جيدا أن كل صوت يهمس بنا أو يصرخ فينا ليس بالضرورة أن يكون شقاً للصف أو صفعاً بالكف أو رمياً بالأذى، وأن التشبث بكل القديم ليس معناه “ثباتا على الحق” بل كثيرا ما يكون من باب الصلف والغرور الأحمق، وأن نقد الرجال ليس معناه هدْمهم ولا انتقاص فضائلهم الشخصية، فرُبّ فاضل زكيّ نقيّ تقيّ في نفسه يُلخبط في أمور العامة ويعبث حين البأس، وهذا حقنا نقده فيكون له فضله ولا تكون علينا مصائبه، وإذا كان الكيّ مشروعا في دين الطب حتى يبرأ السقيم فلا بأس من بعض الكيّ فلربما تقصّر به أمد الصراع ولربما كان الطريق الأوفر سلامة وأأمن عاقبة للوصول .
لعل هذا المدخل يكون بداية نقْشٍ على باب هذه المراجعات ولعل للحديث بقية ..