ترجمة وتحرير نون بوست
خلال شهري نوفمبر من عامي 2008 و2012، فرصة انتخاب رئيس أسود، ومن بعدها إبقائه في منصبه، استولت على الحي الذي تعيش فيه ريجينا موتلي.
حينها، كانت النوادي الليلية تقوم بتسجيل الناخبين، والكنائس وزعت السمك المقلي بعد حشر الرعية في الحافلات التي نقلتهم إلى صناديق الاقتراع، والشاحنات في الشوارع رفعت لافتات كبيرة كُتب عليها “أوباما”، وانتظر السكان في طوابير طويلة في الدوائر الانتخابية في جميع أنحاء الحي.
ولكن مع تقدم الوقت بعد انتخاب أوباما، لاحظت موتلي وبعض أصدقائها أن مشهد الحي بقي كما هو، مساحات فارغة، وبيوت مهجورة، مما دفعهم للتساؤل: هل علينا أن نزعج أنفسنا ونذهب للتصويت في المرة القادمة؟
“ما هو الهدف من تصويتنا؟” تساءلت موتلي، 23 عامًا، موظفة في متجر للبقالة، وأردفت قائلة “لقد كتبنا التاريخ، ولكني لا أرى أي تغيير”.
على الجانب الشمالي من مدينة جاكسونفيل، وفي الأحياء الحضرية الأخرى التي تكافح في جميع أنحاء البلاد، استقطب باراك أوباما أعدادًا كبيرة من الناخبين الأمريكيين الجدد من أصل أفريقي، والذين أُخذوا بسيرته الذاتية وطموحاته، ولكن آمالهم الكبيرة أضحت إحباطًا، فحتى الرئيس الأسود لم يستطع معالجة مشاكل هذا الأحياء، التي لا تزال أعمال العنف والمخدرات والبطالة تهيمن عليها.
التحولات الديناميكية، التي ضجت بأمريكا في الأشهر الأخيرة، إبان اضطرابات بالتيمور وفيرغسون وميسوري، تضع هيلاري رودهام كلينتون، المرشح الديمقراطي الأوفر حظًا لمنصب الرئاسة، أمام خيارات صعبة وصارخة؛ ففي الوقت الذي كانت فيه حملة دعم أوباما قضية شخصية للكثير من الأشخاص في أحياء السود، بدلًا من كونها حملة انتخابية عادية، تواجه كلينتون ضغطًا عاليًا لتصوير نفسها أيضًا، على أنها شخصية إصلاحية وتحويلية.
حملة كلينتون يجب أن ترتكز على بناء تحالف متعدد الأعراق، وهو التحالف ذاته الذي آزر أوباما في حملته، وبغض النظر عن تركيزها على كونها أول أنثى في مقعد رئيس الجمهورية الأمريكية، فعلى كلينتون أن تحاول أيضًا توليد حماس مشابه لذلك الذي استطاع أوباما خلقه بين الناخبين الجدد، أي الناخبين الذين كانوا أصغر سنًا من أن يصوتوا لأوباما، أو الذين لم يسبق لهم التعاطي بالانتخابات والأمور السياسية.
ولكن في الوقت الذي يستعد فيه حلفاء كلينتون لتسجيل الناخبين، وتوسيع رقعة ناخبيها السود، يتواجه ترشيح كلينتون لمنصب الرئاسة بسؤال جوهري تطرحه هذه القاعدة السوداء، يتمثل بالتساؤل التالي: إذا كانت رئاسة أوباما لم تساعد الأمريكيين الأفارقة، فكيف إذن يمكن لكلينتون أن تساعدهم؟
“إنها تركز على القضايا الصحيحة”، قال القس لي هاريس من كنيسة جبل الزيتون البروتستناتية المعمدانية الواقعة في شمال جاكسونفيل، وأضاف “ولكن هنا في جاكسونفيل التركيز على هذه القضايا لن يكون كافيًا”.
