ذكرنا في مقال سابق أن الإسلام هو المقابل للحضارة الغربية لا للمسيحية، فهو – في المفهوم الغربي للدين – أكبر من دين، وإنما حضارة شاملة.
وقلنا بأن أصول علم الاستغراب – حسبما نرى – ثلاثة:
- الانطلاق من الإسلام
- إدراك الخلافات الجوهرية بين الإسلام والغرب
- البحث عن الثوابت والكليات الكامنة خلف الفروع والمتشابهات والمتغيرات
وقد تحدثنا عن الأصل الأول (ج1، ج2، ج3) وندلف الآن إلى الأصل الثاني، فنقول وبالله التوفيق:
إن الصراع التاريخي بين الإسلام والغرب، والذي يعيش الآن قرنه الخامس عشر، إنما يعبر في أحد وجوهه عن خلافات أصلية وجوهرية بين الطرفين، ولا يجوز لمن يتصدى لدراسة الغرب أن يقدم على هذا الباب إلا وله وعيٌّ بأهم هذه الفوارق والخلافات الجوهرية، فبغير هذا لا يكون ثمة فهم ولا إدراك لحقيقة وطبيعة وأبعاد الموضوع المدروس.
ومعظم أخطاء المستشرقين – إذا غضضنا الطرف عن وجود الغرض والنية المبيتة – إنما تأتي من هذا الباب، إذ هو يحاول دراسة المجتمعات الأخرى بمناهج ونظريات نشأت في بيئته هو لتجيب عن أسئلة واقعه هو، وهو ما يتسبب في النهاية في الوصول إلى تحليلات ونتائج ونظريات تجانب الصواب، وأحيانًا تكون مناقضة للصواب من كل وجه.
ولا يعني وجود خلافات وفوارق أصيلة وجوهرية أننا ننزع عنهم الصفة الإنسانية أو ننظر إليهم بعنصرية، معاذ الله، بل على العكس، إذ نؤمن بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان ولكل بشر على هذه الأرض، ولكنه إدراك للخلافات والفوارق المندرجة كلها من الطبيعة الإنسانية، والتي تشكلت عبر عوامل كثيرة متشابكة من الانحراف عن دين الله وعن أصل الفطرة، ترسخت ونمت عبر امتداد الزمان، واكتسبت بعض الصفات من جغرافيا المكان، وتشربت في ظروف بعينها ثقافات واتجاهات، إنه في حقيقة الأمر فهم للحالة يبتغي الوصول إلى علاجها مما حل بها من انحراف ودعوتها إلى الله وتحريرها من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. فإن لم يمكن هذا تحت أي ظرف بقيت وجوه التعاون على ما فيه الخير وهو تعاون يحتاج إلى علم وفهم، وإلا فلن يفلح تعاون ولا تفاهم بين أطراف يجهل بعضهم بعضًا، فإن لم يمكن هذا ولم يبق إلا الحرب فمن ضرورات الحرب معرفة الخصم وفهم طبيعته وطرائقه ومناهجه.
وهكذا، في كل الأحوال لا محيص عن العلم بالمخالف وفهمه، وفهم الفوارق بيننا وبينه.
ولا ريب أن الأمر يحتاج دراسة موسعة متقنة، لمحاولة تحديد – أو على الأقل رسم الخطوط العامة – لهذه الفوارق فيكون الباحثون منها على بصيرة، وما نفعله في هذه السطور هو الإشارة والتنبيه لا أكثر.
1. قصة الدين وآثاره
ثمة إجماع بين المؤرخين على أن الحضارة الغربية لها ثلاثة جذور: الفلسفة اليونانية، الأنظمة الرومانية، الديانة المسيحية [1]، ولا تزال المسيحية تمثل ركنًا ركينًا في الروح الغربية، وهي الحقيقة الملموسة تصريحًا وتلميحًا في الكتب التي ألفت عن الغرب [2].
وثمة إجماع آخر بين المؤرخين على أن العرب لم يكونوا ذوي حضارة قبل الإسلام [3]، وإنما جاء الإسلام فكأنما أنشأهم من العدم وبعثهم من القبور وأخرجهم إلى الحياة، ليس هذا فقط، بل نقلهم هذه النقلة الهائلة المدهشة من التشرذم إلى الوحدة ومن رعي الغنم إلى تسيد الأمم، ولهذا قال عمر بن الخطاب “كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله” [4].
وإذن، فقد حمل الفصل الأول من هذه القصة هذا الفارق الذي أدى بدوره إلى بعض النتائج:
أ. أن المسيحية “جزء” من التكوين الغربي، وقد ساعد خلو المسيحية من النظم والشرائع على بقاء واستمرار النظم الرومانية المستفادة والمنبثقة عن الفلسفة اليونانية، بينما الإسلام هو المكون الأساسي والوحيد للمسلمين، فالعرب لا يعرفون سوى الإسلام دينًا وفلسفةً ونظامًا وشرائع، وغير العرب إنما يلزمهم بحكم إسلامهم أن يتخلوا ويتبرأوا بل وأن يكرهوا ما يناقض الإسلام من ميراثهم الحضاري، فظل الإسلام دائما حاكمًا لا محكومًا، وهاضمًا لما قبله من النظم والشرائع لا متأثرًا بها كما هو الحال في المسيحية التي تأثرت كثيرًا بالتراث اليوناني والروماني.
ب. لقد تأثرت المسيحية بالتراث اليوناني والروماني تأثرًا كبيرًا، حتى إن ثمة أفكارًا دينية رئيسية تسللت إلى المسيحية، واضطر الدعاة المسيحيون منذ بولس أن يصيغوا المعاني المسيحية في عبارات وصياغات يونانية [5]، ومن أبرز الأدلة على هذا دخول الصور والتماثيل كمعبودات برغم النهي الصريح في الوارد في الإنجيل عن ذلك، حتى قيل بحق “النصارى ترومت ولم تتنصر الروم” [6]. بينما عاش الإسلام حياته في صراع مع الجاهلية التي بُعِث فيها، حتى انتصر عليها وكسر أصنامها وأزال رسومها وتقاليدها، ولم يبحث عن تقارب معها أبدًا، بل اقتضى التزام الصراط المستقيم “مخالفة أصحاب الجحيم”.
جـ. وإذا أخذنا المسألة القومية كمثال على ما سبق، نرى – كما يقول المتخصص في مقارنة الإسلام والمسيحية أنتوني بلاك – كيف “احتوى الإسلام الباكر على عناصر من القومية العربية، لكن محمدًا – صلى الله عليه وسلم – وأتباعه رفضوا النهج اليهودي للانعزال القومي وابتكروا بدلاً من ذلك مجتمعًا دولًيا جديدًا، وتبنت البلاطات الملكية ثقافة راقية متعددة القوميات، وكان الدين في أيدي جماعة من العلماء متعددي القوميات على نحو واعٍ ذاتيًا، وكانت بعض الدول الإسلامية تحكمها سلالة تتكون من مجموعة أقلية عرقية (مثل البويهيين والسلاجقة)، وكانت الإمبراطورية العثمانية مأهولة بمزيج من المجموعات العرقية، وهكذا تجاوزت وحدة الأمة (الإسلامية) الاختلافات العرقية أكثر بكثير مما فعلت الكنيسة؛ سواء في العالم المسيحي الشرقي أو الغربي، قبل الإصلاح أو بعده، ولم تكن توجد دولة قومية في العالم الإسلامي حتى القرن العشرين” [7].
وفي المقال القادم – إن شاء الله تعالى – سنرى كيف واصلت “قصة الدين” اختلافها على الحضارتين، فبينما صُلب المسيح – كما يؤمنون – ومات ولم يحقق أي نصر ديني أو دنيوي مات محمد وقد أسس دينًا ودولة، فكيف أثَّر هذا على الخلاف؟ هذا ما نتناوله بإذن الله في المقال القادم.
————————————–
[1] Gustave E. Grunebaum: Modern Islam; The Search for Cultural Identity, p. 147.
وانظر: برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية 1/16، 17.
[2] ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص 55 وما بعدها، باتريك بوكانان: موت الغرب ص 339 وما بعدها.
[3] هذا إذا غضضنا الطرف عن محاولات بعض المؤرخين القوميين في الحقبة القومية لاختلاق حضارة للعرب قبل الإسلام، وهي محاولة أيديولجية أكثر منها علمية، وليس هنا مقام الرد عليها، ولكن نقول بإيجاز: الحضارات العربية التي يتحدثون عنها شهدت انقطاعًا طويلاً حتى لم يعد لها أثر في المجتمع الذي أرسل فيه النبي، وهو مجتمع لم تتحقق فيه أي مظهر من مظاهر الحضارة، والعرب أنفسهم بعد أن جاءهم الإسلام رأوا أنفسهم في حقبة جديدة تماما وليست امتدادًا ولا تجديدًا ولا بعثًا لحضارات قديمة.
[4] رواه الحاكم في المستدرك (207) وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وابن أبي شيبة (33847، 34444).
[5] ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص 10، 71.
[6] القاضي عبد الجبار المعتزلي: تثبيت دلائل النبوة ص 173.
[7] أنتوتي بلاك: الغرب والإسلام ص 122. (باختصار)