هو “بابا” كما عرفته الغالبية العظمى من سكان الأناضول بعد أن أوصلوه إلى رئاسة الوزراء عام 1965، مرسلين إلى العسكر التركي آنذاك رسالة مفادها أنهم مصممون على المضي قدمًا في الطريق الذي بدأه مندرس بل وربما أصبحوا أكثر إصرارًا، إذ أن دميرل أصبح بتوليه المنصب أول رئيس وزراء للجمهورية التركية ينحدر من الريف، في تحدٍ صريح للنخبة الأتاتوركية التي ارتكزت للمدن الكبرى.
بالطبع لم يكن دميرل على وفاق مع العسكر الذي هيمن على السياسة التركية في نفس الفترة التي بزغ فيها نجمه، ليشهد بنفسه مرتين تدخل الجيش التركي وإزاحته عن السلطة، مرة بالانقلاب الناعم عام 1971، حين كان في أوج قوته، ومرة عام 1980 في الانقلاب الشهير الذي أزاح به الجيش حكومة دميرل المشكلة حديثًا بعد سلسلة من الحكومات الائتلافية الفاشلة التي مرت على تركيا في سنوات السبعينيات المضطربة.
لم يكن الانقلاب بالطبع نهاية لمشواره السياسي، ولا حتى صعود توركوت أوزال القوي في الثمانينات، حيث نجح دميرل في الفوز بانتخابات 1991 وتولي الحكومة من جديد، ثم شغل منصب رئيس الجمهورية كثاني محافظ يجلس على مقعد أتاتورك بين عامي 1993 و2000، بعد وفاة أوزال المفاجئة، ليُنهي بذلك مسيرته السياسية والطويلة، تاركًا الساحة للنخبة الجديدة التي انطلقت مع دخول العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002.
بعد 15 عامًا من خروجه رسميًا من السياسة، لفظ دميرل أنفاسه الأخيرة في مستشفى جوفَن في العاصمة التركية أنقرة بالأمس، 17 يونيو، عن عُمر يناهز 91 عامًا، بعد أن أصيب بالتهاب في الشعب الهوائية وخضع لعملية جراحية هناك، طبقًا لما نقلته وكالة الأناضول الإعلامية الرسمية.
ابن الريف
هو سليمان گون دوغدو دميرل المولود في نوفمبر من العام 1924 بقرية إسلام كوي في مدينة إسبرطة الصغيرة الواقعة غربي الأناضول التي لا يتجاوز تعدادها رُبع مليون، ليقضى فيها سنوات دراسته الأساسية قبل أن ينتقل إلى مدينة أفيون (أو أفيون قره حصار) المجاورة ويدخل المدرسة الثانوية هناك، ثم ينتقل إلى إسطنبول لدراسة الهندسة المدنية بجامعة إسطنبول التقنية، ويحصل على البكالريوس عام 1949، قبل عام واحد من الانتخابات الحرة الأولى في تاريخ تركيا والتي اكتسح فيها عدنان مندرس آنذاك.
في ذلك العام، اتجه دميرل إلى الولايات المتحدة ليُكمِل الدراسات العليا في مجال الري وبناء السدود، ليعود إلى تركيا ويجذب انتباه رئيس الوزراء آنذاك مندرس ويصبح مديرًا لمشروع سد سيهان، ورئيسًا لقسم السدود منذ عام 1954، ثم المدير العام لهيئة المشاريع المائية التابعة للدولة عام 1955، لينتهي دوره مع الانقلاب العسكري الأول عام 1960، ويدخل الجيش التركي لتأدية الخدمة العسكرية، ويتجه للعمل الخاص كمهندس حر تابع لشركة موريسون الأمريكية وإلقاء محاضرات الهندسة الهيدروليكية في جامعة الشرق الأوسط التقنية بأنقرة.
