يتحفنا النظام السوري ليلًا نهارًا بأنه الضمانة الوحيدة لحماية الأقليات في سوريا، وعدم تعرضها للظلم أو للتهديد في وجودها وكيانها! لكن مهلًا، لنفكر قليلًا بطريقة منطقية؛ هل حقًا أن نظامًا ديكتاتوريًا أسريًا أقلويًا قائمًا على حكم طائفة بعينها هو الضمانة الحقيقية للحفاظ على هذه الطائفة وغيرها من الطوائف الصغرى في المجتمع من ظلم الأكثرية؟ وهل حقًا أن حكم الأقلية للأكثرية وقمعها لها هي الطريقة التي اهتدت إليها البشرية عبر تجاربها الطويلة لضمان حقوق المستضعفين في المجتمع، أم أن هناك طريقة أخرى؟
بداية أقول – وللأمانة التاريخية – أن قضية اضطهاد الأقوياء للضعفاء عبر التاريخ البشري كانت بادية للعيان بقوة، وعادة ما كان المنتصرون يتعاملون مع المغلوبين بوحشية، ويرتكبون بحقهم المجازر، ويخضعونهم لسطانهم بالقوة والقهر، وحتى أكون منصفًا فإن تاريخنا العربي والإسلامي لم يخل من هذه الممارسات، وإن لم تكن الطابع المسيطر عليه عمومًا، مع اعترافي بأن الكثير من مؤرخينا ومفكرينا يحاولون إنكار هذا الأمر أو تجاهله على أقل تقدير.
إن كثيرًا من الأمم والشعوب في العصر الحاضر توصلت إلى قناعة تامة بأنه لا يمكن لطائفة معينة أن تقضي على أخرى أو أن تخضعها إخضاعًا تامًا، وبأن ديكتاتورية الأكثرية ستؤدي لا محالة إلى تمردات وثورات موضعية في أماكن تواجد هذه الأقليات، تؤدي إلى إنهاك الدولة وإشغالها بصراعات جانبية، تُضعف التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية، وتؤثر عمومًا على مستوى معيشة السكان ورفاهيتهم، وعلى مكانة الأمة بين أمم العالم، والقضية الكردية في تركيا هي أكبر مثال على ذلك.
أما ديكتاتورية الأقلية فإنها تؤدي إلى مشكلة أكبر بكثير لأنها تجعل قطاعات واسعة من الشعب تشعر بالقهر والتهميش، وتوشك أن تؤدي بهم إلى إشعال ثورة تأكل الأخضر واليابس كما حصل في سوريا.
وغالبًا ما وصلت الشعوب إلى هذه القناعات بعد حروب أهلية طاحنة وصراعات دموية دمرت البلاد والعباد، وبالتالي كان حكمًا على هذه الشعوب أن تنتج أنظمة سياسية تضمن للجميع حقوقهم، وتمنع الصراعات الداخلية، وتوفر الجهود المبذولة في هذه الصراعات للتنمية الداخلية؛ وهذا كان أحد أهم الأسباب التي أدت إلى نشوء النظام المدني الديمقراطي في أوربا بداية، ثم في أجزاء أخرى من العالم بعد ذلك، والذي ساوى بين السكان جميعهم من خلال مبدأ المواطنة، ومن ثمّ حول مفهوم الأكثرية والأقلية إلى أكثرية وأقلية سياسية بدلًا من التقسيمات القائمة على أسس عرقية ودينية، مع ضمانه الحرية الفكرية والدينية لجميع المكونات في المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم، وهذا هو النظام السياسي الذي حقق السلام الداخلي لهذه المجتمعات، وضمن لها أعلى مستويات التنمية، وجعلها رائدة بين الأمم.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل كان هناك في سوريا قبل قيام المملكة الأسدية نظامًا سياسيًا قائمًا على ديكتاتورية الأكثرية؟ وهل كان هناك مشكلة طائفية حقيقية بحيث استوجبت من العلويين التكتل والقيام بانقلابهم العسكري عام 1963، وصولًا إلى تصدرهم الحكم عن طريق آل الأسد عام 1970، ثم قيامهم بالمجازر الكبرى في سوريا في فترة الثمانينات، وعلى رأسها مجزرة حماة عام 1982، لتثبيت حكمهم، وبعد ذلك قمعهم الثورة السورية عام 2011 بأقسى الأساليب وأبشعها خوفًا من عودة هذه الديكتاتورية السنية؟!