أظهرت كلينتون في الأسابيع الأخيرة أنها تعتزم طرح قضايا الأمريكيين الأفارقة، لا سيّما قضايا أولئك الذين يعيشون في المناطق الحضرية الفقيرة، ووضعها في قمة جدول حملتها الانتخابية؛ ففي أول خطاب سياسي رئيس لها في أبريل، وسط احتجاجات بالتيمور التي تلت وفاة فريدي جراي، عبرت كلينتون عن أسفها للطريقة التي يؤدي بها سجن مئات الآلاف من الرجال السود على الإضرار بالمجتمعات، ووعدت بـ”تحقيق إصلاحات حقيقية يمكن أن نلمسها في شوارعنا، ومحاكمنا، ومعتقلاتنا وسجوننا، ومجتمعاتنا المهملة منذ فترة طويلة جدًا”.
وفي الأسبوع الماضي، دعت كلينتون لتسجيل الأمريكيين بشكل تلقائي بمجرد بلوغهم سن الثامنة عشرة فى سجل الناخبين ما لم يختاروا غير ذلك، كما اقترحت توسيع التصويت المبكر الشخصي قبل أيام من الانتخابات، ودعت إلى استعادة أجزاء من قانون حقوق التصويت الذي ألغته المحكمة العليا في عام 2013، وقالت إن المجرمين الذين أدوا الفترات المحكوم عليهم بها يجب أن يستعيدوا حقوق التصويت، وهذه المواقف ساعدتها على الاستفادة من الإحباط الذي يخامر العديد من المدافعين عن الأقليات، الذين يقولون إن قوانين تحديد هويات الناخبين المدعومة من الجمهوريين، ساعدت على سحق تصويت السود والهيسبانو (الأشخاص من أصل إسباني).
تحركات كلينتون السياسية مصممة منذ فترة، للإشارة إلى أنها قادرة على التحدث والتصرف بجرأة أكبر من أوباما، الذي شعر خلال فترة ولايته بأنه يعاني من ضغط سياسي كمرشح أسود قادر على طرح القضايا العرقية، ويقول مسؤولون إن كلينتون وضعت على قائمتها عددًا من الأمريكيين من أصل أفريقي لتضعهم في المناصب العليا، وتخطط لإيجاد قادة محليين في المدن يعملون على الترويج لحملتها.
ولكن مع ذلك، تُظهر استطلاعات الرأي وجود فرق كبير ما بين المشاعر الإيجابية التي يكنها الناخبون السود تجاه كلينتون، وتلك التي كانوا يظهرونها تجاه أوباما؛ ففي استطلاع أجرته الواشنطن بوست وإيه بي سي نيوز صدر الأسبوع الماضي، تبين أن 75% من الأمريكيين الأفارقة يعتقدون أن كلينتون تستطيع تفهّم مشاكلهم، علمًا أن هذه النسبة وصلت إلى 91% في استطلاع أُجري حول أوباما الخريف الماضي.
“على الأقل أوباما قدم لشبابنا الفخر، وكان نموذجًا لحاكم جيد” قال دانيال كوب الابن، 73 عامًا، وهو صاحب محل للبقالة يدعى (Happy Jack) في شمالي جاكسونفيل، وتابع قائلًا “هيلاري بحاجة لتثبت لنا أن وعودها حقيقية وصادقة، ومع ذلك أنا لست متأكدًا أن هذا من شأنه أن يساعدها، لأنه سبق لنا وأن لُدغنا لمرات عديدة من قبل”.
بعيدًا عن أشجار النخيل المصفوفة بعناية، والممرات العصرية لمدينة جاكسونفيل المترامية الأطراف الواقعة في الزاوية الشمالية الشرقية لولاية فلوريدا، يمكننا أن نلاحظ في شمالي المدينة، الطرق التي تفتقر إلى الأرصفة، ويمكننا مشاهدة الطرق الرئيسية التي تستقر فيها مخازن (Family Dollar)، ودكاكين دفع كفالة السجون، وأكشاك بيع السلطعون، جنبًا إلى جنب ضمن المساحة الكبيرة غير المستثمرة والمهملة من العشب الأشعث وغير المهذب، وفي إحدى المناطق، عملت التربة الملوثة الناجمة عن محرقة القمامة على إجهاض مشروع التطوير في هذه المنطقة.
