ترجمة وتحرير نون بوست
عدت مؤخرًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن كنت أعمل بتدريس الكتابة والخطابة في قطر، وهي الإمارة الخليجية التي ذاع صيتها في الأخبار في الآونة الأخيرة، في مواضيع تتعلق بتنظيمها لنهائيات كأس العالم لكرة القدم 2022، رغم انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد والاتهامات بالفساد.
بشكل عام، عندما أروي للناس تجربتي في الدوحة، العاصمة، أتحدث بدون توقف وأنا أسرد ما تعلمته حول الزي المحلي التقليدي للقطريين، المواد الغذائية، المزيج الانتقائي للمغتربين في قطر، حركة المرور، الصحراء، الحر، الرطوبة، سوق العمل، وفي المقام الأول، كيفية نطق اسم “قطر” باللغة العربية، وغالبًا ما أتواجه بذات السؤال المتكرر من مختلف الأشخاص “إذا سنحت لي الفرصة، هل يجب أن أذهب للعمل هناك؟”
هذا السؤال يتعلق بعدة مواضيع، فرغم سوء الصحافة، بيد أن قطر لديها الكثير لتقدمه للباحثين عن العمل، وخصوصًا بالنسبة لسوق العمل الأمريكي؛ ففي الدوحة، المعيشة مريحة، والأجر جيد، ومكيف الهواء بارد، ولكن مع ذلك، فإن الإجابة على السؤال السالف الذكر معقدة، فبعد كل شيء، الصحافة السيئة تخفي خلفها الكثير من الحقائق؛ وفي الوقت الذي لم تثبُت به اتهامات الفيفا على قطر بعد، إلا أن استغلال العمالة أمر تراه في كل مكان من قطر، وهو موثق بشكل جيد، وهو أيضًا مشكلة مستمرة، حتى بدون وجود كأس العالم؛ فالعمل في دول مجلس التعاون الخليجي بشكل عام، من المملكة العربية السعودية إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، يحمل سجلًا حافلًا غاية بالسوء من اضطهادات العمال.
إذن، جوابي على هذا السؤال يرتبط بحقيقة أنه بالنسبة لي، العيش والعمل في دولة قطر كان تجربة مفيدة، ولكنها ليست بالضرورة مفيدة للأسباب التي كنت أعتقد أنها مفيدة لي، باعتباري شاب في العشرينيات من العمر، أحمل زادًا تعليميًا أكثر مما أحمل من أفكار تتعلق فيما يجب أن أقوم به في مهنة التعليم؛ ففي السنوات الثلاث ونيف التي عشتها في قطر، أصبحت أقول عن الدوحة وطني، وتعلمت الكثير عن المساومة الأخلاقية.
لوهلة أصبحت مقتنعًا كما لو أن الجميع يعرف شخصًا ما يعمل في قطر، والسبب بذلك يعود لكون قطر دولة حديثة، تعيش حالة ازدهار اقتصادي، مع الكثير من المال لتنفقه، وعدد ضئيل من السكان الأصليين، الذين يحجمون عن العمل من جهة، ومن جهة أخرى يفتقرون عمومًا لليد الماهرة والعمال من ذوي الياقات البيضاء اللازمين لتطوير اقتصاد متنوع، ونتيجة لذلك، توفر قطر الكثير من فرص العمل للأجانب المثقفين، وبشكل خاص الغربيين، للمساهمة والكسب من النمو الاقتصادي للبلاد، وقد يتوقف بعض الأشخاص في قطر لرحلات عمل مقتضبة، والبعض يضرب جذوره في أرض قطر – أو رملها لنكون صادقين -، والبعض يعملون بذكاء وحسن نية وجدية، في حين أن البعض الآخر هم مجرد مستفيدين وفارغين يتحدثون بلهجات فاخرة مطنبة بالجعجعة الفارغة.
