شعور بالسخرية يتملك كل من يقرأ هذا القرار الصادر عن الحكومة المصرية نهاية الأسبوع الماضي، خاصةً المطّلع على ملف حقوق الإنسان المصري المزري بحق، فنص القرار الموافق عليه من مجلس الوزراء برئاسة إبراهيم محلب، المقدم من وزير العدل بـ :”إلغاء احتجاز المتهمين في قضايا الجنح والمخالفات بأقفاص حديدية أو غيرها، وتحديد منطقة بقاعة الجلسة لجلوسهم بها، وذلك حفاظًا على كرامتهم وإنسانيتهم”.
النظام يدّعي السعي من أجل الحفاظ على “الكرامة” و”الإنسانية” للمحتجزين لديه، ويتحدث عن تحديد مكان للمتهمين في قاعة المحكمة للجلوس بدلًا من القفص الحديدي المهين، محاولة منه لحفظ ماء وجهه إقليميًا ودوليًا، وللتغطية كذلك على باقي جرائمه، فيحترم المعتقل أثناء عرضه على المحكمة، ويسعى لإظهار نفسه المدافع عن كرامته وإنسانيته، ولكن بمجرد عودة المعتقل لعربة الترحيلات أو مقر احتجازه بأحد الأقسام أو السجون يفعل به ما يشاء من تنكيل، تعذيب، إهمال طبي، وحرمان من أدنى الخدمات الآدمية.
قبل أيام استنكرت الخارجية المصرية بشدة بيان منظمة “هيومن رايتس ووتش”، الذي تحدث عن انتهاكات حقوق الإنسان خلال عام من تولي السيسي زمام السلطة في مصر بعد الانتخابات الصورية التي أجراها، الخارجية في بيانها هاجمت تقرير المنظمة وقالت إنه مسيس وغير دقيق أو موضوعي، كما اتهمت الخارجية منظمة هيومن رايتس ووتش بترويج الأكاذيب ونشر معلومات مغلوطة، ليس لها أساس من الصحة ولا تمت للواقع بصلة.
ربما كانت الخارجية محقة في نقطة واحدة، وهي أن المعلومات غير دقيقة، فتقرير منظمة هيومن رايتس ووتش اعتمد على أرقام أصدرها المجلس القومي لحقوق الإنسان المدعوم من الحكومة، الأرقام قلصت واختزلت الواقع كثيرًا، فتحدث التقرير عن وفاة 36 شخصًا في أماكن الاحتجاز، بحسب ما نقله المجلس القومي لحقوق الإنسان عن إعلان سابق لوزارة الداخلية، وأشار المجلس إلى أن الرقم يتجاوز التسعين، بحسب عدد من جمعيات حقوق الإنسان، وأكد أيضًا أن التكدس بلغ 400% في أقسام الشرطة، و160% في السجون، بحسب تقارير للداخلية أيضًا.
منظمات حقوقية أخرى، دأبت على توثيق الانتهاكات المُمارسة من قِبل السلطات المصرية، وثقت ما يتجاوز الـ 200 حالة قتل في السجون المصرية منذ انقلاب الثالث من يوليو، فيوجد تفاوت كبير في تلك الأرقام والإحصاءات التي أصدرتها جُل تلك الجهات، هذا بالطبع مع اعتبار أن هناك عشرات الحالات لم تتمكن تلك المنظمات وغيرها من التعرف عليها لكثرة تلك الانتهاكات.
الفكاهة هنا أن الخارجية تهاجم منظمة هيون رايتس ووتش على تقريرها المعتمد على إحصاءات للمجلس القومي لحقوق الإنسان التابع للحكومة، الذي أصدر تقريرًا ضعيفًا يختزل الانتهاكات، واعتمد في تقريره على إعلانات سابقة لوزارة الداخلية الموجودة مع الخارجية في نفس الحكومة، ورغم ثِقَل تلك النكتة على النفس فيجب التأكيد على أن هؤلاء السادة، الذين يدّعون الآن الحفاظ على كرامة وإنسانية المواطنين، يصمون آذانهم عن كل من يذكرهم بجرائمهم، حتى وإن كان بعض منهم يعترف بنفسه بارتكاب جزء من تلك الجرائم.
بالطبع ذلك القرار كسابقه من محاولات النظام المستميته لتشويه وإضعاف الملف الحقوقي بشتى الطرق، لتصدير وجهة نظر إقليمية ودولية عن احترام السلطات المصرية قوانين حقوق الإنسان؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، حين أصدرت مصر تقريرًا في الاستعراض الدوري الشامل بالأمم المتحدة كانت قد أكدت خلاله على احترامها للحريات، حرية التعبير والتظاهر، تجريمها لكافة أشكال العنف بحق المرأة، تأكيدها على اعتبار التعذيب جريمة لا تسقط بالتقادم، والتزامها بضمانات المحاكمة العادلة، وأيضًا اعتبارها التعذيب جريمة مُحرم استخدامها، وغيرها من الادعاءات التي كذبها الوضع الحالي في مصر.
