ترجمة وتحرير نون بوست
كان صوت الرجل نشيطاً ومنخفضاً على الجانب الآخر من الخط، وهو يتلو تقريره من القلب المظلم للعاصمة التي نصبت الدولة الإسلامية نفسها عليها، المدينة السورية الشمالية الشرقية، الرقة.
أوضح الرجل في تقريره أن شرطة الدولة الإسلامية منتشرة في الساحة الرئيسية لمدينة الرقة، ويقومون بإيقاف المارة عشوائياً والبحث والتدقيق في هواتفهم النقالة، واعتقلوا شخصين من هناك، كما أقام مقاتلو الدولة الإسلامية أيضاً حواجز تفتيش إضافية على الطرق المؤدية للمدينة، ويتعاملون مع المارين بطريقة مزاجية وعصبية.
“لا تتصلوا بي مرة أخرى حتى أتصل بكم” قال الرجل على الجانب الآخر من الخط، الذي بدا متوتراً وعصبياً أيضاً، قبل أن يغلق الخط، وتتحول شاشة الهاتف المحمول التي كانت تظهر اسم “مراسل الرقة 3” إلى اللون الأسود، في مدينة غازي عنتاب التركية التي تبعد أكثر من 200 ميل عن موقع المراسل.
مثل هذه المكالمات تشكل خطر محدقاً وكبيراً على شبكة الناشطين السريين الذين يعيشون تحت سيطرة الدولة الإسلامية، والذين يشكلون شريان الحياة لمجموعة تسمى “الرقة تذبح بصمت”، مهمتها فضح فظائع الدولة الإسلامية من خلال النشر على شبكات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر.
الشبكة تضم حوالي 20 ناشطاً سورياً، بدأوا حياتهم المهنية كناشطين إبان الانتفاضة السورية ضد الرئيس بشار الأسد في عام 2011، وحالياً أصبحت شبكة “الرقة تذبح بصمت”المصدر الرئيسي للأخبار والمعلومات حول الحياة في ظل الدولة الإسلامية في الرقة.
أطلق الناشطون حملتهم في أبريل 2014، في الوقت الذي كان فيه العالم لا يزال غافلاً عن التهديد الذي يشكله المتطرفون الذين اقتحموا سورية، وقطعوا رؤوس معارضيهم، وصلبوا نقادهم، وفرضوا عقوبات قاسية أخرى، وكلمة “بصمت” التي وجدت طريقها إلى اسم المجموعة، تصور شعور التخلي الذي أحس به العديد من السوريين الذين شاهدوا بهلع اختطاف ثورتهم من أجل التغيير الديمقراطي من قِبل الجهاديين المتوحشين، ولكن شبكة “الرقة تذبح بصمت” تدعي الفضل في تغيير هذا الواقع.
“الآن لم تعد الرقة تذبح في صمت”، قال أبو إبراهيم الرقاوي، أحد مؤسسي المجموعة، الذي كان يتحدث إلينا عبر سكايب من مكان غير معلوم، وتحت اسم مستعار، وأضاف “بفضل هذه الحملة، أصبح العالم بأجمعه يعرف عن الرقة وحقيقة داعش”.
الدولة الإسلامية (داعش) لعبت من جانبها دوراً في بث الفظائع التي ترتكبها، جنباً إلى جنب مع بث مقاطع الفيديو الدعائية المصممة ببراعة، والتي تصور الحياة في ظل حكم الدولة الإسلامية على أنها وردية ومثالية، وهنا تلعب شبكة الرقة دوراً هاماً في جسر الهوة الكبيرة ما بين الواقع والخيال، حيث تقوم بتقديم رواية بديلة عن الحياة تحت كنف الدولة الإسلامية داخل الرقة.
ويوضح حسن حسن، المؤلف المشارك في كتاب “داعش: داخل جيش الإرهاب” بقوله “هؤلاء الناشطين يخاطرون بحياتهم ليقدموا لنا معلومات حية قادمة من أرض الواقع، فما لا نريده حقاً هو اقتصار سرد الواقع على رؤية داعش له، مما يجعل العالم الخارجي يقول إنه لا يوجد ما يشير إلى أن الناس ليسوا سعداء تحت حكم داعش”.
