كثرت الأقاويل في الأونة الأخيرة عن حكومات العالم السرية وعن نظريات المؤامرة التي تحيط بالعالم، ثمة ترتيبات وخيوط لكل شئ، أنفاسنا تُحصى علينا، ما يحدث حولنا ما هو إلا تجليات لمصانع الأحداث الخفية التي لا يُعرف عنها شئ، لا مجال للصدفة هنا، فحكومات العالم السرية أمسكت بزمام السياسة والاقتصاد في العالم، الثورات مؤامرة ومخطط، هؤلاء الساسة الزعماء ليسزا بزعماء إنهم مأجورون من الماسونية العالمية، وثمة جيل جديد من الحروب يسمى بحروب الجيل الرابع سيدخلها العالم في غضون هذه الفترة.
كل ما ذُكر سابقًا هو أحد ما يُسيطر بالفعل على بعض سكان هذا العالم، ليس هكذا فقط إنهم يروجون له بكل ثقة، ويُطلقون التحذيرات يمنة ويسرة، ظهرت إرهاصات هذا الفكر في ثورات الربيع العربي كضمن أحد التفسيرات المتطرفة التي تناولت أسباب قيام تلك الثورات، ولكن الغريب أنها جاءت كلها من جهة داعمي الديكتاتوريات العربية في كل البلدان، مؤكدين أن هذا مخططًا غربيًا للسيطرة على الشرق الأوسط وتقسيمه، وكأن الغرب لا يسيطر بالفعل على الشرق الأوسط، وكأن الشرق الأوسط متماسكًا لدرجة أن الغرب يريد تقسيمه.
الجانب الآخر يرى أن هذه الأطروحات لا تعدو كونها أساطير متخذة للدفاع عن الأنظمة البالية القائمة بتصوير أن مؤامرة خارجية هي من ستصنع هذا التغيير، وتشكيكًا للشعوب في إرادتهم في صنع تغيير، فالأمر في المذهب هذا لا يعدو نظرية مؤامرة مسيطرة على عقول الطغاة وأتباعهم يتخذونها كخط دفاع أولي إذا ما قامت عليهم ثورات، وهذا الفريق ينكر تلك الأطروحات بالكلية، معتبرين أن هناك أمور في العالم جديرة بكل هذا الاهتمام أكثر من مجموعة من الشعوب في العالم الثالث بالنسبة للغرب الذي يسيطر بالفعل على مواردهم.
بين هذه الرؤية وتلك نقيضتها يقف الباحثون في هذا المجال أمام مجموعة من التساؤلات التي تتعلق بهذا الأمر فإذا كان أصحاب نظرية المؤامرة الكونية على حق فلما تحدث الأمور التي تسير في عكس اتجاه هذه المنظومة الأسطورية التي يتحدثون عنها؟، كهزيمات اقتصادية أو سياسية أو عسكرية، ولكن إجاباتهم تتراوح بين ترديد عبارات يؤكدون فيها أن هذه مناورات من الحكومات السرية لإيهامنا بأ، مجريات الأمور تسير بدون تحكم.
من ناحية أخرى إذا كانت هذه الأطروحات مجرد درب من العبث وحكايات أسطورية، فما هو الهدف من تشكيل بعض الأندية والمنظمات العالمية الغير محددة الأهداف التي تجمع بعض الشركات والإمبراطوريات الاقتصادية وبعض ساسة العالم المخضرمين؟، وماذا يدور في هذه الاجتماعات؟، وما هي أهدافها؟، ولماذا يصرون على أن تكون غير معلنة؟، الإجابة على هذه الأسئلة في وجهتي النظر ربما يمكنا من وضع أطروحة موضوعية عن ما يسمى بالحكومات السرية دون التهوين أو التهويل.
