ترجمة يحيى محمد
يحاول جيل دولوز في هذا المقال القصير أن يتخطى فهم ميشيل فوكو التاريخي “لمجتمعات الانضباط”، حيث تمارس السيطرة في مؤسسات منفصلة، نحو مفهوم “مجتمعات السيطرة”، موازيًا من نواحٍ عديدة أفكار اليسار الراديكالي الإيطالي حول مفهوم “المصنع الاجتماعي”(*)، مقدمًا نقطة تلاقٍ بين الفلسفة ما بعد البنيوية والماركسية المستقلة.
1- تاريخيًا
حدد ميشيل فوكو مجتمعات الانضباط في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتصل تلك المجتمعات لذروتها في مستهل القرن العشرين، مطلقة تنظيم من فضاءات التطويق (enclosure) الواسعة، حيث لا يتوقف المرء أبدًا عن المرور من بيئة مغلقة لأخرى، ولكل بيئة قوانينها الخاصة: في البدء العائلة، ثم المدرسة – أنت لم تعد في عائلتك -، ومنها إلى الثكنات – أنت لم تعد في المدرسة -، وبعد ذلك المصنع، ومن آن لآخر المستشفى، ومن المحتمل السجن، النموذج البارز للمحيط المغلق هو السجن، حيث يقدم كنموذج مناظر: تصيح بطلة فيلم يوروبا 51 لروسيليني عند رؤية بعض العمال “لقد ظننت أني أرى مساجين”.
حلل فوكو ببراعة المشروع الفكري لبيئات التطويق تلك، على وجه الخصوص القائمة داخل المصنع: أن تركز، تقسم المساحة، ترتب الزمن، وتشكل قوة منتجة ضمن حدود المساحة/الزمن تأثيرها أكبر من مجموع عناصر قواها المكونة، لكن ما لاحظه فوكو إلى جانب ذلك لحظية هذا النظام، أنه خلف نظام المجتمعات الملكية (السيادية)، والتي كان هدفها ووظائفها مختلفة بعض الشيء – أن تفرض الضرائب بدلًا من أن تنظم الإنتاج، وأن تحكم بالإعدام بدلًا من أن تدير الحياة – وقد أخذ ذلك التحول فترة زمنية، ويبدو أن نابليون أثر بشكل بالغ في التحول من نسق مجتمع للآخر، لكن بدورها خضعت مجتمعات الانضباط لأزمة لصالح القوى الجديدة التي تأسست وتسارعت بالتدريج بعد الحرب العالمية الثانية؛ كان المجتمع الانضباطي ما لم نعد نكنه بالفعل، وما توقفنا عن أن نكونه.
نحن في أزمة معممة فيما يتصل بكل بيئات التطويق، السجن، المستشفى، المصنع، المدرسة، والعائلة؛ العائلة داخل في أزمة ككل الداخليات الأخرى (المدرسية، الوظيفية، وإلخ)، لا تتوقف الإدارات المسؤولة عن إعلان إصلاحات ضرورية مزعومة، لإصلاح المدارس، إصلاح الصناعات، المستشفيات، القوات المسلحة، والسجون، لكن الجميع يعرف أن هذه المؤسسات منتهية، مهما كان مدى تاريخ صلاحيتها، إنها مسألة إدارة إجراءات نهايتها، وإبقاء على موظفين حتى إنشاء قوى جديدة تطرق الأبواب.
تلك هي مجتمعات السيطرة والتي هي في طريقها لتحل محل مجتمعات الانضباط، “السيطرة” الاسم الذي قدمه بوروز كمصطلح لذلك الوحش الجديد، الذي يعرفه فوكو كمستقبلنا العاجل، يدرس بول فيريليو باستمرار أنظمة التحكم فائقة السرعة حرة الحركة، التي حلت محل أنظمة الانضباط القديمة، التي تعمل في الإطار الزمني لنظام مغلق، ليس من الضروري أن نذكر المنتجات الدوائية الاستثنائية، والهندسة الجزيئية، والتلاعب بالهندسة الوراثية، على الرغم من التنبؤ بدخولهم في المناهج العملية الجديدة، ليس من الضروري السؤال عن النظام الأقسى، ﻷن كل منهم يتضمن قوى تحررية وقوى استعبادية،على سبيل المثال، في تلك الأزمة حيث المستشفى بيئة تطويق، وعيادة الحي، قد تعبر دور المسنين وعيادات الرعاية اليومية عن حرية جديدة، لكنهم قد يساهموا كذلك في ميكانيزمات السيطرة مساوين أقسى أماكن الحبس، ليس هناك داع للخوف أو الأمل، لكن لنبحث فقط عن أسلحة جديدة.