ليس من المستغرب أن تجد في قطر أناسًا يتطلعون لخلق جو تنافسي ما بين العمال، من مديري الثروات الإنجليزيين، إلى مهندسي الحفر الألمانيين، مرورًا بعمال البناء النيباليين والخادمات الفلبينيات؛ فبفضل قربها من الغاز الطبيعي المسال، تجثم قطر على كمية تبدو لا تنضب من المال، وهي على استعداد لإنفاقه بأكمله؛ لذا بغض النظر عن التبريرات المختلفة حول نوعية العمل والثقافة، التي يقدمها الأشخاص الذين يذهبون للعمل في قطر، يجب أن تدرك أن الجميع يذهب إلى هناك بهدف المال، وحتى أولئك الذين يعملون في مجالات التعليم، أو الفنون، أو الصحافة، أو في المجالات التي تتميز بأجورها المنخفضة وعدم استمراريتها، سوف يجدون في قطر رواتبًا أعلى، وتمويلًا أكبر من أي بلد آخر في العالم.
بالنسبة لمعظم الأمريكيين، العمل في الدوحة هو ترقية كبرى لنمط حياتهم، فالعمل هناك سيكسبك أموالًا للقيام بأشياء لا يمكنك تحمل مصاريفها لو كنت تعمل في نيويورك أو ويتشيتا، ولكن في نهاية الأمر أنت بحاجة لهذه الكم الكبير من المال، لأن الحياة في قطر غالية بشكل متناسب مع ارتفاع الدخل، حيث إن الإيجارات مرتفعة، والسلع مكلفة، والملابس والإلكترونيات والكتب – إذا عثرت عليها -، جميعها مثقلة بمبالغ إضافية باهظة، نتيجة لصعوبة إدخالها إلى قطر، وبالمثل، فإن الأوقات الممتعة تأتي مع ثمن باهظ أيضًا، لاسيّما إذا ترافق قضاؤك لهذه الأوقات مع طلب المشروبات الكحولية، والطعام هناك ليس استثناءًا من غلاء المعيشة، سواء قمت بشراء احتياجاتك من متجر كارفور، أو طلبت عشاءً في مطعم نوبو أو هاكاسان، ولكن مع ذلك، مع بعض التفكير السليم، والقليل من ضبط النفس، بإمكانك توفير مال يساعدك للإقامة في مدينة جديدة، أو للقيام بكل ما ترغبه عند مغادرتك لقطر.
بالنسبة لي، لم يكن لديّ أي خطة محددة عندما ذهبت إلى قطر، وفي الواقع، إذا قلت لي في يوليو 2011 أنني سأكون في قطر بحلول 20 أغسطس، فربما كنت سأعتبرك هاذيًا، والشيء الذي لم أكن أعرفه عندما حضرت إلى قطر، هو أنه بعد ثلاث سنوات في برنامج الكتابة، وثلاث سنوات من ورش العمل والقراءات ومؤتمرات خطة العمل السنوية، يجب عليك لتحافظ على صحتك، أن تخرج نفسك من هذه الخلطة الغريبة لبعض الوقت.
الدوحة عمومًا هي مدينة مملة، وفق ما تذكره معظم العمالة الوافدة التي تلتقيها هناك، وعلى الرغم من وجود بعض الحانات والنوادي الليلية في الفنادق، بيد أن الدوحة ليست معروفة بأنها مدينة حياة ليلية عامرة مثل دبي على سبيل المثال، وفي أغلب شهور السنة، تقتصر الأنشطة النهارية بالغالب على الذهاب إلى الأماكن المغلقة مثل مراكز التسوق، بسبب الحرارة المرتفعة بشدة، كما أن الفنون لا تتمتع بانتشار كبير في قطر، والفرق الرياضية المحلية كئيبة جدًا، والأفلام التي تُعرض في السينما، يتم فرض الرقابة عليها وتُحذف مشاهد منها لتلائم الحاجات الأخلاقية لسكان الدولة، ولكن مع ذلك، سأكون كاذبًا لو قلت أنني لم أقضِ وقتًا ممتعًا، وأنني لم أرحب بالتغيير شبه الجذري عن وتيرة الحياة التي كنت أعيشها عندما كنت أدرس في الجامعة.
