حين يأتي ذكر منطقة الشرق الأدنى، غالبًا ما يتم الحديث عن الثقافات الثلاث العربية والفارسية والتركية باعتبارها المثلث الرئيسي الذي شكل ملامح المنطقة طوال الألف سنة الماضية، نظرًا لغلبة أعداد المنتمين لهم ديموغرافيًا، بين حوالي 350 مليون منتم للثقافة العربية، وحوالي 80 مليون للثقافتين الإيرانية والتركية، وبينما تتمركز أقليات ثقافية مثل الأمازيغ والنوبيين على هامش المنطقة جغرافيًا، وبأعداد صغيرة نسبيًا، فإن الأكراد، البالغ عددهم حوالي 30 مليونًا، يُعَدون استثناءً لهذه القاعدة، إذ يعدهم البعض ضلعًا رابعًا وصغيرًا للمثلث الإقليمي.
لطالما شكل غياب الدولة القومية حاجزًا أمام الأكراد لإثباث حضورهم في الساحة سياسيًا وعسكريًا في القرن العشرين، وهو أمر طبيعي بالنظر لهيمنة الدول على مقدرات المنطقة والعالم بأسره، ومركزيتها للفعل السياسي طوال القرن الماضي، بيد أن ما يجري مؤخرًا، والتفكك الذي طال المنظومة القومية التي رسمها الاستعمار الأوروبي في المنطقة العربية، قد خلق فراغًا كبيرًا في العراق والشام أدى إلى ظهور كيانات غير قومية، أبرزها بالطبع دولة الإسلام في العراق والشام (داعش)، وكذلك حضور الأكراد، والذي وإن ينتشر في مناطق تركزّهم ديمغرافيًا، إلا أنه يظل غير قومي بالمعنى التقليدي.
السؤال هنا هو: ماذا لو حصل الأكراد على دولة قومية بالمعنى التقليدي؟ ما هو مستقبل تلك الدولة؟ وهل تفيدهم أصلًا أم تضرهم؟ هل يحتاج الأكراد دولة في هذه اللحظة أم أنهم قد وجدوا طريقًا لإثبات حضورهم التاريخي على الساحة بشكل متجاوز للدولة القومية؟
من هُم الأكراد؟
تعداد الأكراد في البلدان الأربعة الرئيسية التي يتركزون فيها
هُم واحدة من الشعوب المنتمية عرقيًا ولغويًا إلى الشجرة الإيرانية، حيث تُعد لغتهم جزءًا من مجموعة اللغات الإيرانية الشمالية الغربية، وهي تنقسم إلى ثلاث لهجات (أو لغات) رئيسية، أبرزها الكورمانجي (الشمالي)، ويتحدثها حوالي 15 أو 20 مليون بجنوبي شرقي تركيا وشمال العراق وجنوبي غربي إيران، والسوراني (الوسطى) ويتحدثها حوالي 6 أو 7 ملايين في كردستان العراق وإيران، والبهلواني (الجنوبي) ويتحدثها حوالي ثلاثة ملايين بولايتي كرمانشاه وإيلام في إيران، أضف لذلك الگوراني والزازا، وهما لغتين غير كرديتين تتحدثهما مجموعات كردية عرقيًا في إيران وتركيا.
على الرُغم من تصنيف تلك اللهجات كلهجات للغة الكردية، إلا أنها تتسم بفروق كبيرة دفعت الكثير من الباحثين الغربيين إلى تصنيفها كلغات مختلفة، بل إن هناك من يقول أن البعض من بين متحدثي السوراني والكورمانجي لا يفهم بعضه البعض بسهولة، وأن الفرق بينهما يصل إلى الفرق بين اللغتين الألمانية والإنجليزية، وإن كان آخرون من نقاد التمركز حول النظرة الغربية للغات قد انتقدوا ذلك، قائلين أن الفروق بين اللهجات في اللغات الشرقية عادة ما تكون واسعة، مثل الفرق بين اللهجتين الخليجية والمغاربية في اللغة العربية مثلًا، أو الفروق بين اللهجات الصينية، وهكذا.
في الحقيقة، ورُغم الخلاف حول التصنيف اللغوي، إلا أن الأصل المشترك للهجات ارتباطها العرقي بالأكراد، بالإضافة إلى رؤية الأكراد لأنفسهم كإثنية واحدة، عادة من يميل بالكفة نحو اعتبار الكورمانجي والسوراني لهجتين للغة واحدة، إلا أن هذا لا يمنع بالطبع أن الفروق تنعكس على الهويات الداخلية، أو الهويات ما دون الكردية إن جاز القول، والتي يكون لها تأثير سياسي، كما تشي بذلك الحالة العراقية مثلًا، حيث يميل معظم متحدثي الكورمانجي إلى حزب كردستان الديمقراطي الذي يقوده مسعود برزاني، في حين يميل الكثير من متحدثي السوراني إلى الاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة جلال طالباني.