أبو محمد، 26 عاماً، طالب سابق في كلية الحقوق وأحد مؤسسي الجماعة، يعمل في مكتب المجموعة الصغير في غازي عنتاب، ويتفق مع حسن بأن نشر الحقيقة من أرض الواقع هو أحد الأهداف الرئيسية للمجموعة، ويشير بأن صفحة المجموعة على تويتر يتابعها حوالي 23.000 متابع من الدبلوماسيين، والصحفيين، وحتى من المسؤولين في البنتاغون، كما أن صفحتهم على الفيسبوك تمتلك أكثر من 39.000 معجباً، ويوضح أبو محمد أن بعض متابعي صفحة الشبكة على الفيسبوك هم من السوريين الذين يعيشون في ظل حكم الدولة الإسلامية، والذين لا يجرؤون الضغط على زر “أعجبني”، خوفاً من كشفهم واعتقالهم، ويشير أبو محمد أن الجمهور الذي تستهدفه الشبكة، هم هؤلاء الغاضبين الذين يعيشون تحت حكم الدولة الإسلامية، وربما يشعرون بألّا صوت لهم، كما يأمل الفريق أيضاً أن تعمل تقاريره على ردع طموح المقاتلين الأجانب الذين قد يشعرون برغبة مغرية للتطوع في صفوف داعش.
يشير أبو إبراهيم أن المجموعة أصبحت مصدر إزعاج للدولة الإسلامية، ويمكن استنتاج ذلك من شجب أئمة داعش للمجموعة في صلاة الجمعة، والمحاولات المستمرة والمتكررة لتعطيل الشبكة، حيث تم اختراق حسابها على تويتر، كما تم إغلاق صفحتها على الفيسبوك في عدة مناسبات سابقاً، إبان شكاوى قدمها العاملون أو المتعاطفون مع الدولة الإسلامية خلسة، تدعي أن صفحة المجموعة تنتهك قوانين الفيسبوك، من خلال نشر مقاطع فيديو أو صور عنيفة.
أعلن مسلحو داعش مؤخراً أنهم ركبوا كاميرات مراقبة في الرقة لإلقاء القبض على الناشطين الذين يعملون لصالح جماعات تشبه جماعة الرقة تذبح بصمت، وفقاً لتغريدة نشرها أحد أعضاء داعش في حسابه على تويتر، وسواء كان هذا الأمر صحيحاً أم لا، فإن هذه التهديدات دفعت أعضاء المجموعة للتعامل والعمل بشكل حذر، واعتماد السرية بشكل أكبر في مجال عملهم، حيث يعمل هؤلاء الناشطون في هيكلية تشبه تنظيم الخلايا؛ فالنشطاء داخل سورية لا يعرفون بعضهم البعض، وبذلك لن يستطيعوا الإقرار على بعضهم في حال تم القبض عليهم وتعذيبهم للكشف عن الأسماء، كما تستخدم المجموعة برمجيات مشفرة للتواصل فيما بينها، فضلاً عن أن الناشطين لا يجاهرون بانتمائهم للمجموعة حتى لأفراد أسرتهم، ناهيك عن أنهم يبدلون أماكن إقامتهم بشكل مستمر، وفقاً لما قاله أحد أعضاء الجماعة، الذي يستخدم اسماً مستعاراً، تيم رمضان، والذي كان يرسل تقاريره حتى الشهر الماضي من مدينة البوكمال على الحدود السورية العراقية.
يتم إرسال التقارير إلى مكتب المجموعة في غازي عنتاب، حيث يعمل أبو محمد وحوالي نصف دزينة من الناشطين على مدار الساعة لنشر التقارير على وسائل الإعلام الاجتماعية، علماً أن المجموعة تتلقى تمويلاً من منظمة أمريكية غير حكومية، لم يتم الكشف عنها علناً بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة.
تم ارتكاب أخطاء في عمل المجموعة، وكانت نتائج هذه الأخطاء مأساوية وقاتلة؛ ففي غضون أيام من تشكيل الشبكة، تم اعتقال أحد مؤسسيها، معتز بالله، عند نقطة تفتيش تابعة للدولة الإسلامية، بعد أن عثروا في هاتفه المحمول على مقاطع فيديو وصور تثبت نشاطه، وبعد شهر من اعتقاله تم إعدامه.
