تتحدث زَنغ بصوت هادئ ولكنة صينية واضحة وهي تتكلم مع أحد المصابين بالأرق ممن طلبوا مساعدتها، وتسأله صراحة عن تأثير تعاطي الماريجوانا أو الحشيش، وما إن كان يساعده على النوم أم لا، “بالطبع يساعدني،” هكذا تأتيها الإجابة، لتقوم تباعًا بكتابة وصفة طبية كما تفعل مع الآلاف من المرضى، ليتمكنوا من الحصول على جرعات من الماريجوانا للاستخدام الطبي.
على مسافة ليست بعيدة، وفي ما يُعرَف بعيادة “كاننا” (المقتبسة من كاننابيس الاسم الطبي للماريجوانا)، تعج الأرفف بأنواع مختلفة من الحشيش مملوئة في عُلَب زجاجية تحمل كل منها اسمها الخاص، بدءًا من B52 وحتى “أفغان كوش” Afghan Kush القادم من الجبال الأفغانية كما يبدو من اسمه.
يُباع هنا أيضًا بسكويت وشوكولاتة بالحشيش، بل وعسل كذلك مليء بالحشيش، وكل ذلك في مدينة فانكوفر الكندية، بولاية بريتيش كولومبيا، حيث أتاحت المدينة لكل من يحصل على فحص طبي أن يشتري الحشيش من أكثر من 80 متجرًا مرخصًا، رُغم أن الحشيش لا يزال على مستوى كندا ممنوعًا بموجب القانون.
ليست تلك مجرد حالة استثنائية، إذ يمكن لك ببساطة أن تستقل سيارتك من فانكوفر إلى مدينة سياتل الأمريكية المجاورة لها بعد عبور الحدود بين البلدين، لتجد متاجر عدة تبيع الحشيش بل وربما متخصصة فيه، مثل “جرين ثيوري” الأشهر هنا، والذي رشحته إحدى المجلات كأفضل متجر للحشيش في سياتل؛ المدينة التي فاقت فيها أعداد متاجر الحشيش محلات ماكدونالدز.
لا يحق للشرطة التدخل في سياتل إلا إذ قام أحدهم بإشعال سيجارة في مكان عام، وهي ليست الولاية الأمريكية الوحيدة في تغيير مواقفها من الحشيش، حيث تم تمرير قانون جديد في يوليو من العام الماضي بولاية واشنطن ينُص على أن البالغين فوق سن الواحدة والعشرين يحق لهم استخدام الحشيش بشكل شخصي، والأمر نفسه ينطبق على ولايات كولورادو وألاسكا وواشنطن العاصمة، وقريبًا في أوريجون وكاليفورنيا.
من أمريكا الشمالية إذن تنطلق ثورة تقنين الحشيش، ثالث أكثر مادة قابلة للإدمان يتم استهلاكها بعد الكحوليات والتبغ، والتي ستصبح قريبًا على قدم المساواة معهما في التداول بشكل قانوني وواسع مقابل قيود وشروط معيّنة.
الحشيش: نظرة علمية
حين يستنشق أي منا دخان الحشيش في رئتيه، فإنه يُغمر دماغه خلال ثوانٍ بما لا يقل عن 60 مادة من مجموعة المركبات الكيميائية المعروفة بالكانابينويد cannabinoids، أبرزها كانابيديول CBD، و رباعي هيدروكانابينول THC الذي يسبب الثمالة مع استنشاقه بكميات كبيرة.
للمفاجئة، لا تُعَد مجموعة الكانابينويد تلك غريبة على جسم الإنسان، إذ أن أجسامنا تنتج بالفعل مركبات شبيهة بها، وهي ضرورية للعمل السليم للدماغ، وتلعب دورًا محوريًا في الأجزاء من المخ المسؤولة عن الإحساس والتفكير والانتباه، كما أن جهاز المناعة والقلب والأوعية الدموية والبنكرياس تحتوي على مستقبلات لتلك المركبات، مما يعني أنها تؤدي دورًا في عمل هذه الأعضاء، ويفسر وصفها طبيًا من قبل بعض المعالجين في مجموعة متنوعة من الأمراض.
