شهدت الساحة التربوية في تونس هذه السنة صنوفا شتى من الإستثناءات العجيبة، فبالإضافة إلى عدد الإضرابات التي شنتها مختلف القطاعات بين التعليم الثانوي والتعليم الإبتدائي – المنسجمة أصلا مع سياق عام سمته أضرب عن العمل ثم أضرب – ، كان المضي في دمج الثلاثيين الأول والثاني وعدم إجراء امتحانات الثلاثي الثاني لتلاميذ التعليم الثانوي أول البدع التي لم تعرفها البلاد من قبل.
ثاني البدع لم ينتظر كثيرا، فقد أعلنت رئاسة الحكومة التونسية بالأمس قرارها بالنجاح الآلي لكل تلاميذ التعليم الإبتدائي، بعد فشل المفاوضات مع نقابة المدرسين، التي قررت في وقت سابق استعمال امتحانات آخر السنة، كورقة ضغط على الوزارة، من خلال عدم إجرائها إلا في حالة قبول الوزارة بكل المطالب النقابية.
الوزارة تبرر موقفها
وجاء في بلاغ لرئاسة الحكومة، أنه “طبقا لقرار صادر عن وزير التربية بصدد النشر بالرّائد الرّسمي للجمهوريّة التونسيّة تقرّر بصفة استثنائيّة الارتقاء إلى المستوى الأعلى بالنسبة إلى كلّ تلاميذ المرحلة الابتدائيّة المسجّلين بالمؤسّسات التربويّة العموميّة وذلك خلال السنة الدراسيّة 2014-2015”.
وأضاف نفس المصدر إن هذا القرار، الذي يقتصر على السنة الدراسيّة الحاليّة دون سواها، يأتي على خلفيّة تعذّر إجراء اختبارات الثلاثي الثالث بعديد المدارس الإبتدائية بسبب الإضراب الإداري علاوة على تعذّر عقد مجالس الأقسام المؤهّلة للنظر في ارتقاء التلاميذ سواء بالمعدّل أو بالإسعاف.
ومن جهته، وصف الناطق الرسمي باسم وزارة التربية، مختار الخلفاوي، قرار الوزارة بخصوص ترقية تلاميذ الابتدائي آليا، بكونه قرار “الضرورة”، وهو أعطى الأولوية للتلميذ محور العملية التربوية، حسب وصفه.
وقال الخلفاوي في مداخلة له على الوطنية الأولى “عموما لا خوف على مستوى التكوين ومستوى التقييم بأنواعه التقييم الجزائي والتقييم الإشهادي لأن المربين قد استوفوا مع تلامذتهم البرنامج الدراسي”، مشيرا إلى أن نسبة رسوب تلاميذ الابتدائي لا تتعدى في السنوات العادية 10 بالمائة وأن نسب النجاح تفوق أحيانا 90 بالمائة.
رد عنيف من قيادات الإتحاد العام التونسي للشغل
وفي أول تعليق له على قرار رئاسة الحكومة الذي تبنت فيه قرار وزير التربية بنجاح كل تلاميذ المستوى الابتدائي وارتقاء كافة التلاميذ إلى المستوى الأعلى بالنسبة للسنة الدراسية 2014-2015، قال سامي الطاهري الامين العام المساعد باتحاد الشغل أن هذا الاعلان هو بيان عسكري واعلان حرب.
كما أكد كاتب عام نقابة التعليم الأساسي، الطاهر ذاكر، اليوم الجمعة 12 جوان 2015، أن الهيئة القطاعية بصدد الاجتماع حاليا للنظر في امكانية رفع قضية ضد وزير التربية وذلك على خلفية قراره الأخير.
وفي السياق ذاته، توجه الأمين العام المساعد المسؤول عن الوظيفة العمومية،، حفيظ حفيظ، لوزير التربية، عبر صفحته على موقع فيسبوك قائلا :
“السيد ناجي جلول وزير التربية:
قرارك الذي تبنته حكومتك غير قانوني فهو مناقض للفصل 59 من القانون التوجيهي لسنة 2002 . هذه سياسة الهروب الى الامام…و سياسة ليّ الذراع فشلت مع الهادي نويرة و محمد مزالي و بن علي و الترويكا…الإتحاد عصيّ…إذا لم تستحي فافعل ما شئت…لكن المناضلين يحتفظون بحق الرد.”