حقيقة حكومة بيلدربيرج السرية
أحد تلك الحكومات وأشهرها التي يتحدث عنها مروجي هذه النظرية هي حكومة “بيلدر بيرج” السرية، بالتأكيد نحن نفتقر إلى الأبحاث الموضوعية في هذا الصدد وربما لا نعلم حقيقة هذه التجمعات والأهداف التي تعمل عليها، وما علاقتها بالاقتصاد العالمي، كما أن ما يزيد من الأمر صعوبة في الحصول على معلومات تخص هذه الناحية هي اختلاط الأساطير بالحقائق وإضفاء بعد عقدي وديني على الأمر.
المعلومات المتوفرة عن مجموعة “بيلدر بيرج” شحيحة، ولكن يعتقد أنها تكونت في أوائل الخمسينيات من القرن التاسع عشر في هولندا برعاية الأمير “بيرنارد” من الأسرة المالكة الهولندية، وعمدت إلى أن تكون اجتماعتها بشكل سري واخذت اسمها من اسم الفندق الذي اجتمعت به لأول مرة “بيلدربيرج” في مدينة “استربيك” الألمانية.
يُروج أصحاب نظرية المؤامرة عن هذه المجموعة أو حكومة الظل في العالم كما يجبون أن يطلقوا عليها وهي التي تحكم العالم فعليًا عن طريق تحكمها المطلق بكل ما له علاقة بالشأن الاقتصادي و السياسي العالمي، وذلك لتحقيق أهداف أعضاء المجموعة، وبالحديث عن الأعضاء التاريخيين للمجموعة أو لحكومة الظل يذكر اسم رجل الأعمال الأمريكي الشهير “ديفيد روكافيلر” وعائلة “روتشيلد” رواد البنوك العالمية، وساسة أمريكيون أمثال كسنجر في الماضي ورامسفيلد، بالغضافة لمجموعات من المريدين العرب وغير العرب.
اجتماعات هذه الحكومة سرية إلى حد ما، رغم اجتماعها سنويًا بشكل شبه دوري في مختلف بلدان العالم، حيث يجتمع الأعضاء والمدعوون في عدد من المدن الرئيسة حول العالم سنويًا، بهدف مناقشة قضايا لها تأثير على المشهد العالمي اقتصاديًا وسياسيًا، ويزعم المؤمنون بنظرية المؤامرة أن لذلك علاقة بسيطرتهم على منابع النفط والطاقة حول العالم على وجه التحديد، ليستمر نفوذهم مع هذه السيطرة.
أما بالبحث عن معلومات عن جدوال الأعمال لتلك التجمعات، وجدنا أن المنشور هذا العام عن تجمع حكومة “بيلدربيرج” في النمسا يضم المجالات محل النقاش لهذا العام، وكل ما نعرفه هو أنها سوف تناقش موضوعات مثل “الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني وتهديدات الأسلحة الكيميائية، قضايا معاصرة في الاقتصاد، العولمة، اليونان، إيران، الشرق الأوسط، حلف شمال الأطلسي، روسيا، الإرهاب، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة الأمريكية، الانتخابات الأميركية “.
الحضور في اجتماع هذا العام من المملكة المتحدة “جورج أوزبورن” و”إد بولز”، كذلك رئيس المفوضية الأوروبية السابق “خوسيه باروسو”، ومجموعة من المديرين التنفيذيين لكبرى الشركات العالمية في مختلف التخصصات كشركة “جوجل” وشركة “شيل” وممثلين عن دويشته بنك.
هذه هو المتوافر عن هذا الاجتماع في هذا العام على سبيل المثال، ولا يمكنك أن تعرف أكثر من هذا، فالصحفيون من جيمع أنحاء العالم يعجزون عن اختراق مكان هذا الاجتماع، بسبب التأمين الشرطي المبالغ فيه حول الفندق المقام فيه هذا الاجتماع، بالإضافة إلى التعاون الاستخباراتي بين كافة الدول التي ترسل ممثيلها في هذا الاجتماع لمنع تسرب أي معلومات من الداخل، فما يحدث في الداخل ألغاز لا يستطيع أحد التحدث عنها، وقد تمت مجموعة اعتقالات للعديد من الصحفيين الذين حاولوا الوصول لمعلومات عما يصدر بالداخل، حيث لا حديث عن تفاصيل ما يتم مناقشته، حتى السياسيين يمتنعون عن التصريحات الصحفية لوسائل الإعلام.
