“يا أكامبو يا عميل لن تنال من البشير”، هكذا كان هتاف بعض السودانيين قبل ستة أعوام ضد “لويس مورينو أوكامبو” المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية الحالي، وهو مسؤول عن التحقيق والملاحقة القضائية لمرتكبي جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، وذلك بعد إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق البشير؛ الأولى في العام 2009 بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، والثانية عام 2010 بتهمة ارتكاب جرائم إبادة، والاثنتان على علاقة بالنزاع في دارفور غرب السودان.
طالبت السودان بعدها مرارًا بإيقاف هذا القرار لعدم انعقاد أي اختصاص للمحكمة الجنائية الدولية على السودان بحسبانه ليس طرفا في نظامها الأساسي، ولكن هذا القرار طوال أكثر من 6 سنوات قد أثر على تحركات رئيس السودان خارجيًا، واقتصر أمر سفره للخارج على بعض البلدان العربية والأفريقية، وإذا تطلب حضور السودان مؤتمرًا دوليًا فإن نواب البشير كانوا يقومون بالمهمة.
كانت آخر تحركات البشير التي أُلغيت بسبب هذا القرار هي قراره في اللحظة الأخيرة بعدم الذهاب إلى إندونيسيا لحضور قمة حركة عدم الانحياز المقامة في العاصمة جاكرتا، وبررت الخارجية السودانية إلغاء الزيارة بانشغال الرئيس بالأوضاع الداخلية، بعدما كانت تروج هذه الزيارة على أنها الأولى من نوعها منذ خمس سنوات خارج أفريقيا والبلاد العربية في منطقة الشرق الأوسط، فكانت آخر رحلات البشير خارج المنطقة في العام 2011 إلى الصين.
وضع البشير في الجنائية الدولية كان قد شهد انفراجة في الآونة الأخيرة بعد إعلان مكتب الادعاء بالمحكمة وقف التحقيق في ملف البشير بشأن دارفور وذلك بحجة عدم تحرك مجلس الأمن للضغط من أجل مثول المتهمين أمام المحكمة ، وهو ما اعتبرته السودان موقفًا ضعيفًا من المحكمة، واستغلته الحكومة في الخرطوم جيدًا في دعايتها السياسية.
في المقابل رأت المعارضة السودانية أن هذا القرار تقف خلفه حزمة تنازلات سوف تقدمها الحكومة وعلى رأسها منح منطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق نظامًا أقرب للانفصال، وكذلك الأمر في منطقة أبيي التي سوف تأخذ شكلاً انفصاليًا كاملاً، وهو ما تقول عنه المعارضة إنه ثمن صمت المجتمع الدولي على جرائم البشير، بحد وصفهم.
تصدر الملف إلى الواجهة مرة أخرى مع انعقاد مؤتمر قمة الاتحاد الأفريقي في العاصمة الجنوب أفريقية “جوهانسبرج”، إذ قرر البشير حضور مؤتمر القمة الأفريقية بنفسه دون تفويض النائب الأول “بكري حسن صالح” كما كان متوقع، وقد أكدت مصادر من داخل الاتحاد الأفريقي أن البشير لن يحضر مؤتمر القمة.
فوجئ العالم أجمع بهبوط طائرة الرئاسة السودانية على الأراضي الجنوب أفريقية مقلة المشير عمر حسن البشير رئيس الجمهورية السودانية في أول زيارة له لجنوب أفريقيا منذ عام 2009، وهو يعلم جيدًا أن جنوب أفريقيا من بين الدول الموقعة على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية، وبالرغم من ذلك أصر الرئيس السوداني على الحضور، برر بعض المحللين اتخاذ الرئيس السوداني مثل هذا القرار بمحاولته كسر عزلته الدولية التي فرضتها عليه قرارات المحكمة الدولية، خاصة وأن الرجل بدأ عهد ولاية رئاسية جديدة باحتفال حضره العديد من الرؤساء والوفود الإقليمية في حفل تنصيبه.
وعلى إثر الزيارة تحركت المحكمة الجنائية على الفور لدى الحكومة في جنوب أفريقيا مطالبة إياها بتوقيف الرئيس السوداني بموجب مذكرات المحكمة بشأنه، حيث صرح رئيس جمعية الدول الأعضاء في نظام روما الأساسي المنظم للمحكمة صديقي كابا في بيان منشور، إنه يحث حكومة جنوب أفريقيا على بذل كل الجهود الممكنة لضمان تنفيذ أمر اعتقال البشير، إذا سافر إلى جنوب أفريقيا.