هناك أكثر من مليوني شخص في قطر، ولكنك لن تلتقي أو تتفاعل مع معظمهم، فسكان قطر الأصليين يميلون للحفاظ على مسافة تفصل بيهم وبين العمالة الوافدة، رغم أن القطريين لا يشكلون سوى حوالي ثمن سكان البلاد، ومعظم السكان في قطر هم من العمال الأسيويين والأفارقة الذين يتقاضون مبالغ ضئيلة، ولكن ربما لن تلتقي مع هؤلاء أيضًا، على الأقل ليس في كثير من الأحيان، إما لأن أصحاب العمل يسيطرون بإحكام على حياة هؤلاء العمال، أو لانعدام وقت الفراغ لديهم نتيجة لغياب الدخل المناسب، وبالتالي، كشخص من جنسية أمريكية، عدد الأشخاص الذين يمكنك فعلًا الوصول إليهم هو صغير جدًا بالنسبة لمدينة كبيرة، ولهذا السبب، لا توجد مجموعات فرعية مجتمعية ناشطة بشكل حقيقي، مثل مجتمعات الكتابة أو المجتمعات الموسيقية.
لذا، وبدلًا من ذلك، تجبرك قطر على الخروج من مناطق راحتك المهنية والثقافية؛ ففي ليلة معينة، قد تتشارك كوكتيل المشروب الكحولي اللبناني “دودو”، مع أحد الأشخاص الذين يعملون في بعثات الأمم المتحدة القادمين من كل بقاع الأرض، أو قد تمضي وقتك مع خبراء السياسة الخارجية، المحامين الدوليين، مهندسي الحفر، المراسلين الأجانب، الموثقين، الأمناء، لاعبي الأسطوانات، الدبلوماسيين، وحتى قد تكوّن صداقات مع مواطنين قطريين منفتحين، لا يمانعون من مشاركتك في وجبة طعام أو في جلسة شيشة، أو حتى في بعض الأحيان، في مشروب كحولي.
ومع ذلك، فإن جماليات الحياة في الدوحة تأتي مع تكلفة نفسية باهظة، فحتى لو كنت قادمًا من خلفية بسيطة، وتشير لنفسك بأنك لست أحد أولئك الأشخاص الذين يرتادون المطاعم الفاخرة، أو يستأجرون السيارات الفارهة، أو يحضرون الحفلات المخملية، وحتى لو كنت أحد الأشخاص الذين لا يسرفون المال على البدلات الراقية المفصّلة خصيصًا لك، ولا يدفعون مبالغًا إضافية للتسوق من محلات البقالة الغربية، ولا يحجزون لعطلة نهاية أسبوع باهظة الثمن في دبي، ولا يستأجرون فيلا في مجمع مسوّر، أو شقة في أحد المباني المرتفعة المطلة على ناطحات السحاب والطرق السريعة الملونة المنتشرة إلى الخارج، وحتى لو حاولت حقًا أن تعيش بشكل متواضع، إلا أن الدوحة ستغيّر الطريقة التي تنظر فيها إلى الحياة الطبيعية والاعتيادية، وحتى لو لم تجارِ جميع أنماط حياة العمالة الوافدة الغنية، فإن بعض هذه الأنماط ستزحف بالتأكيد إلى حياتك، كما تتسلل الرمال من تحت النوافذ والأبواب في المدينة الصحراوية.
الجانب الإيجابي في الموضوع، هو أن الدوحة هي مكان عظيم لتذهب إليه لتبدأ حياتك المهنية، أو إذا كانت تعوزك فرص العمل في وطنك الأصلي؛ ففي الدوحة، ملحقات الأسماء في الأوساط الأكاديمية مثل “البروفيسور لمادة كذا وكذا” ستحلق باسمك فورًا في المدينة التعليمية، ويمكن للصحفيين أن يصبحوا لاعبين محوريين في مكتب الأخبار الشهير لقناة الجزيرة، والحاصلين على ماجستير في تاريخ الفن العاطلين عن العمل، يمكنهم العثور على عمل مغري ومربح في تنظيم المعارض لصالح هيئة المتاحف، وهنا بعض الأشخاص يتحولون ليصبحوا أساطير محلية، ويُنظر إليهم كمفكرين عظيمين، في الوقت الذي لم يكن أحد يلقي مسامعه إليهم في وطنهم، ولكن بغض النظر عما تقدم، فإن الكثير من المنظمات والشركات في قطر تقوم ببعض الأعمال الاستثنائية بالفعل، واعتمادًا على المكان الذي تعمل فيه، قد يكون لديك فرصة للمساعدة في بناء شيء جدير بالاهتمام.