في حالة أخرى، بثت المجموعة في العام الماضي مقطع فيديو مُرسل من قبِل مواطن عادي، يصور غارة جوية للتحالف على بلدة تل أبيض الحدودية، وكان صوت الرجل مسموع بوضوح في المقطع، حيث استخدمت الدولة الإسلامية موقع تصوير الفيديو للتعرف على صاحب الصوت و إلقاء القبض عليه، ولم يُسمع عنه منذ ذلك الحين.
“أي خطأ يعني الموت، إذا تم القبض عليك، سيتم قتلك”، قال أبو محمد، الذي قضى أسبوعاً في أحد سجون الدولة الإسلامية في عام 2013 بتهمة التقاط الصور لمقاتلي الدولة، وذلك قبل أن يشتد عود الدولة وتتوسع على النحو الذي أصبحت عليه الآن.
التحقق من دقة التقارير التي تنشرها المجموعة عادة ما تكون عملية مستحيلة، لأن الوصول إلى المعلومات في المناطق التي تسيطر عليها الدولة الإسلامية صعب للغاية، ولكن مع ذلك، كثيراً ما ثبتت صحة المعلومات التي تنشرها الشبكة؛ فأحد التقارير الصحفية التي قامت الشبكة بنشرها في تموز الماضي، كان يتضمن وصفاً مفصلاً عن عملية أمريكية سرية لتحرير الرهائن الأمريكيين المحتجزين في مكان سري شرق الرقة، حيث قامت الشبكة بنشر تفاصيل العملية قبل أكثر من ستة أسابيع من اعتراف إدارة أوباما بفشل الغارة؛ فبعد تدمير أسلحة التنظيم المضادة للطائرات، لم تعثر القوات الخاصة الأمريكية على السجناء، بما في ذلك الصحافي جيمس فولي، الذي تم قطع رأسه من قبل التنظيم في وقت لاحق.
وفي حادثة أخرى، عندما قبض مسلحو داعش على الطيار الأردني في نهاية العام الماضي، ذكرت شبكة الرقة بأنه تم إعدامه في غضون أيام قليلة من اعتقاله، وفعلاً، وبعد مرور أكثر من شهر، انتشر مقطع فيديو يصور الوحشية التي تم فيها إحراق الطيار الأردني، وأكدت المخابرات الأردنية أن الملازم معاذ الكساسبة قُتل بالفعل في وقت قريب من الوقت الذي ذكرته شبكة الرقة.
منشورات الشبكة بشكل عام تركز على سير الأمور الحياتية في الرقة، كانقطاع التيار الكهربائي، أو طوابير الخبز، أو حالات نقص الغذاء والدواء، وجميع التفاصيل اليومية التي تكشف عن أن الحياة في ظل الدولة الإسلامية أقل مثالية ووردية مما يصوره التنظيم في تقاريره، كما تنشر الشبكة تقارير حول تفاصيل ضربات التحالف الجوية، ووجهت في إحدى المرات انتقادات لناشطين آخرين تنتقدهم فيها لتضخيم حصيلة هذه الضربات.
يصر أبو محمد أن أعضاء المجموعة لا يعتبرون أنفسهم صحفيين، بل ناشطين، هدفهم إسقاط نظام الأسد والدولة الإسلامية على حد سواء، وأشار أن العديد منهم قضى فترات حبس متفاوتة في سجون النظام لمشاركتهم في ثورة 2011، لذا فإن جميع الناشطين يرون أن هدفي إسقاط داعش والنظام لا ينفصلان.
“نحن نشطاء غير عنيفيين، لا يمكننا محاربة داعش بالسلاح، يمكننا فقط محاربتهم بالكلمات” قال أبو محمد، وأضاف “حتى يستطيعوا أن يهزمونا عليهم إغلاق شبكة الإنترنت، وهم لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك، لأن التنظيم ذاته يستخدم الإنترنت”.
المصدر: واشنطن بوست