دميرل سياسيًا
دميرل على غلاف مجلة حيات عام 1966 وعنوانها “أول رئيس ورزاء من الريف”
كان الجيش التركي بعد انقلاب 1960 قد أدرك أنه لا يستطيع أن يلغي بجرة قلم الشبكات الاجتماعية الواسعة التي قام عليها الحزب الديمقراطي بقيادة مندرس، وأن قمع تمثيلها السياسي ودورها في المجال العام سيخلق المتاعب للنخبة الحاكمة، بل وسيؤثر على شرعية المنظومة القائمة، وهو ما دفعه إلى فتح باب السياسة من جديد خلال أعوام قليلة ظهر فيها حزب العدالة كوريث لتلك الشبكات بقيادة الجنرال المتقاعد راغب كوموشپالا.
توفي راغب عام 1964 تاركًا فراغًا في الحزب المحافظ الصاعد، لتبدأ المنافسة بين أسماء جديدة كان أبرزها سليمان دميرل، والذي حظى بدعم قائد الانقلاب جمال گورسل نظرًا لكونه أكثر المرشحين المحافظين انفتاحًا كما قيل آنذاك، لينجح في الفوز بانتخابات رئاسة الحزب، ويصبح رئيسًا للوزراء بين عامي 1965 و1971، ثم بين عامي 1975 و1977، وعامي 1977 و1978، وأخيرًا عامي 1979 و1980 قبل الانقلاب.
بعد الانقلاب الشديد عام 1980، تم حل جميع الأحزاب وسجن معظم القيادات السياسية، ولم يتبقى على الساحة سوى توركوت أوزال الذي وصل إلى تفاهم مع الجيش لقيادة البلاد نحو انفتاحها الاقتصادي، بينما ظل دميرل وزملاؤه في الحزب بعيدين عن السياسة بموجب الحظر السياسي الذي طال سياسيي ما قبل 1980، والذي ما إن رُفِع عام 1987، حتى عاد بقوة في انتخابات 1991 حاصلًا على المركز الأول بقيادة حزبه الجديد، الطريق القويم.
دميرل رئيسًا
توج دميرل مسيرته السياسية، كما يحلم كافة السياسيون الأتراك عادة، بمقعد رئاسة الجمهورية بقصر تشانقايا، وقد كان القرار الأبرز والأكثر إثارة للجدل أثناء رئاسته إقناع نجم الدين أربكان بالاستقالة من منصبه كرئيس للوزراء عام 1997، في مقابل بدء مفاوضات لدخوله في ائتلاف جديد، وهو ما لم يحدث حيث قام دميرل بدعوة حزب آخر إلى تشكيل الحكومة في ضربة لقوة الإسلاميين الصاعدة في التسعينيات، والتي لم تتعافي حتى ظهر حزب العدالة والتنمية.
يقول أنصار دميرل أن القرار في هذا الصدد لم يكن بيده، وأن الجيش التركي كان قد قرر بالفعل أن أربكان لن يدخل الحكومة مرة أخرى، ليضطر دميرل إلى الاختيار بين الوجوه المحافظة الأخرى الموجودة على الساحة، بيد أن البعض يعتقد أن قرار تنحية أربكان بهذه الحركة كان خياره الشخصي، وهو الذي يعرف أربكان من سنوات دراسته المبكرة ولم يرى فيه الكفاءة الكافية لقيادة تركيا أو تمثيل التيار المحافظ على غرار مندرس وأوزال.
***
ظل دميرل شاهدًا على كل ما مرت به تركيا، بدءًا من انقلاب 1960 والذي وقع وهو مدير بالقطاع العام، وحتى انقلاب 1980 الذي أزاحه عن رئاسة الوزراء، وانقلاب 1997 الناعم على أربكان وحكومته بينما كان هو رئيسًا، ثم صعود حزب العدالة والتنمية بينما خرج هو من السياسة وظل يلقي المحاضرات هنا وهناك كواحد من أبرز الشخصيات التي عاصرت تركيا الحديثة في مراحلها المختلفة، وفي كافة أشكالها، بدءًا من الريف الذي أتى منه، وحتى النخب الأكاديمية والإدارية في الجامعات والشركات.
برئاسته للوزراء خمس مرات ورئاسته للجمهورية مدة كاملة، تصبح سنوات خدمة دميرل ثاني أطول مدة لسياسي في منصب قيادي، بعد عصمت إينونو مساعد مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك.