يبدو أن مقولات رئيس وزراء بريطانيا الأسبق تشرتشل عن المصالح والتحالفات تكتسب أهميّة مضاعفة في ضوء الأحداث الحاصلة في الشرق الأوسط حاليًا، فالرجل الذي صرح بأنه لا يوجد في منطق السياسة “عداوة دائمة ولا صداقة دائمة وإنما مصالح دائمة”، وبأنه “مستعد للتحالف مع الشيطان، سواء أكان أصغرًا أم أكبرًا، من أجل الدفاع عن وطنه” إنما يعبر بشكل صريح عن المنطق الذي يحكم التحالفات التي يُعاد تشكيلها بين القوى المتنافسة في المنطقة.
شكلت العلاقة مع إيران في عهد الشاه أهمية إستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، فقد كان يجمع البلدين مصلحة مشتركة تمثلت في احتواء الاتحاد السوفيتي، ومحاولة إبقائه خارج دائرة النفوذ في الشرق الأوسط، وقد تعززت قيمة إيران في السياسة الأمريكية نهاية السبعينات من القرن العشرين وذلك نظرًا للوفرة الاقتصادية التي حققتها إيران من خلال عائداتها من النفط، والتي سخرتها في الغالب في تعزيز قدراتها العسكرية حتى أصبحت القوة العسكرية الأقوى في المنطقة بعد إسرائيل.
برزت الحاجة لإيران القوية بُعيد قرار بريطانيا سحب أسطولها البحري من مياه الخليج منهية بذلك عقود من الهيمنة على الشرق الأوسط والخليج العربي، ونظرًا لانخراط الولايات المتحدة حينها في حربها الطاحنة في فيتنام، كان لا بد من تبني سياسة تقوم على تفعيل دور القوى الإقليمية في الترتيبات الأمنية من خلال ما أصبح يطلق عليه بسياسة “الدعامة المزدوجة” (Twin Pillar Policy) والتي قامت على إستراتيجية توزان القوة (Offshore Balancing of Power) حيث شكلت إيران إحدى هاتين الدعامتين بينما شكلت السعودية الدعامة الثانية.
انصب العبء الأكبر في تنفيذ سياسة الدعامة المزدوجة على إيران، وذلك بسبب موقعها الإستراتيجي وقدراتها العسكرية والاقتصادية والبشرية، وقد رحّب الشّاه بممارسة هذا الدور، فقد أصبحت إيران “شرطي الخليج”، وبذلك ضمنت إيران لنفسها مكانة إقليمية مرموقة، ولعل ما يدلل على ذلك الطلب الصريح الذي جاء على لسان الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون في زيارته لطهران عام 1972 عندما نظر إلى الشاه مباشرة في أحد لقاءاتهم وقال له: “احمني”.
بقيت سياسة الدعامة المزدوجة فعّالة إلى أن أطاحت الثورة الإسلامية الإيرانية بالشاه، وأحلّت مكانه نظامًا جمهوريًا إسلاميًا يعتبر العداوة لأمريكا (الشيطان الأكبر) إحدى ركائز سياسته الخارجية.
تحولّت العلاقات الحميمية بين واشنطن وطهران والتي دامت لعقود إلى عداوة بين عشية وضحاها، وبذلك كان على الولايات المتحدة إعادة النظر في سياستها في المنطقة، أدت التطورات الإقليمية والدولية لاحقًا والتي كان من أهمها انهيار الاتحاد السوفيتي، وخروج أمريكا من الحرب الباردة القوة العظمى الوحيدة في العالم، والغزو العراقي للكويت، وما ترتب عليه من حضور مباشر للقوات الأمريكية في الخليج إلى تولي الولايات المتحدة بنفسها دور شرطي المنطقة، وتبنت سياسة شديدة تجاه إيران تمثلت بالعقوبات الاقتصادية، ومحاولة فرض حالة من العزلة السياسية عليها تمهيدًا للإطاحة بالنظام الثوري فيها.
لم تفلح السياسة الأمريكية المتشددة حيال إيران بتغيير النظام فيها، فقد بقيت إيران قوة إقليمية معتبرة، فالحقائق الجيوسياسية فرضت نفسها على صانعي القرار في واشنطن لتبني سياسة التقارب مع إيران والتي دشنها الرئيس أوباما، كان لا بدَّ للولايات المتحدة والتي أعادت تقييم إستراتيجيتها العالمية واعتبرت أن منطقة شرق أسيا وبحر الصين الجنوبي هي المنطقة الحيوية للهيمنة الأمريكية وليست الشرق الأوسطية من إعادة الاعتبار لسياسة توازن القوى من جديد وذلك بالبحث عن قوى إقليمية يمكن الاعتماد عليها في الترتيبات الأمنية الجديدة.
لم يترك الربيع العربي، والفوضى التي اكتسحت الدول العربيّة بُعيده خيارات كثيرة أمام صانعي القرار في واشنطن، ففي ظل حالة الضعف الشديدة التي يعاني منها النظام العربي الإقليمي كان لا بد من إعادة العلاقة مع إيران على أسس جديدة تضمن مساحة النفوذ بينهما، فإيران مستعدة لتجميد مشروعها النووي إذا ضمنت لها الولايات المتحدة نفوذًا يتناسب مع حجمها في المنطقة، في النهاية تحتاج القوى العظمى إلى دول قوية حليفة بغض النظر عن نظام الحكم فيها لضمان مصالحها، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الدولتين يجمعها عدو مشترك يتمثل “بالمنظمات الإرهابية” مثل داعش، عندها سنفهم أهمية أن تعود إيران في نظر الأمريكيين لتلعب دور شرطي الخليج مجددًا.
بنهاية المطاف توصلت الولايات المتحدة إلى نتيجة مفادها أن التفاهم مع إيران وليس مواجهتها هو ما يخدم المصالح الأمريكية، لا بأس أن توصف الولايات المتحدة بأنها الشيطان الأكبر في نظر الإيرانيين ما دام ذلك لا يغير من الحقيقة شيء؛ وهي أن ما يجمع الدولتين من المصالح أكبر مما يفرق بينهما من خلاف!