تعود هذه السرية المفروضة إلى أن العادة تقول أن تفاصيل معظم مؤتمرات القمة والاجتماعات الدولية تميل إلى أن تكون مبهمة إلى حد كبير، ولكن يتم عادة الإعلان بشكل عام لما تم التوصل إليه نهائيًا، لكن دون وجود أية تفاصيل، لذا يعرف العالم أماكن تجمع هذه الحكومة السرية وأعضائها وعناوين مناقشتهم الرئيسية، لكنه لا يمكننا معرفة ما يدور داخل اجتماعاتهم.
على الجانب الآخر لا يرى بعض المفكرين والمحللين أن لمثل هذه الاجتماعات أهمية كبرى، فسرديتهم التاريخية عن هذه المجموعة بالتحديد تقول أنها تأسست عام 1954 في محاولة للتقريب بين قادة أوروبا الغربية والولايات المتحدة لمواجهة تعزيز الاتحاد السوفيتي سيطرته على الكتلة الشرقية، فتفسير نشأة هذه المجموعة يعود إلى مواجهة المد الشيوعي في العالم بحسب وجهة نظرهم.
لكن أرباب نظرية المؤامرة لا يكفون عن ترديد أقاويل عمل مثل هذه المجموعات وفق أجندة غالبية أهدافها سرية، ويؤيدون نظرتهم بأن مثل هذه الحكومة تتحفظ في إعلان توصياتها التي تخرج بها من تلك الاجتماعات و لا تقوم بالتعليق على أي من التفاصيل التي تناقش و تدور بسرية تامة و خلف الأبواب المغلقة في الفنادق التي يتم حجزها بالكامل لاستضافة أعضاء المجموعة و جلساتهم الرئيسة و الجانبية.
فلا يتحدث هؤلاء إلا عن أحلام الدولة العالمية الموحدة وفق نظريتهم، مؤكدين أن الاتحاد الأوربي هو أحد خطوات هذه العولمة الفجة، مؤكدين أن الأمر سيتم عن طريق الشركات متعددة الجنسيات التي تعتبر هي الحاكم الفعلي للعالم الآن، وفي جانب الشركات المتعددة الجنسيات يمكن أن يتفق الطرفان لأول مرة في تفسير التنسيق بين هذه الشركات.
فمن ضمن الحضور في هذه التجمعات شركات مايكروسوفت، وشركات كوكاكولا وشركات عالمية رائدة أعطينا لها أكثر من مثال، ولكن الأمر عند المؤمنون بوجود حكومة الظل لا يفسر الأمر بأنه سيطرة اقتصادية وتنسيق فحسب ولكنه يعتبر أن الأمر مؤامرة متكاملة الأركان تستخدم كل الأدوات لإخضاع العالم لسيطرتهم، عبر ترويج مصطلحات حروب الجيل الرابع وغيرها من الأدوات التي في نظرهم هي أسلحتهم في السيطرة على العالم.
يرى المشاركون في هذه الاجتماعات فيما يروج عنها أنها مجرد هراء تآمري، حيث يصرون أن هذه مجرد لقاءات خاصة تنطوي على مناقشات غير رسمية حول القضايا الرئيسية التي تواجه العالم وليس أكثر من ذلك .
وعلى الرغم من ذلك لا تكف محاولات الصحفيين عن اختراق هذا العالم في كل عام عبر العديد من الطرق التي يتصدى لها الأمن عادة، ولكن كل هذا المجهود في سبيل كشف حقيقة هذا الأمر بين النظريتين التي تتبنى إحداهما وجهة نظر تقول أن هذه التجمعات هي مكامن الشر في العالم، وترى الأخرى أن الأمر لا يعدو كونه تنسيقًا لمواجهة التحديات المشتركة.