ولكن بينما تكون على أقل تقدير تعمل على حشو ملفك الشخصي في موقع لينكد إن “LinkedIn” بالمعلومات، فلن تستطيع أن تفر من نظام الاستغلال الفج الذي يمكنك الاستفادة منه بشكل عام، وبالنسبة لي، وبوصفي أعمل كمدرس في الكلية، فقد كنت أحاول أن أجد توازنًا طفيفًا أقنع به طلابي القطريين؛ فالحياة في قطر تعيشها بأحد الطرق التالية، إما أن تشرب الكرك القطري، وتزايد في بيع وشراء المواقف الوطنية، فيما يخص خطاب الرؤية الوطنية 2030 واستعدادات قطر لنهائيات كأس العالم 2022، أو يمكنك أن تتماشى مع الجوانب السلبية للحياة هناك، وتبذل قصارى جهدك لتكون فعالًا فيما تفعله، أو قد تتصرف بنوع من اللامبالاة، وتقوم بتسييل جميع الشيكات، وتصرف جميع ما بحوزتك.
بالنسبة لي، كان الجزء الأكثر حماسة في عملي، هو تعليم النساء، نعم النساء، فهناك يوجد صفوف منفصلة لهن، لأن اهتمام النساء بالتعليم أكبر من اهتمام الرجال به، فهن يرون التعليم باعتباره وسيلة لشيء أكبر من مجرد أجر أفضل في الوظائف الحكومية المحمية المخصصة لهن؛ فالتعليم بالنسبة للنساء القطريات هو شكل من أشكال تمكينهن وقوتهن، وبالنسبة لعدد قليل منهن، هو عبارة عن أمل للخروج من الخليج للدراسة في المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة، وهذا ليس بالشيء الهين في بلد يتم فيه منع النساء القطريات – حتى البالغات منهن – من السفر لوحدهن بدون محرم.
الجدير بالذكر، أن النساء المجتهدات في الفصل الدراسي، واللواتي قاومن الضغوطات التي مورست عليهن للزواج بعمر صغير، يتحملن تصرفات مناكفة صادرة عن أقرانهن، حيث تتمثل هذه التصرفات في غمز ولمز بالعيون، أو ضحك سري، أو شتائم هامسة باللغة الخليجية، حتى لا يستطيع المدرس فهمها، أو على شكل أوراق صغيرة يتم تناقلها في الصف، أو عن طريق تجنبهن في مقاصف الجامعة، وما إلى ذلك من التصرفات والسلوكيات الطفولية الصادرة عن بالغين في منتصف العشرينات، وبشكل عام، كانت رؤية الطالبات المصرات على التعلم رغم كل شيء آخر، ورغم المنع الصادر بحق بعضهن عن حضور المحاضرات من قِبل أزواجهن المستبدين، كان يدفعني، وباقي زملائي المدرسين، للعمل بجد أكبر.
ولكن هذا لم يكن السبب الوحيد الذي دفعني للاستمرار في قطر، كون هذا المكان لديه وسائله الخاصة التي تستطيع امتصاصكم ضمن وسائل الراحة المادية، وفرص السفر التي يؤمنها، وهذا ما يجعل الإنسان يسلوا وينسى الأشياء السيئة المحاط بها بكثرة، وربما تتحول الأمور نحو الأسوأ، عندما يصبح معتادًا عليها؛ فأنا كمدرس مثلًا، أصبحت معتادًا على الغش المستشري في الكليات، وعدم الأمانة الأكاديمية، والموظفون الأجانب عمومًا تعودوا على التنافر والتضاد القائم ما بين الجعجعة الخطابية التي تثني على الدولة، وعمليات التقلب الإداري الفعلي التي تعاني منها هياكل الإدارة المحلية، وتشل قدرات الموظفين على القيام بأعمالهم، وعندما تتفاقم الأمور إلى درجة كبيرة، تصبح كإنسان معتادًا على رؤية العمال الهزالى في مواقع البناء وأنت تمر بجانب فندق كمبينسكي أو الفور سيزنز، وتعتاد على رؤية الرجال القطريين وهم يرهبون، وأحيانًا في الواقع يضربون، سائقيهم الجنوب أسيويين على جانب الطريق، كما يصبح مشهد العمال المصطفين بيأس في أوقات استراحاتهم في خط واحد في ظل شجرة نخيل واحدة، على الرمال النزقة من شمس أغسطس المحرقة، مشهدًا عاديًا، ولا يستوقفك أيضًا مشهد الباصات غير المكيفة التي تحمل العمال من وإلى مساكنهم المكتظة، ولا تتوقف لتشير إلى الطريقة التي يضغط بها الرجال وجوههم المغبرّة خارج النوافذ المفتوحة لتنشق الهواء.
