فلسطين كانت وستبقى القضية الأم التي يجمع عليها القريب والبعيد فهي رمانة الميزان والقدس صولجان القوة والسلطان، فمن خضعت له بيت المقدس حكم الدنيا ودانت له رقاب العباد، وانظر للتاريخ وخذ العبر. قد يستغرب البعض اهتمام قوى العالم بما يحدث على أرض غزة التي قد لا تكاد العين المجردة تراها على الخريطة الجغرافية لمنطقة شرق المتوسط، فهي شريط ضيق تبلغ مساحته 360 كم مربع إلا أن الغرب والشرق يظهر اهتماماً بالغاً لما يجري على أرضها ولا تكاد الوفود والمبادرات تنقطع سراً وعلانية لاحتواءها والحيلولة دون انفجارها. فبالنسبة لقوى الغرب تكمن أهمية غزة الاستراتيجية بشكل أساس لتهديدها لعمق ربيبتها “إسرائيل” وهذه هي كلمة السر، فمهما صغر حجم غزة واستهان الناس بقوتها واستضعفها القريب قبل الغريب، إلا أن سحرها بصواريخها “التي يعتبرها البعض عبثية” التي ترعب، ولو بصوتها، القابعين في أرضنا المحتلة وتشل اقتصاد الكيان وترغم أنوف المستوطنين في ملاجئهم ذعراً وهرباً من هذه “العبثية” ولغزة سحر برجالاتها الذين لا يضرهم من خذلهم كان قريباً أم بعيداً. وهذا هو فقط ما يدفع القوى العظمى متمثلة ببريطانيا وفرنسا وألمانيا ومن ورائهم أمريكا أن لا يتوقفوا عن المبادرات العقيمة والزيارات الممتالية لوزراء خارجيتهم للمنطقة محاولين إيجاد حلول تحتوي هذه الروح الثائرة والأجساد المتوقدة لتحرير أرضها.
ليس مستغرباً أن تخطب إيران ود القضية الفلسطينية، فمنذ قيام الثورة الإيرانية بقيادة الخميني وإعلان يوم الجمعة الأخير من رمضان يوم القدس، وإيران تقدم أشكال مختلفة من الدعم للقضية الفلسطينية لسببين رئيسيين، من وجهة نظري، أولهما أنها تريد ذراعاً يصل إلى قلب العدو الصهيوني كورقة ضغط في مواجهة القوى العظمى فبتهديد تل أبيب ولو بأياد خارج إيران تكون قد كسبت ورقة رابحة في أي مفاوضات مع القوى الغربية. والسبب الآخر أن إيران تداعب مشاعر السنة في المنطقة وتنزع عن نفسها الصبغة الطائفية الشيعية، فبدعمها حماس والجهاد الإسلامي “الحركات الإسلامية السنية” تنفي، حسب فهمها، المزاعم بطائفيتها وصبغتها الشيعية، وهذا ما يفتح لها باباً للقبول بين أوساط العرب السنة ويتيح لها التمدد في مشروعها التوسعي في المنطقة الذي بدا واضحاً في السنوات القليلة الماضية. إذ فتن العرب، في غياب الوجود السني الحقيقي، بالنموذج اللبناني لحزب الله التي سعت إيران حثيثة أن تبقي يد الحزب العليا، فلم تقدم لحركات المقاومة في غزة ما قدمته من تكنولوجيا السلاح والعتاد النوعي كما فعلت مع حزب الله الشيعي.
صعد حديثاً الدور التركي في دعم القضية الفلسطينة وازداد ذلك بعد المؤتمر الاقتصادي في دافوس 2009 وموقف أردوغان بعد حرب عام 2008 واتهامه لاسرائيل بارتكاب جرائم حرب وإبادة ضد أطفال غزة، وتعزز هذا الموقف بعد أحداث سفينة مرمرة التركية التي ارتقى فيها 10 من الشهداء الأتراك، وهو ما عمق الفجوة بين دولة الكيان وتركيا. وكان أردوغان أيضاً قد وعد عام 2013 بزيارة غزة وتراجع عن ذلك. فما الذي يدفع تركيا لاستعداء الغرب وتوتير علاقتها مع إسرائيل؟ هل هي المصالح البراجماتية؟ أم الإرث التاريخي؟ أم أنها تسعى للهيمنة على المنطقة؟
لا ينكر منصف أن تركيا تناصر قضايا المظلومين في شتى البقاع من ميانمار إلى الصومال إلى سوريا إلى غيرها من المناطق المنكوبة، ولهذا الدعم بعد أخلاقي وتاريخي وديني أيضاً. ولكن الحالة الفلسطينية لها وضع فريد من نوعه، ولفهم هذه الخصوصية لك أن تنظر إلى الصين وهي دولة عظمى ديمغرافيا واقتصاديا وعلميا ولكن لا وجود نافذ ومؤثر وحقيقي لها في الساحة العالمية لبعدها، من وجهة نظري، عن القضية الفلسطينة، ماليزيا قوة اقتصادية جبارة تفوق القوة الاقتصادية التركية لكنها في المجال السياسي والتأثير الإقليمي ضعيفة.
