منذ أن تم التوقيع على اتفاق التهدئة بين حركة حماس وإسرائيل، ضمن وقف إطلاق نار ضمني في أواخر شهر أغسطس الماضي بوساطة مصرية، فقد دأبتا على الحفاظ عليه على مدى الأيام، حتى في ظل مواصلتهما تهديداتهما المتبادلة، من أنهما مستعدتان لإشعال الحرب من جديد، وحتى في ضوء قيام جهات سلفية فلسطينية بمحاولة تكدير الوضع ضد حماس باعتبارها عدو، ومحاولة إسرائيل تحميلها المسؤولية، باعتبارها هي من تقوم بإدارة المكان.
ومن ناحيةٍ أخرى، وبرغم قيام كل منهما، بنفي الأنباء الواردة حول محاولتهما إنشاء تفاهمات لتهدئة مُزمنة، إلا أن نشاطاتهما وسواء التكتيكية أو الإستراتيجية، تقود إليها كحقيقية لا تحتاج إلى التخبئة، حيث إن نفيهما كان رقيقًا وغير كافيًا لأن يقتنع به أحد، وفي ضوء كثرة من المتربصين الذين لم يسكتوا عن التفتيش برهة واحدة عما يدور خفية، والذي يجري بوساطة غربية، حيث أصبح بالوسع منذ الآن، الاستنتاج بحدوثها كحقيقة واقعة، وخاصةً في أعقاب قيام أسامة حمدان عضو المكتب السياسي ومسؤول العلاقات الخارجية التابع لحركة حماس، بأن الحركة تسلمت أفكارًا مكتوبة تتعلق بملف التهدئة، وهي بصدد وضع اللمسات الأخيرة بشأن توقيع اتفاق.
في حالات كثيرة تتطلب المفاوضات بشأن أية مسألة على السرية، لاعتبارات كثيرة ومختلفة، وهو ما حدث لهذه التفاوضات باعتبارها أكثر حساسة، ولا تقل صعوبة عن مفاوضات وقف الحرب، بسبب أنها مبنية أيضًا على حسابات (مكاسب – تكاليف) وباعتبار الوصول إليها بمثابة (إنجاز أو إخفاق)، ففي كل حالة مشابهة، تُجري الأطراف بطبيعتها حروبًا تحاورية سرية وخطِرة في ذات الوقت، وهي لذلك تستعمل جهات أخرى خارجية، وسواء كانت منتفعة أو مُحايدة، وتتبع سبُلًا ربما لا تخطر على بال أحد، وهي وإن أدت إلى خلل أو إلى تعقيدات دبلوماسية، لكن في النهاية يكون اتفاق، وخاصة في حال وجود دوافع مركزية لإرسائه.
دوافع الركض نحو التهدئة، لدى كل من حماس وإسرائيل، علاوة على أنها موجودة، فإنها مُتكافئة أيضًا، كما دلت عليه وضمنته نتائج ليس عدوان (الجرف الصامد) في يوليو الماضي بمفرده فقط، بل ضمنته نتائج جملة العدوانات الإسرائيلية الفائتة، حين قيمها الخبراء بأنها كذلك، بمعني أن هناك إنجازات وإخفاقات متبادلة ومتساوية تقريبًا، وساوت بينهما تقارير محلية ودولية بشأن ارتكابهما جرائم حرب أيضًا.
تأتي الدوافع الإسرائيلية، من ناحية أنها تريد وقف الساعة، التي بدأت تدور ضد حساباتها، ففي العالم باتت تئن تحت وطأة تهديدات مختلفة، من المقاطعة والعزل، وتلك التي في النهاية تصب باتجاه نزع الشرعية عنها، كما أنها تبحث متلهفة، عن شيء من الاستقرار الداخلي بمستوياته المختلفة، ومن ناحيةٍ أخرى، فإنها تريد الحفاظ على الوضع الفلسطيني كما هو، من حيث الانقسام وإلى ما لا نهاية، إضافة إلى أن عدم موافقتها على كل اشتراطات حماس، وبما لا يجعلها تتخلى عن فكرة التهدئة، هي من المحاسن التي تراها مناسبة، ويمكن إضافة أن التطورات الدبلوماسية الإيجابية مع بعضٍ من الدول العربية، وبخاصة المملكة السعودية، باعتبارها إنجازًا خارقًا أيضًا.
وكان الكثيرون قد شددوا داخل القيادة الإسرائيلية على الضرورة الماسة لتوقيع اتفاق تهدئة ولو ليومٍ واحدٍ فقط، وأن إعادة إعمار القطاع حجة دامغة، وكان الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين، قد صرح بأن إعمار القطاع هو مصلحة إسرائيلية في الباب الأول، كما أن رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو مقتنع بذلك، وإن استند على توصيات المؤسسة العسكرية، التي قالت بقبول التهدئة وإعادة الإعمار باعتبارهما الأساس لضمان الهدوء مستقبلًا.
دوافع حماس أيضًا، تبدو مناسبةً لها، تبعًا للواقع المُعاش بعامته، وخاصةً في أعقاب العدوان الإسرائيلي الأخير وما لحق به من تداعيات وتعقيدات مبرمة، فكما هي مهتمة برفع الحصار والذي لا يغيب عنها في السر والعلن، باعتبار الحصول عليه يمثل إنجازًا فخمًا، فهي بحاجة إلى تقييم نفسها سياسيًا وعسكريا من جديد أيضًا، كما ويفتح المجال أمامها، نحو إمكانية تعبيد منظومة دبلوماسية مع الخارج للبناء عليها من لحظة التوقيع عليه فصاعدًا.
في نظر السلطة الفلسطينية، وبرغم دأبها طوال المدة الفائتة، على نية التصدي ومواجهة أي اتفاقات من هذا النوع، وفي ظل مطالباتها الفائتة بضرورة رفع الحصار، لتمكين السكان من استرجاع أنفاسهم، فإن ذلك الاتفاق يبدو حسنًا لديها، وإن كان مشروطًا بأن لا يمس من قريبٍ أو بعيد وحدة الفلسطينيين، وأن لا يكون تمهيدًا للقبول بدولة ذات حدود مؤقتة.
وإن كان هذا النظر مقبول لدى حماس، وبإضافة أنها – وحتى في ضوء سماعها بأن هناك فصائل فلسطينية مُعارضة – تأخذ على نفسها مراعاة أخذ رأي تلك الفصائل، قبل التوقيع على أي اتفاق، لكنها لن يكون بمقدورها، العودة إلى ما كانت عليه بشأن المصالحة الوطنية، وذلك في حال لم تكن هناك حوافز أفضل من ذي قبل، والتي تسعى إلى ضمانها، باعتبارها لديها تُمثل الإنجاز التالي الكبير.