قبل عام 2008، شعر الكثير من الناخبين السود بأنهم خُدعوا خلال الانتخابات الرئاسية لعام 2000 المثيرة للجدل، عندما تم إلغاء آلاف الأصوات من أحياء السود في المدينة، في خضم المعركة القانونية التي أدت إلى فوز الجمهوري جورج دبليو بوش بفارق ضئيل جدًا على منافسه آل غور.
قام مساعدو حملة أوباما بدارسة الأرقام، وقدروا أن عشرات الآلاف من الناخبين السود المؤهلين للتصويت، لم يتقدموا للتصويت في انتخابات عام 2004، عندما فاز الجمهوريون بأصوات ولاية فلوريدا، وفي الوقت الذي كان فيه فريق أوباما يدرك أن الفوز بالأغلبية في مقاطعة دوفال- فلوريدا غير مرجح، خلص الخبراء الإستراتيجيون إلى أن التوجه بقوة إلى الناخبين السود في جاكسونفيل، قد يعمل على تضييق الهوة، وتعزيز مجموع الأصوات على مستوى ولاية فلوريدا.
وبناء عليه، وجه فريق أوباما جهوده إلى الجانب الشمالي من الولاية، واستطاع جمع مئات المتطوعين، وقام بآلاف المكالمات الهاتفية، وحفز الكثير من الناخبين الذين لم يسبق لهم الوثوق بالعملية السياسية للتصويت، وفي حملة أوباما الانتخابية لعام 2008، كانت جاكسونفيل أحد آخر الأماكن التي زارها أوباما، وعندما انتهى التصويت، تم تخفيض فجوة التصويت في مقاطعة دوفال من 61.000 لصالح الجمهوريين إلى 8000، وفاز أوباما بأصوات ولاية فلوريدا.
“أصبح التصويت لأوباما واجب شخصي أكثر من كونه واجب مدني”، قال مون هولدر المدير الإقليمي لمجموعة ليبرالية تدافع عن حقوق التصويت.
كان هناك سحر سياسي مكتشف حديثًا على الجانب الشمالي من ولاية فلوريدا، وذلك مع تنامي الشعور بأن المسؤولين السود قد يتم انتخابهم لفرص عمل لم يكونوا يحلمون بها سابقًا، وتحفز المجتمع الذي كان يشعر بحرمانه من حقوقه ليصبح قوة سياسية، يملي بياناته على نفسه وعلى البلاد.
هذا الشعور استمر حتى عام 2011، عندما اُنتخب أول عمدة أسود للمدينة، ألفين براون، الذي فاز بدعم من مجتمع السود، وكذلك بدعم من بعض البيض، وبعض أصحاب الأعمال التجارية، وبعدها ظفر أوباما بولاية فلوريدا مرة أخرى في انتخابات عام 2012، عن طريق تعبئة السود مرة أخرى، محافظًا على هوامش تصويت منخفضة في مقاطعة دوفال.
ولكن الآن، ومع اقتراب نهاية عهد أوباما، هذه الإثارة التي كان يشعر بها المجتمع تقلصت إلى حدودها الدنيا، فهناك وعلى الطرف الشمالي في جاكسونفيل، إطرد عنف العصابات، وتعاطي المخدرات، وفي أبريل تم إطلاق النار على 33 شخصًا من سكان جاكسونفيل، بما في ذلك سبعة لقوا مصرعهم نتيجة لذلك؛ مما أدى إلى قيام مجموعة من القساوسة بعقد مؤتمر صحفي وإعلان المدينة “منطقة حرب”.
بالنسبة للأشخاص الذين تجمعوا لانتخاب أوباما سابقًا، فسوف يكون من الصعب على أي شخص أن يبرر لهم سبب اتجاههم مرة أخرى إلى صناديق الاقتراع والتصويت في العام المقبل، بالنظر إلى أن شيئًا لم يتغير في مدينتهم، لا بل إن بعض الأمور قد أصبحت أسوأ من ذي قبل، “لقد أعطينا الرئيس وظيفته” قالت موتلي، وأضافت “ولكن هل ساعدنا في الحصول على أي وظيفة جيدة؟ أنا لا أزال بحاجة إلى زيادة في الأجر”.