في مفهوم القوة الناعمة “soft power” لابد للدولة الطامحة في دور إقليمي أن تلعب مع الكبار لكي يكون لها مكاناً بين العظماء وإلا فإن انكفأت على ذاتها، فإنها قد تحقق مجداً اقتصادياً كالصين وماليزيا والبرازيل أو علمياً كاليابان وكوريا الجنوبية ولكنها لن تكون لاعباً أساسياً في المعادلة الدولية. تركيا بلد صاعد له إرث تاريخي وعمق ثقافي في المنطقة وتريد أن تستعيد هذا الإرث وتكون قوة يحسب لها الحساب ولا يتم تجاوزها في ملفات المنطقة وهي غاية صعبة المنال تحتاج إلى أدوات متعددة في بيئة تموج بالتناقضات والتهديدات، وتضاريس سياسية وعرة يصعب التعامل معها، فتركيا بالأمس القريب حليفة لإسرائيل تجري المناورات العسكرية المشتركة معها، وحجم التبادل التجاري يقارب 5 مليار دولار عام 2013. فلسطين هي الجواب، من حكمها حكم الدنيا.
ولعل الأذكى من بين اللاعبين جميعاً هي قطر، الدولة التي يبلغ عدد سكانها ما يقارب 2 مليون نسمة ومساحتها 12000 كيلو مترا مربع، ولكنها ورغم صغر حجمها الجغرافي، فهمت المعادلة وعرفت السبيل لأن تكون جزء لا يتجزأ من الحل والعقد في المنطقة وأوجدت لنفسها مكاناً في المعادلات الإقليمية بوسائل عديدة أهمها “فلسطين” وكانت شبكة الجزيرة الفضائية الذراع الضاربة لهذه الدولة صغيرة الحجم واسعة النفوذ والتأثير. هذا لا ينفي أن حمد بن خليفة كان قد أُعلن أميراً للمقاومة في جنوب لبنان لدعمه اللامحدود لإعادة بناء لبنان بعد حرب حزيران 2006، وهذا لا يعني بحال أن قطر دولة نفعية تسعى لأن يكون لها مكان بين القوى العظمى على حساب القضية الفلسطينة فهي أقوى الداعمين والمحتضنين للمقاومة الفلسطينية وأسخى المانحين في إعادة الإعمار ودعم الاقتصاد في غزة والضفة ولكنها يا عزيزي البراجماتية السياسية وقراءة خريطية القوى وصراع النفوذ في المنطقة.
ولك أن تنظر كيف هو حال الدولة الجارة، مصر التي تنازلت عن دورها الذي فرضه عليها الإرث التاريخي والواقع الجغرافي إذ إن غزة بوابة مصر الجنوبية وجزء لا يتجزأ من أمنها القومي ومع ذلك فقد تخلت “مصر السيسي” عن دورها التاريخي في دعم القضية الفلسطينية وأضحت طرفاً قد يتم تجاوزه بسهولة في أي عملية تسوية أو حل في القضية الفلسطينية. ولعلها هي غزة من أودت بذلك الرئيس المنتخب الشجاع الذي وقف في حرب غزة وأقلق الدبلوماسية العالمية باتصالات مكوكية لانهاء حرب الأيام الثمانية 2014.
وليس بعيدا عن الدور المصري، الدور السعودي الذي كان أقوى الداعمين للقضية الفلسطينية بمؤسساته وجمعياته الخيرية التي لا ينكر أحد دورها في ضخ الحياة للشريان الفلسطيني في فترات مختلفة في تاريخ القضية ولكنها وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتصاعد نبرة تجفيف منابع الإرهاب، بدأ منحنى الدعم ينزل تدريجياً حتى وصول حماس للسلطة وبدأ ترويج فكرة أن المال السعودي ساعد على شق الصف الفلسطيني وشارك في الدماء التي سالت في أحداث 2006 بين فتح وحماس، وبعدها اكتفت الدبلوماسية السعودية بدور الوسيط الخجول ورعاية مؤتمرات المصالحة وتقديم المبادرات المثلجة التي لم تأت بنتيجية. إذا كانت السعودية ترغب حقيقة في استعادة مكانتها كدولة محورية في المنطقة تملك كل الأدوات اللازمة لتكون صاحبة القرار لابد لأهل الرأي فيها من مراجعة مواقفهم من فلسطين وقضيتها.