أثار هذا الأمر جدلًا واسعًا، خاصة بعد الإعلان عن قرار قضائي بجنوب أفريقيا يمنع البشير من مغادرة البلاد إلا بإذن المحكمة الجنائية الدولية، ولكن مصادر سودانية من جوهانسبرج تؤكد أن زيارة البشير تسير بشكل عادي، وهو ما يعني تحد واضح وصريح لقرار الجنائية الدولية.
بيد أن متابعين يؤكدون أن البشير لم يكن يذهب إلى جنوب أفريقيا إلا بعد تطمينات واضحة بعدم اعتراضه من قِبل الحكومة الجنوب أفريقية أثناء ترؤسه وفد بلاده في قمة الاتحاد الأفريقي، وهو ما جعل مسؤولين سودانيين ينفون أي أنباء عن منع البشير من مغادرة جنوب أفريقيا، مؤكدين أنه سوف ينهي برنامج زيارته ويعود إلى السودان.
الصحافة العالمية اهتمت بالأمر؛ حيث أكدت جريدة الجارديان البريطانية أن قضية البشير وزيارته لجنوب أفريقيا تعد اختبارًا لفاعلية المحكمة، في الوقت نفسه الذي رأت فيه جريدة الإندبندنت أن احتمالية مثول البشير أمام المحكمة الدولية بعيدة المنال في الظرف الراهن، مشيرة إلى عدم فاعلية المحكمة من الأساس.
يرى البعض أن السودان قد نجحت في إقناع عدد من دول الاتحاد الأفريقي بعدم التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، إذ استضافت العاصمة الإثيوبية “أديس أبابا” عام 2013، قمة طارئة للاتحاد الأفريقي مخصصة للنظر في إمكانية انسحاب جماعي لدول القارة من المحكمة الجنائية الدولية، وذلك بمشاركة الرئيس السوداني عمر البشير.
إذ تنظر السودان إلى المحكمة الجنائية الدولية باعتبارها أداة استعمارية موجهة ضد أفريقيا فقط، وقد انطلقت دعوة، تزعمتها السودان، داخل الاتحاد الأفريقي للدول الموقعة على ميثاق روما، المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، للانسحاب منها، وهو الأمر الذي لاقى بعض التجاوب.
في حين يرى محللون أن دعوة السودان لاقت صدى في أفريقيا بسبب مطاردة المحكمة لرؤساء أفارقة بشكل متزايد في الفترة الأخيرة، وهو ما يعتبرونه عنصرية ضد القارة الأفريقية، بعد ملاحقات مكثفة للعديد من الشخصيات الحكومية في عدة دول أفريقية على رأسها السودان، كينيا، ليبيا، مالي، الكونغو، أوغندا، وأفريقيا الوسطى، على خلفية اتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
جدير بالذكر أن جنوب أفريقيا ليست الدولة الأفريقية الأولى الموقعة على ميثاق محكمة العدل الدولية التي ترفض إلقاء القبض على الرئيس السوداني عمر البشير، إذ رفضت نيجيريا تنفيذ أوامر اعتقال بحق البشير في عام 2013، وتكرر الأمر نفسه في هذا العام بجنوب أفريقيا، حيث أكد متحدث باسم وزارة العدل في جنوب أفريقيا، أن بلاده ستطالب برفض طلب الجنائية الدولية اعتقال البشير، وقد جاء تأييد من الاتحاد الأفريقي للبشير بهذا الصدد، حيث علق وزير خارجية زمبابوي، سيمباراشي موبنغيغوي، الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأفريقي قائلًا، “في كل دول العالم، يتمتع رؤساء الدول في منصبهم بالحصانة، وعليه فإن الاتحاد الأفريقي أكد أن أي محكمة في العالم لا يمكنها سحب هذه الحصانة”.
كما أكد وزير الدولة للخارجية السودانية، كمال إسماعيل، أن جنوب أفريقيا موقعة على ميثاق روما للمحكمة الجنائية، ولكنها ملتزمة بقرار القمة الأفريقية التي عقدت بأديس أبابا قبل ذلك، والذي يقضى بعدم التعامل مع المحكمة الجنائية الدولية، لتظل السودان في مجابهات مع المحكمة الجنائية الدولية داخل أفريقيا، ولكن الواقع يقول إن السودان نجحت حتى هذه اللحظة في تحجيم فاعلية المحكمة بالقارة السمراء.