ترجمة من الفرنسية وتحرير نون بوست
يبحث جوزيف يعقوب، الأستاذ الشرفي بالجامعة الكاثوليكية في ليون والمختص في العلوم السياسية، في المراحل التاريخية التي مر بها المجتمع الآشوري الكلداني في الشرق الأوسط، بدءًا بالإمبراطورية العثمانية مرورًا بسوريا والعراق.
في كتاب “قرن من أجل لا شيء”، الذي يتكون من ثلاثة أجزاء، والذي صدر سنة 2002 يطرح مؤلفوه، جيرارد د. كوري، وجون لاكوتور، وغسان تويني عدة تساؤلات حول حالة الفوضى التي تعم العالم العربي، من خلال تتبع مراحل تاريخية كبرى من القرن الماضي، وخاصة منذ تفكك الإمبراطورية العثمانية، في فترة تعرف بالمحورية وتتصف بالعنف الذي مازال قائمًا إلى اليوم.
ويفسر البروفيسور جوزيف يعقوب، رئيس كرسي اليونسكو لـ “الذاكرة والثقافات وتعدد الثقافات”، في نفس السياق قائلًا “إن القومية العربية واحدة من بين الأسباب الرئيسية للوضع الحالي الذي تمر به المنطقة، فهذه النزعة القومية تحاول القضاء على جميع أنواع التنوع الديني والعرقي والثقافي، وذلك لفرض نمط حياتي معين ولرسم صورة الأمة الواحدة”، وأضاف أن القومية العربية هي وراء ما يحصل اليوم، وأن فشلها هو السبب الجوهري وراء ظهور الحركات المتطرفة والعنيفة، وفي دوامة العنف التي تعيشها المنطقة فإن المجتمع المسيحي الآشوري أو الآشوري الكلداني يعتبر من بين الأقليات المتضررة من هذا الوضع.
المأساة المنسية
تعود أصول هذه المأساة إلى عام 1915، وتعد الإبادة الجماعية للأرمن، والتي يمر هذا العام مائة سنة على حدوثها، أكثر شهرة من نظيرتها الآشورية التي راح ضحيتها بين 250 ألف و350 ألف بين سنوات 1915 و1918، وبذلك تم القضاء على ما يقارب أكثر من نصف المجتمع الآشوري.
ويعلق جوزيف يعقوب بدقة أكثر على هذا الموضوع “ما حدث في عام 1915 تم التخطيط له من قِبل السلطات العثمانية بعد وصول حركة الشباب التركي للحكم سنة 1908، والذين كانوا شاهدين على ممارسات السلطان عبد الحميد الثاني تجاه شعوب الشرق سواء كانوا مسلمين أو مسحيين”.
وأضاف قائلًا “إن الأمل الذي تولد بعيد كتابة الدستور وظهور نظام سياسي جديد، يتمثل في نظام ملكي دستوري لم يدم طويلًا، فإن هذه النزعة القومية المتطرفة التي هيمنت ولا تزال تهيمن على الساحة عقدت الأمور، وزادتها الحروب التي خاضتها الإمبراطورية العثمانية ضد الدول الأوروبية تعقيدًا، ولقد كان لحروب البلقان تأثير قوي على الإمبراطورية العثمانية خاصة بعد الخسارة الإقليمية التي تكبدتها”.
وقبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، فقدت الإمبراطورية العثمانية جزءًا كبيرًا من مناطقها على الجانب الأوروبي، لذا اتجه العثمانيون إلى الجانب الأسيوي وخاصة الجزء العربي منه، وعلق البروفيسور يعقوب على ذلك قائلًا ” وفي هذه المناطق من الإمبراطورية العثمانية بدأت الشعوب العربية في المطالبة بالاستقلال، في وقت ظهرت فيه الحركة العربية القومية التي تضم المسيحيين والعرب، تحت قيادات من أمثال عبد الرحمن الكواكبي، ولم يترك هذا الخيار للإمبراطورية سوى التوجه إلى شرق الأناضول والقوقاز كأذربيجان والشيشان؛ ليدفعها هذا إلى تعزيز القومية التركية لتكون ورقتها الأخيرة في تعبئة الأتراك والأكراد ضد الأقليات المسيحية والأرمنية والسريانية”.
وهذا التشدد من قِبل السلطات العثمانية يفسر، إلى حد كبير، عمليات القتل الجماعية التي اُرتكبت ضد الأقليات، التي اعتبرها العثمانيون عقبة جغرافية، حيث كان معظم هذه الأقليات يعيشون في مناطق إستراتيجية كشرق الأناضول وبهذا استوجب القضاء عليها.
