يطير الرئيس الصيني شي جينبينغ باستمرار بين قارات العالم المختلفة، وهو ربما من الزعماء القلائل الذين يفعلون ذلك دون ضجة إعلامية كبيرة كالتي تصاحب الزيارات الرئاسية الأمريكية أو نظيرتها الأوروبية، وهو أمر قد يكون غريبًا للوهلة الأولى بالنظر لكون الصين قوة صاعدة ينبغي أن تكون مهتمة بالـ “ضجيج” الدبلوماسي قدر اهتمامها بالصفقات والاستثمارات، بيد أنه منطقي تمامًا بالنظر لأولويات إستراتيجية بكين العالمية الجديدة، والتي ترتكز بالأساس لترسيخ النفوذ الصيني الاقتصادي كهدف أول، في حين تحل الصورة الدبلوماسية والحضور السياسي القوي متأخرًا في سلم الأولويات.
الصعود الصيني
ليس صعود القوة الصينية بأمر جديد، فقد توقعه المحللون لعقود، وهو أمر منطقي بقواعد الجغرافيا والتاريخ، بل وبحسابات تعداد السكان أيضًا، وهي قوة حتمية الصعود بالنظر للتفوق الاقتصادي الهائل الذي أحرزته الصين منذ قام الرئيس دَنغ شياوبَنغ بفتح السوق الصيني في الثمانينيات، وتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة، ووضع الشيوعية جانبًا واقتصارها ربما على الشعارات واسم الحزب الحاكم ليس إلا.
على مدار العقد المنصرم تحديدًا، قفزت الصين قفزة كبيرة في طبيعة اقتصادها، فالكثير منا يذكر كيف كانت جودة السيارات الصينية التي بدأت تنتشر مع مطلع الألفية الجديدة، بالمقارنة مع التحسن الملحوظ والانطلاقة الكبيرة التي شهدتها مؤخرًا في دول العالم المختلفة، كما يمكن أيضًا ملاحظة دخول الصين إلى مجالات ثقيلة كالإلكترونيات والأسلحة والأقمار الصناعية بشكل يجعلها ندًا في المستقبل القريب للأمريكيين والألمان واليابانيين، بعد أن كانت هناك فجوة كبيرة بينها وبين الثلاثة الكبار في تلك المجالات.
انعكست تلك القفزة بالطبع على أهداف الدولة الصينية، والتي ظلت حتى مطلع القرن الحالي مهتمة بتحسين أحوال سكانها لكسب الرضا العام والحفاظ على شرعيتها، وتوسيع الطبقة الوسطى بشكل كبير، حيث وصلت أعداد الصينيين المحسوبة على الطبقة الوسطى تقريبًا لحوالي 600 إلى 700 مليون مليون هذا العام، مقابل 250 مليون تقريبًا قبل عشرة أعوام فقط، وهو ما يخلق بالطبع طلبًا واستهلاكًا كبيرًا، ويرفع من سقف توقعات مواطنيها فيما يخص جودة منتجاتها بشكل يماثل الطبقات الوسطى في أوروبا وأمريكا واليابان.
لم يكن مفاجئًا إذن أن تمثل رئاسة شي جينبينغ على المستوى الاقتصادي محاولة استيعاب التباطؤ في النمو الصيني، والذي لم يعد بوسعه الإنتاج الرخيص والسريع الذي أتاح له تحقيق معدلات النمو الكبيرة في السابق، وفي نفس الوقت البحث عن دور عالمي للصين تستثمر فيه قوتها الاقتصادية التي تتحول من دور القوة النامية التي ينعكس نموها داخلها، إلى القوة المتقدمة التي يعيش نصف سكانها بالفعل في أوضاع جيدة وتبحث عن بث أموالها واستثماراتها في الخارج للتأثير على النظام العالمي.
الاقتصاد أولًا
يدرك الصينيون جيدًا أن ترجمة قوتهم الصاعدة لصالح تغيير الحسابات الجيوسياسية والعسكرية، سيكون أمرًا شديد الصعوبة، لاسيما وأن بروز الصين العسكري يُقلق محيطها بشكل تلقائي، ويجعلها معزولة نوعًا ما، كما تشي بذلك الأحداث التي تبعت إعلان الصين لمجالها الجوي الخاص المتداخل مع نظيره الياباني، وهجومها على مراكب فيتنامية في المياه الإقليمية لفيتنام، حيث شعرت تلك الدول بالقلق في السنوات الماضية نتيجة تلك التحركات، وبدأت في نسج تحالفات توازن بها الصعود الصيني، لاسيما مع الولايات المتحدة، مما يخلق بالتبعية كماشة حول الصين ممتدة من كوريا الجنوبية واليابان في الشمال إلى الفيليبين وفيتنام وإندونيسيا في الجنوب.
علاوة على صعوبة محيطها الجغرافي، بالمقارنة بالمحيط الجغرافي المفتوح للولايات المتحدة والذي يسمح لها ببث قوتها العالمية بشكل أفضل ويعطيها شعورًا أكبر بالأمن، فإن الصين لا تزال بعيدة جدًا عن اللحاق بالولايات المتحدة عسكريًا، أو حتى بروسيا، حيث تظل كفة التكنولوجيا العسكرية تميل بقوة لصالح الأمريكيين ومن بعدهم الروس، في استمرار للمنظومة التي هيمنت تقريبًا على النصف الثاني للقرن العشرين، وهو تفوق سيستمر طويلًا، وهو أمر تدركه الصين جيدًا، مما دفعها مؤخرًا نحو تبني إستراتيجية تركز بالأساس على الاقتصاد.
