آينشتاين كرة القدم
لم يحمل فوز برشلونة الإسباني بلقبه الخامس في دوري أبطال أوروبا لكرة القدم قبل أيام، السعادة المطلقة لأنصاره، فرغم الأفراح والليالي الملاح التي عاشها أبناء النادي والمدينة بعد انطلاق صافرة نهاية مباراتهم أمام يوفنتوس الإيطالي بالفوز بثلاثة أهداف لهدف، إلا أنّ خبراً حزيناً كدّر صفو الاحتفالات العارمة، إنه خبر انتهاء مسيرة لاعبٍ قضى بين جدران النادي الكاتالوني 24 عاماً بحلوها ومرّها، حطّم خلالها الرقم القياسي بمشاركته في 767 مباراة للبارسا في جميع البطولات، ساهم من خلالها بشدّةٍ في عودة تألق القلعة الكاتالونية، بل كان له اليد الطولى في ذلك، وكيف لا؟ وهو الذي كان العقل المدبّر والقائد المحنّك الذي لا تستقيم بوصلة الفريق إلا بتوجيهاته!
إنه تشافي هيرنانديز: “آينشتاين” كرة القدم وأحد أبرز عباقرة خط الوسط في العصر الحديث، والذي أعلن انتهاء مشواره مع نادي برشلونة ومع الكرة الأوروبية عموماً، بانتقاله للعب ضمن صفوف نادي السدّ القطري، ليكون الخليج العربي آخر محطاته مع المستديرة، أسوةً بعظماء سبقوه إلى ذلك كهييرو وغوارديولا وراؤول وباتيستوتا وغيرهم.
في أحضان لاماسيا
بداية رحلة تشافي -المولود عام 1980 في مدينة تيراسا الكاتالونية- مع الكرة كانت وهو ابن 11 عاماً، حين فضّل والده -اللاعب السابق في نادي ساباديل الإسباني- تنسيبه إلى نادي كاتالونيا الأكبر برشلونة، على حساب ناديها الثاني اسبانيول، الذي لطالما كان العشق الأول لعائلة “هيرنانديز كاريوس” التي ينتمي إليها تشافي، خاصةً وأن جدّه كان كابتن فريق اسبانيول خلال فترة الستينيات، ولكن جاذبية البارسا وعراقته أغرت الأب، فدفع بابنه إلى أكاديمية لاماسيا المحدثة ليكون ضمن دفعتها الطليعية، التي ضمت معه كلاً من كارليس بويول وفيكتور فالديز وإيفان ديلابينا وغيرهم ممن أصبحوا نجوماً كبار فيما بعد، ولفت ابن تيراسا الأنظار إليه منذ بداياته بشخصيته القوية ومهاراته الفطرية، فحاول كشّافو الغريم ريال مدريد استمالته إلى فريقهم، ولكنه رفض مؤثراً الاستمرار مع النادي الذي يحب، فقضى بضع سنين في أحضان لاماسيا، رضع خلالها حليب اللعب الممتع وفلسفة الكرة الشاملة، ليشبّ لاعباً متكاملاً، استطاع -بذهنه الصافي- اكتساب خبرة الكبار رغم حداثة سنه.
مسيرته مع البارسا
بدأ تشافي مشواره مع فريق برشلونة الرديف عام 1997 بعد تدرّجه في فئات النادي السنيّة، واستطاع في غضون عامين الحصول على ثقة مدربه جوزيب غونزالفو ليختاره قائداً للفريق، ليس هذا فحسب، بل استطاع لفت نظر الهولندي فان خال مدرب فريق برشلونة الأول، ليمنحه فرصة خوض أولى دقائقه مع فريق أحلامه، بزجّه في مباراة نهائي كأس السوبر أمام ريال مايوركا في 18 آب 1998، فنجح حينها في تسجيل هدف وفاز بأولى بطولاته مع البارسا.
أما الموسم التالي، فرغم بقائه في فريق برشلونة ب، إلا أن دقائق مشاركاته مع الفريق الأول زادت، وشكّل يوم الثالث من تشرين الأول عام 1998 تاريخاً مميزاً في مسيرة تشافي العطرة، إذ شهد خطوته الأولى في رحلة الـ505 مباريات في الليغا، عندما شارك مع فريقه أمام فالنسيا، كما شهد الموسم ذاته أول أهدافه الـ58 في الليغا، وكان ذلك أمام نادي فايادوليد، ذلك الموسم الذي انتهى بتتويج فريقه برشلونة بلقب الدوري الإسباني.
موسم 1999-2000 شهد تصعيد تشافي رسمياً إلى الفريق الأول، ليحمل الرقم 26 وسط تشكيلة تضم نجوماً كبار كريفالدو وكلويفرت وأوفر مارس، إضافةً إلى مهندس خط الوسط غوارديولا، الذي تعرّض لإصابةٍ بليغةٍ أبعدته عن الملاعب عدة أشهر حينها، فكانت الفرصة سانحةً لتشافي للعب كأساسي، فاستطاع كسب الرهان وإقناع الجميع بأن رحيل غوارديولا عن الفريق لن يكون بذي تأثير يُذكر، فخليفته موجودٌ وبمواصفاتٍ لا تقل عنه أبداً، بل تزيد، وهذا ما عبّر عنه غوارديولا ذات يوم عندما قال عن تشافي: (إنه أفضل مني حتى عندما كنت في أفضل حالاتي).