سياسة متعمدة
ويصر البروفيسور جوزيف يعقوب على أن سياسة الإبادة كان مخططًا لها، وهي متعمدة، واستند في ذلك إلى وثائق وشهادات عربية وغربية، منها وثائق دبلوماسية متبادلة بين الإمبراطورية العثمانية وحلفائها، من بينهم ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية، التي حررت من قِبل قناصل هذه البلدان في حلب والموصل، والتي تظهر بما لا يقبل الجدل أن هذه حقيقة، وعلق جوزيف يعقوب على هذا قائلًا “إن هذه المجازر تم التخطيط لها على نطاق واسع من قِبل السلطات العثمانية في ذلك الوقت”.
وهذه المأساة التي ذهبت طي النسيان، قد أثرت على المجتمع الأرمني والمجتمعات المسيحية الأخرى التي ذهبت ضحية الإبادات الجماعية وعمليات الترحيل.
ورغم أن المأساة الآشورية لم يكن لها صدى كنظيرتها الأرمنية، إلا أن الأمل مازال قائمًا، ولهذا استشهد جوزيف يعقوب بالبابا فرانسوا، الذي خلال كلمته في ذكرى مرور مئة سنة على المجزرة الأرمنية، التي أقيمت في كنيسة الطبيب القديس غريغوريوس نراك (راهب أرمني عاش في القرن العاشر)، تحدث عن الإبادة الآشورية وعن ضحاياها إلى جانب ذكره للسريانيين والأرثوذكس.
وعلق جوزيف يعقوب على هذا قائلًا “هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها البابا بشكل واضح عن هذه الأقليات”، كما دعمت بيان البابا وثائق نشرت من أرشيف الفاتيكان، والتي تم ترحيلها من قِبل كهنة الدومينيكان ومن بين هذه الشهادات ثلاث وثائق تم تحريرها من قِبل السلطات العثمانية، وقال الخبراء إنه في يناير من سنة 1915 اتخذ قرار القضاء على هؤلاء السكان من أعلى مستوى في الدولة العثمانية وذلك إلى جانب ألمانيا.
مجازر هكاري
ويعلق جوزيف يعقوب على هذه المجازر، التي جدت بمنطقة الهكاري الواقعة على الحدود العراقية الإيرانية، “يوجد قصص مكتوبة باللغة السريانية والعربية تصف التدفق اليومي لسكان هذه المنطقة، بعد الهجمات التي يشنها الأتراك والأكراد على هذه الأقليات، وتعد هكاري منطقة تلجأ إليها الطوائف المسيحية بما في ذلك الآشورية”، وتفتقر هذه المنطقة إلى الطرق المعبدة حتى حلول الثلاثينات، فلقد كانت منطقة جبلية يتعذر الوصول إليها، وشبهها جوزيف يعقوب بمنطقة وادي قاديشا في لبنان وما تمثله هذه المنطقة للمارونيين”.
وقد عاش في منطقة هكاري ما يقارب 100 ألف آشوري من النساطرة، وكان هناك أيضًا أقلية أرمنية، وكان يحيط بهؤلاء سكان من الأكراد الذين كانوا يعدون آنذاك 150 ألف ساكن كانوا يعيشون حياة رعوية.
قال جوزيف يعقوب “عاش الشعب الآشوري والأرمني على هامش المجتمع، ولقد تم تهميشهم حتى إنهم لا يظهرون على الخارطة الاجتماعية وبقوا بعيدًا عن الأنظار، حتى لا يتعرضون لتهديدات السلطات التركية العثمانية”.
مسار الهجرة
في عام 1918 لم يكن هناك أحد في جبال هكاري، ويقول البروفيسور جوزيف يعقوب “قُتل الكثير من السكان، ومات آخرون من الجوع والمرض والإرهاق على الطرقات أثناء محاولتهم الفرار إلى سوريا، وفي نهاية المطاف استقر الناجون في محافظة الحسكة في شمال شرق سوريا، وفر الآشوريون الكلدانيون أولًا إلى أذربيجان الإيرانية، حيث ساعدتهم القوات الإنجليزية التي أخذتهم إلى العراق، ليستقروا في مخيمات في بعقوبة، وقرب مدينة الموصل في محافظة نينوى، أين مكثوا في انتظار مصيرهم”.
وللأسف استغل الإنجليز هؤلاء خلال الثورة العربية، حيث يقول الأستاذ يعقوب، “استقر الآشوريون في العراق على أمل العيش في مجموعات، مصرين على أن إعادة توزعهم تعني موتهم، وقد رفضت الحكومة العراقية طلبهم وقالت إنه لاستيعابهم جميعًا يجب توزيعهم لينتهي هذا الصراع بمجزرة 1933”.