بالتبعية، اكتشف العلماء مؤخرًا أن بعض الأمراض العصبية والنفسية قد تنبع في الحقيقة من قلة إنتاج مركبات الكانابينويد داخل الجسم، بالضبط كما يحدث مع مركبات أخرى حين يفتقدها الجسد، فداء باركنسون على سبيل المثال يسببه نقص الدوبامين المهم لنقل الإشارات العصبية، أما ماهية تلك الأمراض بالضبط فهو أمر لا يزال قيد البحث، كما تقول كيرستن مولر فال، أستاذة الطب النفسي بجامعة هانوفر في ألمانيا، والتي ترجح أن تكون الشيزوفرينيا واحدة منها.
في الواقع، قامت كيرستن بالفعل على مدار السنوات الماضية بعلاج حالات شديدة لمرضى بمتلازمة توريت، وهو مرض عصبي يعاني فيه الطفل من حركات عصبية لا إرادية قد تصحبها أصوات لا إرادية أيضًا، باستخدام كميات من الحشيش، وهو الدواء الذي قال الكثيرون من آباء المرضى أنه فعال أكثر من الأدوية التقليدية الموصوفة لهذا المرض، وبأعراض جانبية أقل.
علاوة على علاج بعض الأمراض العصبية، يساعد تعاطي الحشيش بكميات طبية في التقليل من حدة الدوار لدى مرضى السرطان، والذي يُصابون به أثناء جلسات العلاج الكيماوي، وتقليل الاعتماد على المواد الأفيونية لمن يعانون آلامًا شديدة، كما أن مستخلص الحشيش قد يكون مفيدًا لعلاج الأطفال المصابين بالصرع وتقليل النوبات المفاجئة التي تأتيهم.
أساطير عن الحشيش
الحشيش أمر خطير وجدي، هكذا يعتقد البعض، بيد أن بعض العقاقير التي نتناولها بشكل يومي في الحقيقة أخطر كثيرًا من الحشيش ولكن لأسباب ثقافية، وأسباب تتعلق بإتاحتها في سوق الأدوية وقبولها من جانب المشرعين، لا ننظر لها كما ننظر للحشيش.
أبرز مثال هنا هو مادة الباراسيتامول المسكّنة، والتي يتناولها الملايين حول العالم، وهي مادة شديدة الخطورة، وتناولها بشكل مُفرِط قد يدمر الكبد بشكل لا يقل خطورة عن الإفراط في استهلاك مادة أفيونية مثل المورفين، ثم هناك الكحوليات أيضًا، والتي نعرف أن إدمانها وتناولها بشكل متجاوز للحدود الطبيعية قد يدمر الدماغ ويُفقِد صاحبه القدرة على التنفس والتحكم في ضربات القلب، وهو ما يجعل الكحوليات مناسبة جدًا لمن يرغبون في الانتحار.
يُعَد الحشيش، من ناحية أخرى، قليل الخطر، إذ أن تناوله بكميات تفوق الحد المسموح به لا تُحدِث تلك الآثار المخيفة، كما أن أحدًا لم يمُت من قبل نتيجة استنشاق الحشيش بشكل مُفرِط كما يحدث مع الكحوليات والمخدرات، والرقم المسجل عالميًا بالفعل لوفيات الإفراط في تعاطي الحشيش هو صِفر! والسبب الرئيسي هو أن جذع الدماغ لا يحتوي على أي مستقبلات للحشيش مما يجعله بمأمن عن التأثر به، ويجعل الخطر الأهم لمدخني الحشيش هو الإصابة بسرطان الفم والحلق.
على صعيد آخر، يقول كثيرون أن مشكلة الحشيش ليست في ذاته ولكن في كونه جسرًا إلى أنواع المخدرات الأخرى، فمدخن الحشيش ينزلق بسهولة إلى عالم الهروين، ولكن هذا الرأي في الحقيقة غير مُثبَت على الأرض، فهولندا التي طالما تمتعت بسياسة متحررة في التعاطي مع مسألة الحشيش تتمتع بنسبة منخفضة جدًا من تعاطي الهروين بين مدخني الحشيش.
في الواقع، وضع الحشيش والتعامل معه مثل التبغ والكحوليات قد يقلل من ارتباطه بالمخدرات وبالتالي يُبعِده تجاريًا واجتماعيًا عن الارتباط بالهروين بشكل يمنع كونه جسرًا كما يقول البعض، بل إن هناك أطباءً يدرسون الآن أن يكون الحشيش جسرًا للخروج من عالم المخدرات نتيجة حالة الرضا التي يتمتع بها مدمنو الهروين والكوكايين حين يحصلون على الحشيش أثناء تعافيهم من الإدمان مقابل الصعوبة التي يواجهونها في الإقلاع عن المخدرات وفقط.
