ما إن ظهرت نتائج الانتخابات التركية مساء 7 يونيو الماضي والتي أفضت إلى أن حزب العدالة والتنمية لن يستطيع تشكيل الحكومة بمفرده، حتى بدأت الأنظار تتجه إلى المواقف وردود الأفعال الصادرة عن الأحزاب التركية جميعها، ولعل القاسم المشترك بين هذه الأحزاب هو احترام إرادة الناخب التركي والتأكيد على ذلك إضافة إلى الإعلان عن أفضلية تشكيل حكومة ائتلاف على السير نحو انتخابات مبكرة، وهذه نقطة تستدعي الاحترام كما أنني لم ألاحظ حديثًا عن وجود عمليات تزوير أو وجود طعونات جوهرية ولا أدري هل كان سيحصل هذا لو كانت النتائج مختلفة.
لقد كان واضحًا أن أحزاب المعارضة اعتمدت في دعايتها الانتخابية على انتقاد حزب العدالة ورئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان وخصوصًا دعوته للتحول للنظام الرئاسي واتهامه بتكريس الديكتاتورية، إضافة لاتهامه بالتحيز وعدم الوقوف على مسافة واحدة من كل الأحزاب، فيما اعتمدت على وعود في مجال الخدمات والحد الأدنى للأجور وأسعار المواد الغذائية وقد بدت هذه الوعود مبالغًا فيها إلى حد كبير، ولعل هذا يفسر أن هذه الأحزاب كانت تهدف لتراجع الحزب الحاكم أكثر مما كانت تهدف للوصول إلى الحكم، حيث بدت مرتبكة مع إعلان النتائج التي تقدم فيها حزب الشعوب الكردي بشكل واضح، وأسفرت عن عدم قدرة العدالة والتنمية على تشكيل الحكومة منفردًا بالرغم من حصوله على 258 مقعدًا والتي بالكاد وصل إلى نصفها أقرب منافسيه.
وتكمن قضايا الخلاف الرئيسية بين الأحزاب التركية في 3 قضايا هي: عملية السلام مع الأكراد وتعديل الدستور والتي من ضمنها التحول للنظام الرئاسي ومحاكمات الفساد في أحداث 17 ديسمبر.
حيث نجد أن حزب العدالة والتنمية يريد المضي قدمًا في عملية السلام مع الأكراد ويسعى لتغيير الدستور ويرفض إعادة المحاكمات لعدد من الوزراء الذين تتهمهم المعارضة بالفساد، أما حزب الشعب الجمهوري فيريد إعادة المحاكمات ويرفض النظام الرئاسي، فيما يرفض حزب الحركة القومية بشدة عملية السلام، أما حزب الشعوب الديمقراطي فيرفض النظام الرئاسي ويريد إعادة المحاكمات ويريد المضي في عملية السلام؛ مما يشير إلى خارطة مشوبة بالتعقيد وتضاريس تحتاج إلى دليل حكيم لتجاوزها.
لعل من أهم الإيجابيات لحزب العدالة أن هناك خلافات مبدأية بين أحزاب المعارضة؛ فلا يمكن أن يلتقي حزب الشعوب مع حزب الحركة القومية وإن كانوا التقوا في فترة الانتخابات على إفشال العدالة والتنمية فإنهم لا يستطيعون العمل معًا نهائيًا وهذا ما يجعل احتمال وجود حكومة بدون العدالة والتنمية ضعيفًا جدًا إن لم يكن معدومًا، وذلك بالرغم من تصريحات زعيم المعارضة كمال كليتشدار أوغلو أن المعارضة بإمكانها تشكيل الحكومة.
وفيما لا يستطيع الثلاثة المعارضون أن يجتمعوا معًا في حكومة واحدة فإن أعداد المقاعد التي حصلت عليها هذه الأحزاب لا تكفي لأن يشكل اثنان منهم الحكومة معًا، وهذا يعطي نوعًا من أريحية التفكير للعدالة والتنمية.
وفيما بدا أن أقرب شريك إلى حزب العدالة في حكومة ائتلاف هو حزب الحركة القومية والذي يعني التوافق معه العدول عن عملية السلام وهذا مرفوض من قِبل العدالة والتنمية حاليًا فإن الحزب القومي بالغ في سقف مطالبه حيث طالب بحقائب لا يمكن أن يعطيها حزب العدالة كوزارة العدل على سبيل المثال، حيث لم تنته معركة العدالة والتنمية بعد مع الكيان الموازي أو جماعة فتح الله كولن التي يبدو حاليًا أنها غائبة عن المشهد نسبيًا، وفي موضوع الحركة القومية الذي يبدو متشددًا لأسباب متعلقة بأوضاع التفاوض على الأغلب فإنه يمكن التوافق معه في حال أبدى الطرفان ليونة في موضوع الملف الكردي أو تم إعطاؤه مزايا أكثر.
ولهذا يمكن القول إن العدالة والتنمية إذا لم يتوافق مع الحركة القومية فإن الوضع المرجح هو أن يتم السير لانتخابات مبكرة وهي أيضًا لا يمكننا التنبؤ بنتائجها ومدى التغيير الذي ستحدثه بالرغم من وجود مؤشرات على تحسن حظوظه كندم عدد من الناخبين على عدم إعطاء أصواتهم له وإمكانية ترشح بعض الشخصيات القوية من جديد ممن حرمتهم قوانين الحزب سابقًا، ووجود استطلاعات رأي تفيد بإمكانية تقدم الحزب بحيث يشكل الحكومة وحده (غير مؤكدة)، وخير مثال على هذا أن الأوضاع قبل الانتخابات الأخيرة ربما كانت أسهل وبالرغم من ذلك لم يرجح كثيرون حدوث السيناريو الحالي.
وكما قلنا بأن القاسم المشترك كان احترام إرادة الناخب فإنه يبدو أن الأحزاب كلها لا تعرف أيهما الأفضل: التوجه لانتخابات مبكرة حاليًا أم تقديم تنازلات جوهرية لحكومة تحالفية باستثناء بوارق أمل لحزب العدالة.
لعل الفترة القادمة ستشهد أقصى حدود التنافس بين الأحزاب على إعداد المراجعات وتحديث الخطط من أجل تقديم أفضل الخدمات والوعود، فيما ستزداد حالة الاستقطاب كلما اتضح أن المسار نحو انتخابات مبكرة، وعلى فرض أن الحزب شكل الحكومة في الانتخابات القادمة فإن الأوضاع السياسية في تركيا ربما تزداد تعقيدًا خاصة في حال ما تدخلت عوامل خارجية.