وتتابعت المواسم ونجمنا يثبّت أقدامه في الفريق الذي شهدت صفوفه أفول نجومٍ وبزوغ أخر، وقدوم مدربين ورحيل آخرين، ومكان تشافي محجوز في جميع التشكيلات، حتى أصبح صاحب الرقم 6 الكابتن الثاني للفريق –بعد بويول، وذلك في عهد الهولندي فرانك رايكارد، الذي بدأت معه ملامح العصر الذهبي للنادي الكاتالوني بالظهور، عبر الظفر بلقبي ليغا متتاليين عامي 2005 و2006، قبل أن ينجح بالتتويج بلقب البطولة الأوروبية الأمجد دوري الأبطال لعام 2006، لتكون بداية الإنجازات الكبرى التي رصع بها عبقريّ البارسا مسيرته الحافلة بالبطولات والألقاب.
ملك التيكي تاكا
يقول النقاد بأن سن الثامنة والعشرين يعتبر المثالي للاعب كرة القدم، ففيه يبلغ قمة العطاء لاكتمال خبرته، وهذا ما انطبق على نجمنا، فقد شهد موسم 2008-2009 ذروة تألقه، فبعد تولّي ابن النادي وزميله السابق بيب غوارديولا دفة تدريب البارسا، أصبح تشافي -برفقة شريكه الرائع إنييستا- عماد خطّة التيكي تاكا الشهيرة التي ابتدعها الفيلسوف بيب، فـهما -كما قال السير أليكس فيرغسون- قادران على الحفاظ على الكرة لمدة نصف ساعة متواصلة! كما أن تشافي يمتلك تكاملاً في المزايا يعطيه أهميّةً مضاعفة عن جميع لاعبي الفريق، فهو متخصّص في تنفيذ الركلات الثابتة بقدمه المضبوطة كالساعة، كما أن مجهوده في الملعب وفيرٌ للغاية فهو لا يتوانى عن الركض سواء لاستلام الكرة أو لاستعادتها، فضلاً عن رؤيته الثاقبة وقدرته على قراءة الملعب والتحكم في إيقاع اللعب، مما جعله بيضة القبّان ورمانة الميزان في جميع تكتيكات غوارديولا، التي أينعت ثمارها في أول مواسمه مع الفريق فكان الحصاد سداسية للذكرى والتاريخ، أحلى ما فيها لقبٌ غالٍ في دوري الأبطال، بعد فوزٍ مشهود على عمالقة مانشستر يونايتد، في النهائي الذي صال فيه ملك التيكي تاكا وجال، ليحصل بجدارة على جائزة أفضل لاعبي المباراة، فتكون فرحته بالنصر مضاعفة.
وتتابعت إنجازات برشلونة وجوهرته تشافي في حقبة غوارديولا الذهبية، فأضاف إلى رصيده العامر لقبي ليغا جديدين عامي 2010 و2011، قبل أن يجدّد عهد الفوز بدوري الأبطال الأوروبي للمرة الثالثة في مسيرته عام 2011، ويودّع عصر غوارديولا بحمله كأس إسبانيا للمرة الثانية في تاريخه عام 2012.
ولم تمنعه أعوامه التي ربت على الـ33 من قيادة فريقه لاستعادة لقب الليغا عام 2013 في عهد المدرب الراحل فيلانوفا، أما موسم 2013-2014 فشهد تسلّمه رسمياً شارة قيادة برشلونة بعد اعتزال المخضرم كارليس بويول.
ختام مواسم النجم تشافي مع ناديه العتيد كان مسكاً، إذ نجح الموسم المنصرم -تحت إدارة زميله السابق لويس إنريكة- بالفوز بثلاثيةٍ جديدة، قوامها لقبا الليغا والكأس الإسبانيتين، فضلاً عن كأس دوري الأبطال الأوروبي المجيد، الذي تمكن الملك من حمله للمرة الرابعة في تاريخه وللمرّة الأولى كـ”كابتن” للفريق، بعد أن حطّم الرقم القياسي لعدد المشاركات فيه بلعبه 151 مباراة، جميعها تحت راية ناديه الحبيب وبيته الكبير: برشلونة.
جوهرة إسبانيا
لم تكن المسيرة الدوليّة لتشافي مع منتخب إسبانيا بأقل شأناً من نظيرتها مع ناديه، فقد طرّز 14 عاماً من العطاء مع المنتخب –خاض خلالها 133 مباراة رسميّة- بألقابٍ صنعت الحقبة الماسية للاروخا عبر تاريخه، بدايةً بكأس أمم أوروبا عام 2008 التي فاز بلقب أفضل لاعب فيها، ومروراً بالبطولة الأعظم على الإطلاق: كأس العالم، التي أسعد الأمّة الإسبانية بالظفر بمجدها لأول مرة في التاريخ عام 2010، بعد الفوز في نهائي جوهانسبرغ المشهود على المنتخب الهولندي بهدف إنييستا الذهبي، قبل أن يكمل كتابة تاريخ لاروخا الحديث بالفوز بلقبٍ ثانٍ في كأس أمم أوروبا عام 2012، ليحفر اسمه بأحرف من ذهب في سجلّ أفضل لاعبي لاروخا عبر العصور، ويكمل مسيرة إنجازاته الشخصية التي أهّلته ليصبح اللاعب الإسباني الأكثر تتويجاً بالألقاب في التاريخ.