توزيع لهجات الأكراد: كورمانجي (أحمر فاتح) سوراني (أحمر) بهلواني (أحمر داكن) زازا (أصفر) گوراني (برتقالي) مناطق مختلطة (أخضر)
ليست تلك فقط هي الفروق ما بين الأكراد، بل إن العيش لعقود طويلة في بيئات مختلفة قد خلق اختلافات بين ثقافات الأكراد في تركيا وإيران والعراق وسوريا، فالسوراني يُكتَب بحروف عربية وفارسية نظرًا لرواجه بالأساس في العراق في إيران، في حين يُكتَب الكورمانجي بالحروف اللاتينية نظرًا لتمركزه بجنوبي شرقي تركيا، كما أن القوى السياسية والعسكرية الموجودة هنا وهناك تخلق أحيانًا توترًا سياسيًا بين الأكراد أنفسهم، فحزب العمال الكردستاني بقيادة عبد الله أوجلان، والمتمركز في جنوب تركيا وشمال سوريا، يعَد ندًا أساسيًا لحزب كردستان الديمقراطي الذي يقوده بزراني ويسيطر بشكل كبير على حكومة كردستان الإقليمية بشمال العراق، ورؤاهما كذلك لماهية أهداف الأكراد تختلف بشكل كبير، كما تشي بذلك سياساتهما وتكتيكاتهما ناحية الحكومات الأربعة التركية والإيرانية والسورية والعراقية.
الحسابات الكردية المعقدة
في الثالث من يوليو المنصرم، دعا رئيس وزراء حكومة كردستان العراق، مسعود برزاني، البرلمان الكردي إلى تحضير مسودة لإعلان استقلال كردستان في أي لحظة، لا سيما بعد موقفه القوى على الأرض، الذي عززه الدعم الدولي والإيراني في مواجهة داعش، بعد أن كانت إيران تتعامل معه بتحفظ خوفًا من النزعات الانفصالية لديها، وبعد أن سيطرت قوات البشمركة على مدينة كركوك الغنية بالنفط، والتي كانت قبل ذلك في أيدي الحكومة العراقية قبل ظهور داعش القوي على الساحة.
لربما أحدث هذا القرار نوعًا من اليوفوريا بين الأكراد من مؤيدي فكرة الاستقلال القومي وتشكيل دولة منفصلة، بيد أن الواقع على الأرض، وبنظرة بعيدة المدى، يشي بأن المسائل ليست وردية كما يبدو، والسبب الرئيسي هو أن الفصيلين الكرديين الأساسيين، حزب كردستان الديمقراطي بقيادة برزاني وحزب العمال الكردستاني بقيادة أوجلان، في صراع طويل يعود إلى الحرب الأهلية الكردية التي قامت في العراق بين حزب كردستان الديمقراطي والاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة طالباني في التسعينيات، وهو الصراع الذي مال فيه أوجلان لصالح طالباني لإضعاف برزاني.
الخارطة السياسية بين بزراني وأوجلان وطالباني، وحركة گوران في كردستان العراق، وحزب الشعوب التركي HDP وثيق الصلة بأوجلان، وحزب هدى پار الكردي الإسلامي المستقل
مع مطلع القرن الجديد، تغيرت الصورة تمامًا، إذ أعلن حزب العمال في تركيا الهدنة عام 2004 نظرًا لضعفه الشديد، وبدأ يفقد بريقه لصالح حزب العدالة والتنمية الذي اهتم بالمناطق الكردية، في حين قفز برزاني بحكومة كردستان بعد غزو العراق وأصبح قاب قوسين أو أدني من الهيمنة على تمثيل الأكراد إقليميًا ودوليًا، لا سيما مع انفتاحه على أردوغان، والذي وجد في جهوده لاحتواء حزب العمال فرصة لبسط سلطانه الكردي تمامًا، بل وحل المسألة الكردية في تركيا عن طريق أربيل بشكل يغلق الطريق تمامًا أمام بروز حزب العمال من جديد.
لسوء حظه، تلقت تلك الاستراتيجية ضربة قوية مع اشتعال الثورة السورية والمسار الذي اتخذته، بما سمح لمعاقل حزب العمال في شمال سوريا بأن تشكل نطاق سلطانها الخاص (روجافا) وتبدأ في خلق نواة لنظام حكم ذاتي يناطح كردستان العراق، وهي قوة كانت في خلال عامين قد بدأت في التكشير عن أنيابها تجاه برزاني وحزبه، حيث قامت بحملة عبر منابرها الإعلامية ضد هيمنة حزب كردستان الديمقراطي في شمال العراق، ودعمت حركة التغيير الشبابية الكردية “گوراني” التي نافست الحزب في انتخابات كردستان العراق، مما أتاح لها أن تحل ثانية بعد الحزب في ظهور قوي أزاحت به الاتحاد الوطني الكردستاني للمركز الثالث، والذي يعاني كثيرًا نظرًا لتمركزه حول شخص طالباني الذي تدهورت صحته في السنوات الأخيرة.