ما يحدثنا به تاريخ سوريا الحديث هو نظام – على علاته – مدني ديمقراطي، ولم يسجل حينها أي تمييز ضد المواطنين من قِبل الحكومات السورية في تلك الفترة على أساس ديني أو عرقي، بل على العكس تمامًا؛ حيث كان أبناء الطوائف المختلفة موجودين في شتى مراكز الدولة، وعلى الرغم من عدم وجود محاصصة سياسية حينها فقد تمكن شخص مثل فارس الخوري من الفوز بمقعد في البرلمان السوري بأصوات الناخبين المسلمين، على الرغم من كونه مسيحيًا ليتقلد بعدها رئاسة الوزراء، وكان العلويون أنفسهم قادرين على الدخول في مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجيش، وبلوغ مراكز مرموقة فيها (وهو ما مكنهم من القيام بانقلابهم في عام 1963).
ومن الملفت للنظر أيضًا أنه عندما قامت الانقلابات العسكرية، والتي كان آخرها انقلاب أديب الشيشكلي الذي قام بمجازر ضد الدروز في السويداء، كان السوريون السنة في حلب وحمص هم من تظاهر ضد استبداد السلطة، وهم الذين قاموا بإسقاطها في نهاية الأمر، وأعادوا الحياة الدستورية إلى البلاد، وتمسكوا بنظامها المدني الديمقراطي.
لقد كان من الغريب جدًا أن يقوم الضباط العلويون في الجيش السوري بانقلاب ضد النظام الذي يشكل الضمانة الوحيدة لحياتهم الكريمة، بدل أن يتمسكوا به ويسعوا إلى ترسيخه في الحياة السياسية في البلاد، ومن الغريب أن ينشئوا بدلًا عنه نظامًا ديكتاتوريًا أقلويًا أدى بقسم لا بأس به من الأكثرية إلى قناعة خاطئة؛ مفادها أن النظام الديمقراطي هو سبب مأساتهم، وسبب الظلم الذي حاق بهم، وأن الحل هو في سيطرة الأكثرية، وهو ما أوصل هذه الأكثرية إلى القيام بثورة عارمة لتقلب الطاولة فوق رؤوس جلاديها.
واليوم وبعد أكثر من أربع سنوات على قيام الثورة السورية ووصول العلويين وحلفائهم الإيرانيين إلى استحالة استمرار النظام الأسدي في حكم سوريا، وبدل أن يعترفوا بخطئهم التاريخي ويتراجعوا عن حماقاتهم، ويحاولوا أن يخرجوا أنفسهم من النفق المظلم الذي دخلوه وأدخلوا سوريا معهم فيه؛ وذلك بأن ينادوا بقيام نظام مدني ديمقراطي يحفظ للجميع حقوقهم، فإن الحديث قد زاد في الآونة الأخيرة عن أن العلويين يسعون لتقسيم سوريا وإقامة دولة طائفية في الساحل السوري، والتي لن تتحقق إلا بسفك دماء مئات الآلاف من السوريين السنة القاطنين في محافظتي اللاذقية وطرطوس وتهجيرهم، مما سيزيد من شعور السنة بالظلم والقهر ويدفعهم لتدمير هذه الدولة بأية وسيلة، مما يدخلها في صراع طويل وعنيف مع النظام السوري الجديد، ويزيد من استنزاف الشباب العلوي المستنزف أصلًا، ويعمق اعتماد هذه الدويلة الوليدة على ايران، التي ستشكل شريان الحياة الوحيد لها ولكن لوقت قصير، خصوصًا وأنها ستكون مرفوضة من قِبل جارتها الكبرى تركيا، بالإضافة إلى أن دولة النأي بالنفس في لبنان ستكون أعجز من أن تتخذ أي قرار لصالح هذه الدولة بفعل تناقضاتها الداخلية الحادة.
فهل سيستوعب العلويون الدرس هذه المرة؟ وهل سيقبلون بالتخلي عن السلطة لصالح نظام مدني ديمقراطي يحقق المساواة بين أبناء الوطن جميعهم، خصوصًا وأنهم مازالوا يملكون بعض أوراق اللعبة بأيديهم؟ أم أنهم سيستمرون في طريق الغباء الذي سلكوه حتى نهايتهم المحتومة في آخره؟!