خطورة إدمان الحشيش
لا يعني وضع الحشيش في حجمه الطبيعي والعلمي أن نرسم صورة وردية له، فإدمان الحشيش خطر موجود بالفعل وإن كانت آثاره أصغر مما نعتقد وأقل خطرًا، وهو يطال حوالي 9٪ من مدخني الحشيش طبقًا لدراسات أكاديمية العلوم الأمريكية، وهي نسبة أقل من المدمنين بين متعاطي الكحول (15٪) والكوكايين (17٪) والهروين (23٪) والتبغ (32٪) ولكنها تظل نسبة غير هيّنة.
الشباب تحت سن العشرين تحديدًا معرضون لأخطار صحية نتيجة العمليات التي يمر بها المخ في تلك الفترة والذي يظل في مرحلة تشكّل حساسة حتى تلك السن، وهي عمليات قد يتدخل فيها الحشيش، بالضبط كما تفعل الكحوليات، ويعطلها بشكل لا يمكن الرجوع عنه مستقبلًا، مما يغير تركيبة دماغهم إلى الأبد.
تثبت الدراسات التي أجراها الباحثون مؤخرًا أن هناك بالفعل أعطاب ذهنية عدة تصيب مدخني الحشيش من الشباب الصغير، وتجعلهم أقل قدرة على التعلم والتركيز في الدراسة، وما إن كانت تلك القدرات الذهنية ستتعافى عندما يتجاوزون حاجز العشرين عامًا أم لا هو أمر لا يزال قيد النقاش بين العلماء، إلا أن البعض يرى أن تأثر الشباب في تلك المرحلة وحدها كافية بأن تفرض سياسة جدية لمعالجة انتشار الحشيش بين الشباب، في نفس الوقت الذي نفكر فيه في إتاحته من أجل معالجة أمراض عدة ومساعدة المدمنين.
علاوة على ذلك، أثبتت دراسات عدة أن تدخين الحشيش بين ذوي الاضطرابات النفسية والعصبية قد يزيد من احتمالات إصابتهم بالذهان مستقبلًا، بل ويضاعفها عدة مرات، كما أنهم قد يصابون به في مرحلة مبكرة مقارنة بنظرائهم، وهي مسألة يجب أن توضع في حين الاعتبار من جانب المشرعين ونشطاء تقنين الحشيش ليكون هؤلاء بمأمن عن تلك المخاطر.
***
حاليًا، يتمتع حوالي خمسون ألف شخص في كندا بقانونية الحصول على كميات طبية من الحشيش لأغراض علاجية، وهو أمر قانوني بالفعل في كاليفورنيا منذ حوالي عشرين عامًا، ويستخدمه مئات الآلاف من مرضى الاكتئاب والسرطان والأيدز والتهاب المفاصل وغيرها بشكل يتيح لأكثر من ألف متجر في الولاية أن يقوم ببساطة بتوصيل طلبات الماريجوانا إلى المنازل.
في الولايات المتحدة بشكل عام، قامت 23 ولاية بإصدار قوانين تساعد فيها المرضى على الوصول للحشيش، مما أتاحه لحوالي 2 مليون مريض، وهي ليست البلد الوحيد، بل إن بلدانًا أخرى تسير بالفعل على خطى هولندا في مسألة الحشيش، أشهرها بالطبع أوروجواي التي قننت بالكامل زراعة وتجارة الحشيش.
مع مرور الوقت، يزداد اقتناع الكثيرين بأن استخدام الحشيش له فوائد طبية وعلاجية كبيرة عرفها المعالجون والأطباء لقرون طويلة، كما تقول كتب الطب التقليدي العربي والهندي والصيني، وأن هوس المنظومات الحديثة بضبط المجتمعات وصحة مواطنيها للاستفادة القصوى منهم اقتصاديًا وصناعيًا، بل وعسكريًا، هي التي دفعت نحو تلك النظرة المبالغ فيها لخطورة الحشيش والتغاضي تمامًا عن فوائده كنبات طبيعي، وهي مواقف قيد المراجعة الآن.
منقول بتصرّف عن مجلة شبيغل