2- منطقيًا
أشكال الحبس المختلفة في مساحات التطويق التي يمر بها الفرد متغيرات مستقلة، في كل مرة يفترض بكل منا أن يبدأ من الصفر، وعلى الرغم من وجود لغة مشتركة لكل هذه الأماكن إلا أنها لغة تشبيهية، على الجانب الآخر، فإن آليات السيطرة متغيرات متلازمة غير منفصلة، تكون نظام من الهندسة المتغيرة لغتها رقمية – ولا تعني بالضرورة أنها ثنائية – وأنظمة التطويق قوالب تشكيل بارزة، لكن ضوابط التحكم في حد ذاته لها طابع تعديلي، كالقالب ذاتي التشكيل والذي سيتغير باستمرار من آن لآخر، أو كالغربال الذي تتحول شبكته من نقطة لأخرى.
هذا جلي في مسألة الأجور: كان المصنع كيانًا يتضمن قواه الداخلية في حال توازن، محققًا أعلى إنتاج ممكن، بأقل أجور ممكنة، لكن في مجتمع السيطرة، حلت الشركة محل المصنع، والشركة روح، كالغاز، بالطبع كان المصنع معتادًا على نظام الحوافز، لكن تعمل الشركة بصورة أعمق لفرض تعديل على كل أجر، في حالات ما بعد الاستقرار الدائمة التي تعمل خلال التحديات والمنافسات، والجلسات الجماعية الفكاهية، لو أن أكثر برامج المسابقات التليفزيونية حمقًا ناجحة جدًا فذلك ﻷنه يعبر عن وضع الشركات بصورة دقيقة جدًا، شكّل المصنع الأفراد ككيان واحد لمضاعفة أرباح المدير الذي درس كل عنصر في الكيان والنقابات التي حشدت مقاومة ضخمة، أما الشركات فتبرز دائمًا المنافسات العنيفة كصورة صحية للمحاكاة، وكدافع ممتاز ليتسابق الأفراد ضد بعضهم البعض، ولتكون العداوة حاضرة وتفرق بينهم من الداخل، لم يفشل مبدأ “الأجر تبعًا للاستحقاق” في التأثير في التعليم القومي نفسه، في الواقع مع إحلال الشركة محل المصنع بدأ التدريب الدائم يحل محل المدرسة، والسيطرة المستمرة تحل محل الاختبار، وهي الطريقة المضمونة لنقل المدرسة للشركة.
في مجتمع الانضباط كان يجب على المرء دائمًا البدء من الجديد – من المدرسة إلى الثكنات، ومن الثكنات إلى المصنع – لكن في مجتمع السيطرة لا ينتهي المرء من شيء (الشركة، ونظام التعليم، والخدمة العسكرية) دول ما بعد مستقرة تتواجد جنبًا إلى جنب في نفس التضمين، كنظام عام للتشويه، في محاكمة كافكا، والذي وضع نفسه في نقطة محورية بين تكوينين للمجتمع، وصف أكثر أشكال النظام القضائي تخويفًا، إعفاء مجتمعات الانضباط الواضحة، بين توقيفين، والتأجيل غير المحدود لمجتمعات السيطرة، في تعديل مستمر، هما نظامان مختلفان للحياة القضائية، وإذا كان قانوننا المتردد في أزمة؛ ذلك ﻷننا نترك نظام لندخل في النظام الآخر، مجتمعات الانضباط لها قطبان، البصمة التي تميز الفرد، والرقم أو الترقيم الإداري الذي يحدد موضعه في المجموع، ذلك ﻷن الانضباط لم ير أي تعارض، عدم توافق، بين الاثنين، وﻷن القوة تفرد وتجمع في آن واحد، وذلك بأن تشكل من عليهم تمارس السلطة في الجسد وتقولب فردانية كل عضو في ذلك الجسد. رأى فوكو منشأ تلك الازدواجية في سلطة الكاهن الأبوية على السرب “الرعايا” وكل حيواناته، لكن تسير السلطة المدنية بطرق أخرى لتفرض نفسها ككاهن أو راع في مجتمعات السيطرة، على الجانب الآخر لم تعد البصمة أو الرقم مهمًا ولكن الشفرة، والشفرة كلمة سر، أما في مجتمعات الانضباط تنظم بشعارات – من وجهة نظر التكامل كأسلوب مقاومة – لغة السيطرة الرقمية صنعت من شفرات تسمح بالوصول للمعلومات أو ترفضه، لم نعد نجد أنفسنا نتعامل مع ازدواجية المجموع/الفرد، لقد أصبح الأفراد “كيانات مميزة” (dividual) وتجمعات، عينات أو بيانات للأسواق والبنوك، ربما تعبر الأموال أفضل تعبير عن الفروق بين المجتمعين، فالانضباط يرتبط بالأموال المصكوكة التي تحجز احتياطي من الذهب كمعيار عددي، أما السيطرة فترتبط بمعدلات تبادل حرة، تتغير وفقًا لمعدل مؤسس بمجموعة من العملات القياسية، الخلد المالي القديم حيوان من أوساط التطويق، أما مجتمعات السيطرة فلها الأفعى، لقد انتقلنا من حيوان لآخر، من الخلد للأفعى، في المجتمع الذي نعيش فيه بل وأسلوب حياتنا أيضًا وعلاقاتنا بالآخرين، إنسان الانضباط كان منتجًا متقطعًا للطاقة، أما إنسان السيطرة فيتموج في مدار، في شبكة مستمرة، في كل مكان حل التزحلق محل الرياضات القديمة.
أنواع الماكينات يمكن ربطها بسهولة بكل نموذج من المجتمعات، ليس ﻷن الماكينات محددة، ولكن ﻷنها تعبر عن النسق الاجتماعي القادر على إنتاجها واستخدامها، أنظمة المجتمع الملكية (السيادية) القديمة استعملت الماكينات البسيطة كالروافع والبكرات والساعات، أما أنظمة الانضباط الحديثة زودت نفسها بالآلات التي تستخدم الطاقة، مع خطر العشوائية السلبي وخطر التخريب القائم، تدير أنظمة السيطرة نوعًا ثالثًا من الماكينات، أجهزة الكمبيوتر وخطرها السلبي التشويش، وخطرها الإيجابي (القائم) القرصنة الإلكترونية أو التعرض للفيروسات، ذلك التطور التقني يجب أن يكون وبصورة أعمق تحور للنظام الرأسمالي، تحور مألوف معروف جيدًا بالفعل يمكن تلخيصه كما يلي: رأسمالية القرن التاسع عشر رأسمالية التركيز من أجل الإنتاج والملكية، لذلك فهي تنصب المصنع كمساحة تطويق، والرأسمالي هو مالك وسائل الإنتاج وبصورة أكثر تطورًا، وهو يملك أيضًا مساحات أخرى تعرف بالتماثل (كبيوت العمال العائلية والمدارس).
أما بالنسبة للأسواق فيغزوها التخصص في بعض الأحيان، وأحيانا بالكولونيالية، وفي بعض الأحيان بتقليل تكاليف الإنتاج، لكن في الوضع الحالي، لم تعد الرأسمالية مشاركة في الإنتاج الذي ينفى – يرحل – عادة إلى دول العالم الثالث، حتى بالنسبة إلى أنواع المنسوجات المعقدة، والمعادن، أو إنتاج النفط، إنها رأسمالية الإنتاج ذو الدرجة الأعلى، لم تعد تشتري المواد الخام، ولم تعد تبيع المنتج النهائي، إنها تشتري المنتج النهائي أو تجمع الأجزاء، ما تريد بيعه هو الخدمات وما تريد شرائه هو الأسهم، هذه لم تعد رأسمالية الإنتاج لكن رأسمالية بيع وتسويق المنتج، لذلك إنها موزعة بصورة أساسية، وأفسح المصنع مجالًا للشركة، لم يعد المصنع، العائلة، المدرسة، والجيش مساحات تناظرية مميزة تتجمع ناحية المالك، أو الدولة أو أي قوى خاصة، لكنه كيان مشفر قابل للتشويه والنقل، خاص بشركة واحدة لها مالكي أسهم فقط.
حتى الفن ترك مساحات التطويق ليدخل في الدوائر البنكية المفتوحة، تم غزو السوق بانتزاع السيطرة ولم يعد يتم بالتدريب المنضبط، وبتثبيت معدلات التداول أكثر من تقليل التكلفة، بتحويل المنتج أكثر من تخصيص الإنتاج، وبذلك يكتسب الفساد قوى جديدة، أصبح التسويق مركز روح الشركة – لقد علمنا أن للشركات روح – ويعد ذلك من أكثر أخبار العالم تخويفًا، عمل الأسواق حاليًا أصبح الآن أداة السيطرة الاجتماعية، ويشكل بذلك نسل ساداتنا الوقح.
