ترجمة من الفرنسية وتحرير نون بوست
تميزت فترة ثلاثينات القرن الماضي بظهور حركات المقاطعة، التي تدعو لمقاطعة اليهود في أوروبا، خاصة في ألمانيا وبولونيا ورومانيا، وفي شهر مارس 1933، تم عقد اجتماعات حاشدة في الولايات المتحدة لمعارضة هتلر، وتم خلالها إطلاق حملة دولية لمقاطعة ألمانيا، وفي كل أنحاء العالم عمل اليهود على تفعيل هذه الحملة وإنجاحها، عبر دعم المنظمات المتبنية لهذا القرار، وبعث جمعيات ومؤسسات مكلفة بتنفيذه.
وقد نشطت في فرنسا بشكل خاص الرابطة الدولية لمكافحة معاداة السامية، التي شنت حملة شرسة لإقناع المواطنين وإقناع أصحاب الأعمال والمسؤولين السياسيين بضرورة قطع العلاقات مع ألمانيا، ونشرت هذه الرابطة في صحيفتها الكلمات التالية: “يجب على ألمانيا الهتلرية أن تفهم أن الحصار المعنوي والحصار الاقتصادي سيكون لهما تباعات مؤلمة، إن لم تكن قاتلة، ورغم ما تظهره ألمانيا من تفوق عسكري، فإن موازين القوى متكافئة مادمنا متحدين ضدها”.
وقد أثارت فكرة المقاطعة التي نشطت بين 1933 و1939 نقاشات واسعة، لأن تأثيرها كان يشمل ألمانيا بأكملها، بما في ذلك المواطنون البسطاء والسياسيون المعارضون لهتلر، ولكن المتشبثين بهذه الفكرة قالوا: “ما جدوى الخروج في مظاهرات ضد هتلر؟ لا شيء، يجب اتخاذ تدابير تعكس حالة الحرب التي تدور بيننا وبين هتلر، إن المقاطعة هي حرب من نوع جديد، بأسلحة مبتكرة، إنها حرب اقتصادية لا يمكن التراجع عنها”.
جنوب أفريقيا
رغم عدم إثبات سلاح المقاطعة لجدواه ضد ألمانيا النازية، فإن الاعتماد عليه تواصل بعد نهاية الحرب، فقد أرست جمهورية جنوب أفريقيا نظام فصل عنصري، ابتداءً من سنة 1948، يقوم على الأيديولوجيا العنصرية، وعلوية البيض على السود، وحرمان جزء كبير من الشعب من حقوقه الأساسية، ثم في يونيو 1952 تم إطلاق حملة عصيان مدني، بمبادرة من المجلس الوطني الجنوب أفريقي والمجلس الهندي، وظهر شعار “قاطعوا جنوب أفريقيا”، وقد مثل ذلك نوعًا من الاستفاقة الأخلاقية وإعلانًا لرفض الظلم.
من مقاطعة اليهود إلى مقاطعة إسرائيل
خلال فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر في ثلاثينات القرن الماضي، تم تنظيم عدة حملات من قِبل العرب وبعض الأوروبيين ضد اليهود، كما ساهمت الحركات المعادية للصهيونية في تطور الجمعيات العربية والإسلامية، وهو ما سبب حيرة لدى المستعمر الفرنسي، وقد عثر في ذلك الوقت على كتابة على حائط مبنى إدارة قسنطينة، تدعو العرب إلى مقاطعة بضائع اليهود لأنهم يمولون الحركات الصهيونية في فلسطين، وتقول: “أيها العرب، اعلموا أن كل قطعة نقدية تدفعونها لليهود، يذهب جزء منها لشراء الأسلحة التي تقتل الشعب الفلسطيني”.
كما أدى إنشاء جامعة الدول العربية، في سنة 1945، إلى تطوير هذه التحركات وجعلها أكثر جرأةً وقوةً، خاصة بعد الإعلان عن قيام دولة إسرائيل في سنة 1948، وكان نفور دول المنطقة واضحًا تجاه هذا الكيان الدخيل، كما تنامت الرغبة في اجتثاثه؛ وهو ما دفع بدول المنطقة لاتخاذ تدابير صارمة، منها مقاطعة الشركات المملوكة لليهود في جميع أنحاء العالم، وغلق الجمعيات المساندة لإسرائيل، بالإضافة إلى فرض حصار جوي وبحري عليها، وتم تأسيس لجنة مكلفة بالمقاطعة مقرها في دمشق، التي كانت تقوم بتنسيق أنشطة الدول الأعضاء في الجامعة العربية.
إصرار الجامعة العربية
مارست الجامعة العربية عملية تخريب اقتصادي حقيقي ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي، من خلال إرساء مبدأ منع إقامة أي علاقات مع هذه الدولة العبرية والشركات التابعة لها، ووضع قائمة سوداء تضم الشركات الغربية التي تتعامل معها، وممارسة ضغوط حتى على الشركات التي تتعامل مع تلك الموجودة في القائمة السوداء؛ وقد أدى هذا الضغط المركز إلى ثني عدة شركات عن التعامل مع إسرائيل.
وأصبح “نادي المتوسط” غير مرحب به في مصر لأنه نظم رحلات كشفية لإسرائيل، كما استسلمت عدة شركات لهذا القرار، على غرار شركة الطيران الفرنسية التي أصبحت ترفض نقل اليهود نحو القاهرة، كما أن شركة رينو الفرنسية لصناعة السيارات أغلقت مصنعها في حيفا في سنة 1959، ثم في 17 ديسمبر 1964، أعلنت صحيفة لوموند أن 2262 شركة في العالم ملتزمة بالقرار العربي بمقاطعة إسرائيل، منها 143 شركة فرنسية، ثم بعد حرب أكتوبر 1973، التي يسميها الإسرائيليون حرب الغفران، تم إيقاف تصدير البترول نحو الدول المساندة لإسرائيل.
خلال تلك هذه الفترة، ومن أجل وقف نزيف الاقتصاد الإسرائيلي، سارعت حكومة الولايات المتحدة إلى إصدار قرار يعتبر “سلاح المقاطعة” غير قانوني، وفي فرنسا تم التصويت على قانون يمنع المقاطعة، في 7 يونيو 1977، بحجة أن ذلك يتنافى مع مبدأ حرية الأنشطة التجارية، ومبدأ عدم التفرقة بين الناس حسب جنسياتهم.
وبعد ذلك خلال سنوات الثمانينات، تعرضت الجهود الداعية إلى المقاطعة إلى انتكاسات عديدة، كما تراجعت عدة دول عربية عن الالتزام بها.
حملات BDS
في سنة 2005، تم إطلاق حملة المقاطعة BDS، وهي اختصار لعبارة “مقاطعة، سحب الاستثمارات، وتسليط العقوبات”، على يد المجتمع المدني الفلسطيني، للاحتجاج على الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وتواصلت هذه الحملة إلى الآن، وقد شعرت إسرائيل بتأثيرها الكبير، بما أنها تشمل مجالات اقتصادية، ثقافية وأكاديمية.
ويصف المشاركون في هذه الحملة إسرائيل بأنها دولة فاشية ونازية، ويعتبرون أن حملة مقاطعتها هي امتداد تاريخي لحملة مقاطعة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، كما أن تعنت إسرائيل ومواصلة احتلال أراضي 1967، ومواصلة بناء المستوطنات، يزيد كل يوم من مشاعر الغضب ووتيرة الاحتجاجات.
المصدر: صحيفة لوموند الفرنسية