قطر تعمل وفق قانون للهجرة معروف باسم نظام الكفالة، فللعيش في هذه البلد، أنت تحتاج إلى كفالة من صاحب العمل، وهذا أمر طبيعي، حتى تدرك أنك لا يمكنك ترك البلاد بدون إذن كفيلك، سواء أكان ذلك لرحلة قصيرة في نهاية الأسبوع، أو بغية الانتقال الدائم، وبشكل عام، وكأمريكي، نادرًا ما يرفض الكفيل توقيع إذن مغادرتك، ولكن مع ذلك، تحصل هذه الأمور في بعض الأحيان، فقد تصادف صديقك الذي كنت تعتقد أنه سيكون في عمان لتقضية عطلة نهاية الاسبوع، في الخمارة وهو يحدق بغضب وبحالة من السكر إلى مشروبه الكحولي الذي أمامه، كون كفيله لم يوقع على استمارة الموافقة على سفره، والغربيين يميلون لمجرد القبول بهذه المخاطر بدون إدراك نتائجها.
هذا القانون له عواقب وخيمة على الطبقات العاملة الدنيا في قطر، حيث يتم في أغلب الأحيان مصادرة جوازات سفر هؤلاء العمال من قِبل أرباب العمل، وحرمانهم من الخروج من البلاد حتى الوفاء بالتزاماتهم التعاقدية، علمًا أن هذه الالتزامات لا تتوافق مع ما كان يتصوره العامل عندما دفع المال لشركات التوظيف، وقطع بطاقة رحلة في اتجاه واحد إلى مطار حمد الدولي.
المواطنون القطريون بشكل طبيعي، يمتصون أعلى المداخيل في البلاد، ويتبعهم في ذلك المغتربون الغربيون بدرجة أو بدرجتين، وهذا الاختلال في ميزان الدخل التجاري في البلاد، يتوازن على حساب العمال الذين يقعون في أسفل درك النطاق الاقتصادي؛ فرغم جميع المهرجانات الخطابية التي تتحدث عن تحول قطر إلى نموذج للحداثة مع قدوم كأس العالم 2022، بيد أن العمال الذين يبنون بأيديهم على أرض الواقع البنية التحتية للبلاد، لا يستفيدون ماديًا من هذا النموذج الحداثي، وعلى الرغم من أن أكثر من نصف البلاد هم من جنوب أسيا (من الهند والنيبال وباكستان والبنغال وسريلانكا)، بالإضافة إلى الفلبينيين والمصريين الذي يشكلون أجزاء كبيرة أخرى من السكان، إلا أن هذه الجماعات هي الأكثر فقرًا والأكثر تعرضًا للإساءة والاستغلال.
اليد العاملة المهاجرة وعاملو الخدمات الذين يرجعون بجنسياتهم إلى هذه الدول، لا يحصلون سوى على بضع مئات من الدولارات في الشهر، وغالبًا ما يرزحون تحت وطأة الدين الذي رتبوه على عاتقهم بغية الوصول إلى هذه البلاد، ليتمتعوا بشرف العمل بالخارج، في دولة تصل بها درجة الحرارة إلى 49 درجة مئوية، ونتيجة لنقص تدريبهم وخبرتهم، وعملهم في ظروف عمل وإجراءات سلامة ورقابة يرثى لها، يعاني هؤلاء العمال بشكل روتيني من الإصابات والوفيات في مواقع العمل، وفي ذات الوقت، غالبًا ما يعاني الموظفون في الفنادق والمنازل الخاصة والشركات من سوء المعاملة النفسية أو الجسدية أو الجنسية، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى هنا، ولكن هيومن رايتس ووتش وغيرها من المنظمات وثقت هذه الانتهاكات بدقة.