زاد الطين بلة تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية في جنوب تركيا نتيجة ما جرى في كوباني، مما سمح لحزب الشعوب الديمقراطي بقيادة صلاح الدين دميرطاش، وثيق الصلة بحزب العمال، أن يحدث فوزًا غير مسبوق بدخوله البرلمان التركي وعبور حاجز الـ10٪، وبالتالي تعقيد حسابات عملية السلام التي كان أردوغان يود حصرها بين أنقرة وأربيل، والدعم الذي اضطرت البشمركة أن تقدمه للمجموعات الكردية الموالية لأوجلان في سوريا بمواجهة داعش باعتبارها أقل سوءًا وأكثر ضعفًا من الأخيرة والتي اتسعت رقعة أراضيها بشكل سريع في غضون عام.
الدولة الكردية: شبح جنوب السودان
مناطق تمركز الأكراد بالأحمر، ونطاق سلطة حكومة كردستان العراق بالأخضر، وسلطة روجافا القريبة من حزب العمال الكردستاني في شمال سوريا بالأصفر
باستمرار تلك الحسابات المعقدة، يعني هذا ببساطة أن مقومات الدولة القومية غير موجودة على الأرض نظرًا لتصارع عناصرها مع بعضها البعض بشكل أشبه بسيناريو جنوب السودان، والذي عزز من دعايا الانفصال عن السودان لسنوات دون أن يدرك أنصار استقلاله أنه لا يملك بنيانًا متماسكًا يمكن للدولة القومية أن تنبت منه، ولكن فصيلين عسكريين على الأرض لم تكن العداوة بينهما بادية نظرًا لتركيزهما على عدوهم المشترك، وهو ما أشعل صراعًا جديدًا بالطبع بينهما فور الإعلان عن استقلال جنوب السودان.
بالمثل، يدرك برزاني أن فرصته التي أتيحت له حتى 2013 لم تكتمل نتيجة صعود داعش وتقدم حزب العمال في مرحلة ما بعد كوباني، وهو ما يعني أن إعلان الدولة بأي شكل سيضر به كثيرًا، وقد يخلق صراعًا آخر بينه وبين أوجلان يستنزف قوته، والتي يريد تركيزها حاليًا في مواجهة داعش، بل ويمكن القول أن اللحظة التي ستصبح فيها داعش بعيدة نسبيًا عن كردستان العراق، ستبدأ الحسابات في أربيل بالتركيز على روجافا مجددًا واستراتيجية احتوائها وإضعافها بالتعاون مع تركيا.
تباعًا، ولفترة طويلة، لا يبدو أن سيناريو الدولة سيكون متاحًا الآن، ولا يبدو أنه سيحقق للأكراد ما حققه لهم وجودهم المتداخل مع العراق وسوريا وإيران في السنوات الأخيرة، حيث أعطى غياب إطار رسمي لهم في الحقيقة مساحة من المرونة في تبني المواقف السياسية إقليميًا، بل ويمكن القول أن ثمة نموذج كردي قيد التشكل حاليًا قد يكون مثالًا في المستقبل لكيفية تحقيق وجود سياسي واقتصادي وعسكري خارج إطار الدولة القومية الكلاسيكية، وهو نموذج قد تقتله تمامًا فكرة الدولة القومية في هذه اللحظة بالذات التي تضطرب فيها الحسابات الكردية أكثر من سواها.
بينما يتحدث الجميع عن ما بعد الدولة وما بعد القومية ونهاية المنظومة القومية في المنطقة، لن يكون قرارًا حكيمًا أن تقفز أربيل، أو غيرها ممن يدعي تمثيله للأكراد، إلى القرن العشرين باحثة عن دولة لها ستكون حينئذ دولة قديمة أولًا، ومفككة ثانيًا، إما بوجود معظم الأكراد خارجها أصلًا، أو بظهور صراع فيها بين فصائلها المختلفة، فالخيار الأفضل حاليًا هو أن تبقى أربيل في القرن الحادي والعشرين، وتحتفظ بحكمها الذاتي ومكتسباتها التي سيعززها أصلًا ضعف الحكومة العراقية، حتى تتبين ملامح جديدة للمنطقة، ويظهر في الأفق إطار جديدًا للوجود الكردي يحقق طموحات وآمال الأكراد بشكل أفضل كثيرًا من دولة قومية تقليدية.