إلزموا منازلكم .. أنتم ناجحون
وفي تعليقه على هذا القرار، قال الباحث سامي براهم، عبر تغريدة اختار لها عنوان “إلزموا منازلكم .. أنتم ناجحون”، أن ما أقدمت عليه وزارة التربية كحلّ لأزمة الحوار مع نقابة التعليم الأساسي مناف للمبادئ التربويّة والبيداغوجيّة حيث سيكون نجاح التلاميذ دون المرور باختبار أو تقييم لجهدهم، لن يفرحوا بنجاحهم أو يحزنوا لرسوبهم أو تأخّر رتبتهم أو أعدادهم فيتلافوا النواقص.
واعتبر براهم أن هذه السنة كارثيّة تربويّا وبيداغوجيّا لأنّها بدون حصاد، و بدون تثمين للجهد المعرفي والتعليمي، ورغم أنه يمكن القول بأنه قرار يحفظ ماء وجه الوزير و هيبة الحكومة، إلا أنه يمثّل فشلا ذريعا و نكسة لهذه السنة الدّراسية و عقوبة لقطاع التعليم الذي سيواجه خلل التكوين لتلاميذ في حكم الناجحين دون أن يخضعوا للاختبار و دون أن يكونوا مستحقين ربّما للنجاح.
وأضاف الباحث التونسي أن هذا القرار هو اغتصاب لقرار النّجاح و الرسوب و هو قرار علمي لا إداري يحدّده الإطار التعليمي التربوي من خلال مجالس الأقسام لا أصحاب القرار السياسي كما ينصّ على ذلك القانون.
الكل ينجح … ماذا بعد؟
لا شك أن البلاد بلغت فيها الإضرابات أرقاما قياسية في فترة تحتاج فيها إلى العمل وإعادة تحريك عجلة الإنتاج، إلا أن وزير التربية قد لا يكون أخطأ بالأمس، بقدر خطئه يوم رضخ وأقر الزيادات التي طالب بها أساتذة التعليم الثانوي، ما فتح الباب أمام باقي القطاعات لتطالب بحصتها هي أيضا.
ولئن اختلفت ردود الفعل بين داعم لهذا القرار ورافض له، بين داعم للمعلمين في المطالبة بما يطالبون به، وبين داعم للحكومة في صد نهم النقابات التي أثخنت مطالبها الإقتصاد المتهلهل بمزيد من الجراح، إلا أن القرار يُمثل اللحظة الصفر التي أشرت إليها في مقال سابق نُشر منذ 3 أشهر.
وبغض النظر عن كارثة النجاح الآلي لتلاميذ الإبتدائي، يجب التفطن إلى أن البلاد ولجت بهذا القرار المنطقة الحمراء (المنطقة القصوى) وهي منطقة تؤذن بالخراب، فلكل جسم اجتماعي نواة صلبة ورأس دافع، ولا يختلف اثنان عن أن جهاز التعليم بنقاباته المختلفة يمثل هذه الرأس بالنسبة للإتحاد العام التونسي للشغل؛ أن تصل الحكومة إلى هذا الحد مع هذا الرأس يعني أنها أعلنت حربا على الجسم كله .. جسم في عنفوان قوته .. يهابه الجميع وانكسرت على صخوره أكثر من حكومة بعد الثورة … وتصارعه حكومة هشة بلا سند حقيقي.
انتهت هذا الحكومة للأسف لأنها لم تحترم الفارق في الأحجام، وانتهت لأنها لم تحترم موازين القوى، الاتحاد اليوم أقوى من الدولة، للأسف، والتدافع معه لترشيد حجم المطلبية التي يتبناها، يتطلب تحين اللحظة المناسبة، ولا أعتقد أن هذه اللحظة المناسبة كانت يوم أمس، حينما أصدر رئيس الحكومة بيانه الذي أقر بأن الكل ينجح، دون أن يستشرف مآلات فتح هذه المواجهة.
سيتحول الصراع من صراع حول مطالب بين نقابة وسلطة إلى صراع حول “الهيبة” و”القوة” و”المكانة”، صراع “من يروض الآخر؟”، وهو لعمري صراع تكسير عظام لن ينتهي إلا بسقوط السقف على الجميع: صيف وخريف ساخنين في الإنتظار.