هذا هو التسلسل الهرمي الذي يمكنك المشاركة فيه من خلال العمل في قطر، لذا للإجابة على السؤال الذي طُرح في البداية، أنت ذاتك بحاجة إلى التفكير حول ما إذا كان يمكنك قبول العيش في دولة أقرب ما تكون إلى دولة الرقيق يمكنك أن تجدها في القرن الـ21 وفي عام 2015، يمكنك أن تفكر مثل الكثير من المهنيين، وتكون متفائلًا حول الأمور الرائعة التي يمكنك القيام بها في هذه البلاد التي تخطو خطوات حثيثة في مجالات الصناعة الطبية، والتعليم، والفنون، وجميع الأمور الإيجابية الأخرى، وفي بلد تنتهج طريق الانفتاح، ولو بوتيرة بطيئة، ولكن عليك أن تدرك أن كل هذا، لا يزال قائمًا على نظام العمل الاستغلالي، وفي بلاد تدرك أن هذا النظام مجحف، آخذين بعين الاعتبار حبس الصحفيين الذين حاولوا توثيق نظام العمل في قطر، وفوق كل شيء، لا يزال شتم من هم في السلطة في هذه البلاد، قد يعرضك لحكم بالحبس مدى الحياة.
على أرض الواقع، عليك أن تقرر ما إذا كان المال وفرصة العمل، يستحقان استمرار انتهاكات العمال، التي يساعد وجودك في قطر على إضفاء الشرعية عليها، من خلال كونك جزءًا منها، فأنت تعمل في مكان قائم على ممارسات عمل قد تكون محظورة في وطنك الأم، إنه حقًا ليس خيارًا سهلًا، وخصوصًا عندما تتواجه مع فرصة عمل مهنية كبيرة تطرح نفسها أمامك هناك، لكنك تقوم ضمنيًا باتخاذ قرار بترجيح المال على الانتهاكات، بمجرد قبولك لهذه الفرصة، وقد لا تستطيع إدراك هذا الأمر في البداية، ولكن عليك أن تكون بليدًا عمدًا حتى تستطيع أن تتجاهله عندما تصبح في قطر.
من وجهة نظر شخصية، أنا أعترف بأنني أصبحت إنسانًا أفضل بعد قضائي لتلك الفترة في الدوحة، حيث ساعدني تغيير المشهد على أن أصبح أستاذًا أفضل، وكاتبًا متمكنًا بشكل أكبر، وتعلمت كيفية السفر أيضًا، وأصبحت أكثر ارتباطًا بعلم الاجتماع السياسي الحساس في الشرق الأوسط، لقد التقيت بأناس رائعين وفريدين من نوعهم، لم يكن لي أن ألتقي بهم لولا وجودي هناك، شاهدت غروب الشمس الأكثر إحمرارًا الذي قد أشاهده في حياتي، واكتشفت أن الفرس والباكستانيين لن يتفقوا أبدًا على وصفة الرز الأفضل التي يحضرونها، لقد اكتنزت ما يكفي من القصص لأسردها على مدى كامل حياتي.
نعم، يمكنك الذهاب إلى قطر، وهناك ستعيش بشكل جيد، وستطور حياتك المهنية، وستوفر بعض المال، ولكن عليك أن تدرك أنه في الوقت الذي تقوم فيه بإيفاء ديونك الدراسية، أو توفير بعض المال لشراء بيت لك في الوطن، فإن الكثير من الأشخاص ليسوا محظوظين مثلك في هذا البلد، والسبب الوحيد لذلك، هو اسم الدولة المطبوع على واجهة جوازات سفرهم.
أخيرًا، ربما لا تختلف قطر كثيرًا عن أي بلد مزدهر آخر، فيكفي أن نتبع سلسلة السلع والخدمات التي نشتريها إلى مصادرها، لندرك أننا في كل مرة نشتري فيها منتجات أو ملابس رخيصة، نصبح فيها جميعًا أطرافًا في نظام ظالم بطرق لا تعد ولا تحصى، ولكن الشيء المختلف في قطر، هو أن استغلال العمال منتشر في كل مكان، حتى في العراء، ولا يمكنك أن تشيح بوجهك بعيدًا عنه، أو تتفادى التفكير فيه.
المصدر: ذي بيلفولد