وتستمر المأساة
وفي أعقاب أحداث 1933، قرر الآشوريون الذهاب إلى سوريا للعيش تحت الانتداب الفرنسي، وهم اليوم يواجهون نفس المصير ليكونوا من بين أول ضحايا تنظيم داعش في العراق والشام؛ وتعرض الآشوريون إلى القتل والتهجير أولًا في وادي نينوى بالموصل، حيث تم ملاحقة المسحيين العراقيين واضطهادهم في اغسطس من سنة 2014، وبعد ذلك وفي فبراير الماضي، تم اختطاف المئات من الآشوريين في سوريا، وبالتحديد في وادي الخابور، واضطر آخرون إلى مغادرة منازلهم وترك كل شيء وراءهم، هربًا من اضطهاد تنظيم داعش، الذي سيطر على ما يقارب 14 قرية آشورية في شمال شرق سوريا، وفي وقت لاحق من هذا العام، سيطرت عليها القوات الكردية التي تقاتل تنظيم داعش ليستمر القتال في المنطقة حاليًا حول مدينة الحسكة.
ويقول البروفيسور يعقوب: “ومن المفارقات العجيبة أن الآشوريون الخابوريين الذين عاصروا مجزرة العراق في سنة 1933، هم نفسهم أطفال أولئك الذين عاشوا الإبادة الجماعية في سنة 1915 في ظل الإمبراطورية العثمانية، لتتواصل المأساة نفس المأساة في سنة 2015” ومرة أخرى تشتت الآشوريون ليعيش جزء منهم الآن في لبنان في منطقة سد شرم.
وأردف جوزيف يعقوب قائلًا “وربما لن يقتصر الأمر على الآشوريين في سوريا في ظل الأحداث الراهنة، فقد يصل الأمر في المرة القادمة إلى لبنان، ولم تعد تقتصر هجرتهم داخل الشرق الأوسط بل هاجر بعضهم إلى بلدان أوروبية وإلى أمريكا وحتى إلى أستراليا”.
الأقليات في مقابل المواطنة
حاليًا، ليس المسيحيون فقط هم من يواجهون الخطر في منطقة الشرق الأوسط، ولكن أيضا أقليات أخرى مثل الإيزيديين والأكراد، وأيضًا المسلمين أنفسهم يواجهون إرهاب تنظيم داعش، ويذكر جوزيف يعقوب تقرير الأمم المتحدة الذي صدر مؤخرًا بعد المجازر التي ارتكبها مقاتلي تنظيم الدولة في يوليو في العراق، وعلق جوزيف يعقوب “وفي ظل هذا السياق السياسي الظلامي، وفي محاولة لإيجاد حلًا لمشكل التمييز الذي تعاني منه الأقليات، يجب أولًا إسناد صفة المواطنة الكاملة لهم، وذلك على المدى الطويل، وهذا يعد أفضل حل ممكن”، كما يؤكد على أن العديد من المسيحيين الذين قابلهم يرفضون الدفاع عنهم كأقليات، وأردف قائلًا، ” يجب التنصيص على المواطنة في الدستور البلاد التي تقيم فيها الأقليات، وذلك لحمايتهم مباشرة بالقانون، ولا تبقى فكرة احتضانهم من قِبل المجتمع والدولة عبارة عن مساعدة أو منة سياسة مشكوك فيها”.
وأضاف “يجب علينا أن ندرك جيدًا أن التاريخ في منطقة الشرق الأوسط لم يبدأ في القرن السابع ميلادي ولكنه يعود إلى فترة سابقة، وأن المسيحيين لم يأتوا إلى بلاد الشام من خلال الحروب الصليبية أو في الفترة الاستعمارية فهم ليسوا ضيوفًا في المنطقة بل هم متواجدون هناك منذ ألفي سنة”.
في هذه المعركة لحماية الأقليات، يدعو السيد يعقوب أيضًا المسلمين إلى دعم هذا التوجه، ويؤكد البروفيسور أن هنالك الكثير من المسلمين الذين يدافعون على الأقليات، ومنهم مركز مسرات ببغداد الذي أسسه سعد سلوم، وهو شيعي يعمل بخطى حثيثة من أجل الاعتراف بالتنوع في العراق، والذي قال في سنة 2014، حول الوضع الحالي في المنطقة، “إذا كانت شجرة العراق إسلامية وجذورها مسيحية، فهل من الممكن أن تعيش الشجرة من دون جذور؟”.
المصدر: صحيفة لوريون لوجور