السيطرة قصيرة المدى، وبمعدل دوران سريع، لكنه أيضًا مستمر وبلا حدود، أما الانضباط فطويل المدة ولا نهائي وغير مستمر، لم يعد الإنسان حاليًا مطوقًا، لكنه مديون، صحيح أن الرأسمالية حفظت كثابت نسبة الفقر المدقع، ثلاث أرباع البشر فقراء لدرجة أكثر من أن يكون لهم ديون، أكثر من أن يحبسوا، لن تضطر السيطرة أن تتعامل مع جبهات متآكلة، ولكن بالانفجارات في مدن الأكواخ والجيتو.
3- البرنامج
تصور ميكانيزم “آلية” السيطرة، معرفة موضع أي عنصر ضمن بيئة مفتوحة في أي لحظة، سواء كان حيوان في محمية أو شخص في شركة بالطوق الإلكتروني مثلًا، ليس بالضرورة خيال علمي، تخيل فيلكس جتاري مدينة حيث يستطيع المرء أن يغادر شقته أو شارعه أو حيه بفضل الكارت الإلكتروني المميز الذي يضع حاجزًا معينًا، لكن ذلك الكارت يمكن نزعه في أيام محددة أو بين ساعات معينة، ليس ما يهم الحاجز لكن القدرة على تتبع موضع كل شخص، قانوني أو غير قانوني، ويؤثر في التشكيل الكلي.
فهمت الدراسة السوسيو- تكنولوجية لميكانيزمات السيطرة في بدايتها، أنها يجب أن تكون حاسمة وأن تصف ما يحل محل مراكز التطويق الانضباطية والتي بانت أزمتها في كل مكان، ربما ﻷن الأساليب القديمة اقتبست من سابقتها المجتمعات الملكية، وستعود للمقدمة لكن ببعض التعديلات الضرورية، ما يهم أننا في بداية شيء ما، في نظام السجن: محاولة إيجاد عقوبات بديلة، على الأقل للجرائم البسيطة، واستخدام الأطواق الإلكترونية التي تجبر المتهم على البقاء في بيته خلال ساعات معينة، أما بالنسبة لنظام المدارس: فرض نظم السيطرة المستمرة والتأثير على مدارس التدريب الدائم، وهجر مقابل لكل جامعات البحث، وتقديم التعاون بين كل درجات التعليم، ولنظام المستشفيات: الطب الجديد دون طبيب أو مريض، الذي ينتقي المرضى المحتملين، والمعرضين للخطر، والذي لا يلتزم بالفردانية بأي حال – كما يقولون – لكن تستبدل الفردية بهيكل الأكواد الرقمي للحالة المميزة قيد السيطرة، وفي نظام الشركات: أساليب جديدة لتداول الأموال، والأرباح، والبشر، لا تمر بصورة المصنع القديم.
تلك أمثلة صغيرة جدًا، لكنها تصف بصورة جيدة المقصود بأزمة المؤسسات، الذي يقال عنه التأسيس التقدمي والمنتشر لنظام هيمنة جديد، أحد أهم الأسئلة سيتعلق بعدم كفاءة النقابات، مع كل تاريخهم من الصراع ضد الانضباط أو داخل مساحات التطويق، هل سيستطيعوا أن يتكيفوا بأنفسهم أو سيقدموا شكلًا جديدًا من مقاومة مجتمعات السيطرة؟ هل نستطيع بالفعل أن نفهم الخطوط العريضة الخشنة للأنساق القادمة، القادرة على تهديد مباهج التسويق؟ العديد من الشباب يتفاخرون بصورة مستغربة بأن عندهم الحافز، ويطلبون مجدًدا التلمذة والتدريب الدائم، إنه عائد لهم أن يكتشفوا ما يجبرون على خدمته، كما اكتشف آباءهم، بصعوبة، هدف الانضباط، حلقات “دوائر” التفاف الأفعى أكثر تعقيدًا من جحور الخلد.
(*) المصنع الاجتماعي: مصطلح صاغه اليسار الراديكالي الإيطالي، وله العديد من التعريفات في الأدبيات الماركسية، وطبقًا لمفهوم المصنع الاجتماعي، فإن طريقة ممارسة السلطة داخل المصنع تعكس الحياة خارجه والعكس، فجدران المصنع تعمل كجدار اختياري النفاذية تعبر من خلاله خطوط ممارسة السلطة، وكذلك ناتج القيمة ومقاومة ناتج القيمة لا تكون داخل حدود مكان العمل فقط بواسطة العمالة المأجورة.
المصدر: libcom