“إنها ليست غلطته” قاطعها لويس ويلسون، 65 عامًا، عامل صيانة مطار متقاعد، وأضاف “لقد قمنا بكل شيء ممكن حتى يصل إلى البيت الأبيض، ولكن عندما جاء وقت التصويت لم تخرج الناس لدعمه، كل السود بقوا في المنزل، هذا ما يحدث عندما لا تصوتون”.
وهنا أصبحت المحادثة صاخبة، حيث قال شخص آخر إنه كان يرغب بالتصويت لكنه لم يستطع بسبب سجله الجنائي، وشكا آخر من أنه لم يحصل على أي زيادة في الراتب خلال ثماني سنوات، “كلنا نكافح” قال شخص آخر، وانزعج أحد الجالسين، لدرجة قام معها بخلع قميصه، ولفه حول رأسه، ومشى بعيدًا، علمًا أن قميصه مطبوع عليه شعار حملة أوباما الانتخابية لعام 2008 “Obama ’08”.
في الشهر الماضي، عندما كان العمدة بروان يستعد لحملة إعادة انتخابه، نظر القساوسة ودعاة التصويت إلى هذه الانتخابات على أنها اختبار لمدى رغبة الناخبين السود في جاكسونفيل للمشاركة والثقة في الحياة السياسية، حيث احتشد الجمهوريون حول مرشحهم ليني كاري، كما أن الطامحين للرئاسة من الحزب الجمهوري مثل ماركو روبيو، ريك بيري قاموا بزيارته، وجيب بوش نشر مقطع فيديو يظهر فيه دعمه لكاري.
في ليلة الانتخابات، وبعد أن شجع القسيس في كنيسة القديس بولس التبشيرية المعمدانية رعيته على الوثوق بخطط الرب، استرجع مجموعة من أبناء الرعية السوداء الشباب عجائب الانتخابات الرئاسية الماضية، وتساءلوا عن الانتخابات المقبلة، “الموضوع لا يتعلق بكون أوباما أسود، ولكن استغرابنا يكمن في معرفتنا بأنه كان يحمل شعورًا متعاطفًا مع نضالنا”، قال شيرود براون، مرتل إنجيلي يبلغ من العمر 26 عامًا، وتابع “شعب جاكسونفيل عادل، فنحن سنصوت لهيلاري، ولكن عليها أن تثبت أنها أهل للمهمة”.
وفي ذات الجلسة قالت سميا ريتشاردسون، 31 عامًا، والتي تعمل كمدرسة، إنها غير متأكدة لمن ستمنح صوتها، وأوضحت بقولها “أنا أقف مع كلينتون كونها امرأة، ولكن هذا بحد ذاته سيكون مشكلة بالنسبة للكثير من الناس، كما أن هناك بعض الأشخاص الآخرين الذين قد يهتمون بترشيح بن كارسون”، ومع ذكر كارسون، الطبيب جراح الأعصاب الأسود الشهير الذي قد يترشح لصالح الحزب الجمهوري، تنبه بعض الجالسين، وسأل أحدهم “أليس هو صاحب الأيدي الموهوبة؟”، وأجابت ريتشاردسون “نعم، وإنه من الحزب الجمهوري” وأضافت “ويوجد جمهوري أيضًا له حظوظ في الانتخابات، إنه راند بول”.
وهنا رن هاتف شيرود براون، وقال حينها فجأة “ألفين براون سيخسر الانتخابات”، وأطبق صمت في تلك اللحظة، حاولت ريتشاردسون كسره عن طريق طمأنة المجموعة، ولكن دون جدوى.
وقال بروان “صحيح، أليس كذلك، فقط عندما كنا نظن أن الأمور على وشك التغيير”، وهنا رفع أحد الجالسين رأسه بعد أن قرأ خبرًا في هاتفه، وواجهته كلمة غير مألوفة في حياته السياسية، حيث سأل ببراءة “ماذا تعني كلمة اعترف بالهزيمة؟”.
المصدر: واشنطن بوست