الكرامة والإنسانية التي يتحدث عنها النظام لا تتمثل من وجه نظره في حرمان معتقلًا مريضًا من الرعاية الصحية ولو على حسابه الشخصي، فعلى سبيل المثال، بدأت أسرة معتقل يدعى، رفعت طلعت – 47 عامًا، في نشر مأساته التي يعانيها عشرات غيره حاليًا في سجون النظام، فهذا المعتقل المتدهورة صحته منذ مطلع مايو الماضي بعد تورم ذراعيه نتيجة تحرك بعض المسامير والشرائح التي تم تركيبها في ذراعيه، إذ إنها لم تكن مناسبة لحالته من بداية تركيبها له داخل السجن في أبريل من العام 2014، العملية الجراحية تلك أجريت بعد ضغوط كثيرة وتعنتات أكثر؛ لأن الإصابة نشأت نتيجة للتعذيب بالكهرباء، التعليق من يديه، وضربه على ذراعيه بماسورة حديدية لمدة أسبوع داخل قسم شرطة بولاق، من أجل إجباره على الاعتراف بتهم لم يرتكبها.
يسعى العشرات حاليًا في نشر تلك الحالة على مواقع التواصل الاجتماعي لخشيتهم من تطور الإصابة إلى “غرغرينا”، والتي قد تودي بحياته أو في أفضل الأحوال تؤدي لبتر ذراعيه، فيسعى عدد من الحقوقين لتشكيل أي من أنواع الضغط على إدارة سجن طرة الذي نقل إليه، لإجبارها على الرضوخ وإتمام العملية الجراحية التي كان من المقرر إجراؤها في مايو الماضي.
فيخشى النشطاء الحقوقيون من أن يلقى نفس مصير “نبيل عبدالمجيد المغربي – 79 عامًا”، الذي توفي في الثالث من شهر يونيو الجاري داخل مستشفى القصر العيني، فكانت المستشفى قد قدمت خطابًا للنيابة أفادت احتجازها له لتدهور حالته الصحية ومعاناته من قيء مستمر وسرطان بالمعدة، وعلى هذا الخطاب طالب دفاع المعتقل بنقله لمستشفى خاص، مجهز بإمكانيات أنسب لحالته المرضية وعلى حسابه الشخصي، لأن السرطان في مرحلة متأخرة وبدأ في اختراق المعدة، فوجب نقله لمعهد الأورام لإجراء جراحة استئصال للمعدة، وتركيب معدة بلاستكية في أسرع وقت، لكن المحكمة برئاسة المستشار شرين فهمي رفضت الطلب لحين حضور المتهم المحجوز بالمستشفى، والذي لم يتمكن من الحياة حتى موعد الجلسة القادمة.
وعن معتقل آخر توفي قبل أسبوع يدعى، السيد حسن الرصد – 46 عامًا، الذي توفي داخل إحدى المستشفيات بمدينة بنها، وذلك بعد أن نُقل إليها من مقر احتجازه بمعسكر فرق الأمن المركزي بمحافظة القليوبية، فكان الرجل قد اعتقل من منزله بعد مداهمته، وتم إخفائه سريًا لثلاثة أيام وردت خلالها معلومات تشير لاحتجازه بالمعسكر، فيما منعت إدارة المعسكر أي من ذويه التواصل معه قبل أن تفاجأ أسرته بخبر وفاته، وظهور آثار تعذيب واضحة على مختلف أماكن جسده.
فبدت تلك الكرامة والإنسانية من وجهة نظر النظام مختلفة بعض الشيء، فالمعتقل ينكل به بشتى الطرق والوسائل داخل مقر احتجازه، يعذب حتى الوفاة، أو يعذب لتصيبه عاهة يحرم حتى من العلاج منها، لكن حينما يخرج للمثول أمام القاضي يجب احترام كرامته، فالأمثلة السابقة لمجرد ذكر جزء يسير من الجرائم المرتكبة، فتلك الأمثلة برزت في الأسابيع القليلة الماضية، وأخذت حظها من التفاعل والنشر بين منظمات حقوق الإنسان، والمهتمين بالملف الحقوقي، وبعض نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، لكن الأكيد في هذا الصدد أن حالات قليلة جدًا يسلط عليها الضوء كمثال لعشرات ومئات تشبهها في درجة الجرم.
القرار أو القانون الصادر هذا ينضم لعشرات القوانين غير المفعلة كقانون الإجراءات الجنائية، قانون تنظيم السجون، وغيرها، فبنود ومواد تلك القوانين تتحدث عن أن إجراء الاعتقال الذي يتخذ ضد شخص يؤدي إلى سلبه لحريته الشخصية يجب بدايةً أن يتم احتجازه وفقًا لقرار صادر عن سلطة مختصة، وكذلك ضمان معاملة المحتجزين بما يحفظ كرامتهم وأن يكون احتجازهم في الأماكن المخصصة، وغيرها من القوانين المتحدثة عن وجوب نظر السجين أمام محكمة مختصة، وتكون قضيته محل نظر منصف، وغيرها من الأمور المتعلقة بالزيارات، السماح بدخول المستلزمات، مدة الحبس الاحتياطي، مدة التأديب، المعاملة، وإجراءات التقاضي.
الوضع الحالي يؤكد مخالفة السلطات لكل تلك القوانين؛ فكيف لنا أن نصدق أي قوانين أخرى تخرج لتكون حبرًا على ورق، تظهر وجهًا حسنًا لنظام مشوه بجرائمه.