الصين هي البلد الوحيد في العالم اليوم، إلى جانب الولايات المتحدة، الذي يملك إستراتيجية اقتصادية عالمية، وهي تنوي تحدي المنظومة الاقتصادية التي تقودها الولايات المتحدة في نفس الوقت الذي تتعامل فيه مع التفوق العسكري الأمريكي كأمر واقع، وبنك البنية التحتية الأسيوي هو أحد أهم مشاريعها الطموحة لتحقيق ذلك الهدف، والاقتصاد خيار طبيعي للصين بالنظر لامتلاكها فائضًا ماليًا كبيرًا يمكن استثماره على مستوى العالم في خلق نفوذ اقتصادي للصين تعوّض به تخلفها العسكري.
يقول ماثيو جودمان، متخصص في الاقتصادات الأسيوية، إن بنك البنية التحتية سيكون في الحقيقة صغيرًا على أن يُحدِث تأثيرًا كبيرًا، أو أن يشكل تحديًا سريعًا للمنظومة الدولية ومؤسساتها، لاسيما أن الصين في هذه المرحلة تستفيد أصلًا من النظام الاقتصادي القائم، وتحاول فقط أن تخلق مساحات لنفوذها التجاري الخاص في قلب هذا النظام، وهو ما يعني أن البنك، وأي مبادرة أخرى قد تتبناها الصين خلال العقدين المقبلين، ستكون في هذا إطار تعزيز وجودها وقوتها ليس أكثر، ولكن ليس خلق نظامًا جديدًا.
ولكن، على المدى البعيد، وحتى نهاية القرن الحالي، من المتوقع أن تكون تلك المؤسسات نواة لتحدى النظام الدولي القائم، والذي تم تدشينه بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة في أسيا والتي ستشكل مستقبلًا أكثر من نصف الاقتصاد العالمي، ولكن قدرة الصين على النجاح في الدفع بتلك المؤسسات قدمًا يعتمد على إثباتها لكفاءتها في تنمية الدول التي سيعمل بها بشكل أفضل من نظيرتها الأمريكية والأوروبية، والتي ليس لها بديل وند قوي حتى الآن منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، والذي فشل هو نفسه في طرح بديل على مدار خمسين عامًا.
كيف تتعامل أمريكا مع الصعود الصيني؟
على العكس مما جرى في الحرب الباردة، يدرك الطرفان الأمريكي والصيني أنه لا مصلحة لأي منهما في خلق خطاب عن “صراع بين قطبين جديدين”، وأن المنظومة الاقتصادية والسياسية العالمية ذاتها أصبحت شديدة التعقيد على أن تُختَزَل في مفاهيم بهذا الشكل، لاسيما وأن اقتصاديهما متشابكان بشكل يجعل كليهما، للمفارقة، معتمدًا بقوة بشكل ما على عافية الآخر الاقتصادية، مما يخلق مصلحة مشتركة بقدر ما يخلق تنافسًا، على عكس العلاقة الصفرية التي جمعت موسكو وواشنطن في السابق نظرة لعزلة الأولى الاقتصادية أثناء الحرب الباردة.
لا تتسم نظرة واشنطن لبكين بالقلق الشديد، إذ إنها تدرك أن هناك العديد من العوامل التي يتسم بها الاقتصاد الأمريكي ستظل تمنحه تفوقًا على الصعيد العالمي بشكل كبير، حتى ولو زاد نصيب الصين من كعكة الاقتصاد العالمي، أبرزها بالطبع المجتمع المفتوح ومتعدد الثقافات الذي يخلق بيئة دينامية وديمقراطية، والتي عادة ما تعزز من التفوق الاقتصادي في ظل منظومة السوق الرأسمالي المفتوح، أضف لذلك أن الخطر العسكري الذي تمثله الصين بعيد تمامًا عن تهديد الولايات المتحدة، وأقصى ما يمكن أن يصل له خلال العقود المقبلة هو الالتفاف حول القواعد العسكرية الأمريكية في المحيط الهادي.
بالطبع، تدرك الصين ذلك جيدًا، وهي تسعى لذلك لخلق حلفائها من بين الدول النامية، خاصة تلك التي لم تستفد كثيرًا من الدعم الأمريكي، ليكون لها ظهير في الساحة بعيد عن النفوذ الأمريكي، ويمثل نواة لتدعيم مؤسساتها المالية الخاصة، ولا يدلل على ذلك أكثر من الرحلات الكثيرة التي قام بها الرئيس الصيني إلى أفريقيا وأمريكا اللاتينية، ومشروع طريق الحرير الذي سيصُب الأموال الصينية في أسيا الوسطى ويربطها بإيران ومن ثم الشرق الأوسط، وبالنظر لتراجع أولولية هذه المناطق في السياسة الأمريكية وقدرة الصين على تعزيز التنمية فيها.
قد تكون المفارقة في اللعبة الجارية الآن بين واشنطن وبكين هي أن الأولى تعتمد بشكل كبير على ترسيخ وجودها في أسيا عبر اتفاقية التجارة للمحيط الهادي، في حين تنظر الأخيرة إلى الحصول على موطئ قدم خارج شرق أسيا والاهتمام بالقارات الأكثر فقرًا لتدعيم أركان المؤسسات التي، أقل ما يُقال عنها، إنها تود أن تكون على قدم المساواة يومًا ما مع مؤسسات النظام المالي في نيويورك، لا بالضرورة أن تحل محلها.