عقب انقلاب الثالث من يوليو كان جهاز المخابرات العامة المصرية على رأس أولويات قادة الانقلاب من حيث أولوية إحداث تغيير سريع في قيادته، أُطيح باللواء محمد رأفت شحاته رئيس الجهاز المعين من قبل الرئيس السابق محمد مرسي، وعُين مستشارًا أمنيًا للرئيس المعين عدلي منصور كنوع من التمهيد لمرحلة اختفائه عن الأنظار، وهو ما قد كان ولم يُسمع همسًا لشحاته إلا في مرات قليلة كانت منها محاولة تبرئة ذمة المخابرات العامة من تهمة التضليل والتآمر على الرئيس السابق محمد مرسي، بعد تدوال هذه الأحاديث على لسان قيادات أمنية سابقة.
تم جلب اللواء محمد فريد التهامي الذي عزله الرئيس السابق محمد مرسي من رئاسة جهاز الرقابة الإدارية وأحاله إلى التقاعد بعد اتهامه بالتستر على فساد آل مبارك، أول من استعان به السيسي لرئاسة جهاز المخابرات العامة عقب الانقلاب العسكري هو التهامي، حيث أصبح الرجل شريكًا في اتخاذ القرار بعد الانقلاب.
فقد نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” بعد الانقلاب بفترة بسيطة عن أحد الدبلوماسيين الغربيين الذي أتى في وفد إلى مصر لمحاولة حلحلة الوضع في مصر مع الجنرال السيسي، حيث أكدت الصحيفة أن التهامي كان حاضرا في هذه اللقاءات، وقد أبدى رأيه بالرفض لعملية دمج جماعة الإخوان المسلمين في المرحلة الانتقالية على عكس ما كانت ترى القيادة السياسية وتستمع للنصائح الغربية، وقد كان الرجل متزعمًا لمنهج “تفكيك الجماعة” وهو ما يبدو سر اختيار السيسي له في هذه المرحلة.
فوجئ الجميع في نهاية العام الماضي بالسيسي وهو يطيح مرة أخرى برئيس جهاز المخابرات العامة اللواء محمد فريد التهامي وعُين مكانه رئيس هيئة الأمن القومي بالجهاز اللواء خالد فوزي خلفًا له، في دلالة واضحة أن الجهاز ما زال يسبب أزمة لدى القيادة بعد الانقلاب حتى بعد أن تولى رئاسته صديق شخصي للجنرال عبدالفتاح السيسي.
الرواية الرسمية لإقالة التهامي تقول أنها بسبب تردي حالته الصحية، ولكن مقربون من السلطة في مصر أكدوا أن التهامي في تلك الأوانة شكل عبئًا على السيسي داخليًا وخارجيًا بسبب منهجه في التعامل مع الأزمات التي تحيق بالنظام، ففي الداخل يرى التهامي أن التساهل مع الحركات الشبابية والمجتمع المدني هو خطأ يجب عدم تكراره بعد مبارك، كما أن ذلك سبب أزمة للسيسي مع واشنطن، كذلك خارجيًا لم يرحب التهامي بالمصالحة مع قطر وتزعم إفشالها.
في الوقت نفسه كانت التسريبات قد استباحت نظام السيسي وكانت أصابع الاتهام تُشير دائمًا إلى وقوف جهات داخل جهاز المخابرات العامة وراء هذه التسريبات، ولكن التهامي لم يستطيع حتى حينها إيقاف هذا السيل من التسريبات، بالتزامن مع الحديث عن ولاء بعض الشخصيات داخل الجهاز لوجوه قديمة كالفريق أحمد شفيق أو الفريق سامي عنان، وكلا الوجهين يرفض السيسي تمامًا عودتهم للحياة السياسية.
ما يدعو أيضًا لفرضية أن هذا الجهاز خارج عن طوع السيسي بشكل أو بآخر هي زيارة السيسي المفاجئة للجهاز في مطلع هذا العام للحديث مع ضباطه وأفراده وهي سابقة من نوعها، وربما تشي بوجود تذمر ما مصدره هذا الجهاز، من المعروف أيضًا أن ثمة صراع قديم بين المخابرات العامة والمخابرات الحربية التي كان يترأسها السيسي قبيل تعيينه وزيرًا للدفاع في عهد مرسي، لذلك فإن ثقة السيسي ذهبت إلى المخابرات الحربية بعد تقلده زمام الأمور عقب الانقلاب العسكري.
فالشواهد الداخلية تقول إن جهاز المخابرات الحربية قام بتحجيم دور المخابرات العامة تحت سمع وبصر السيسي، يعود الأمر إلى الفترة التي أعقبت ثورة يناير بعد تولي مراد موافي رئاسة المخابرات العامة خلفًا لعمر سليمان، حيث حدث خلاف حاد في وجهات النظر بين المجلس العسكري الذي أدار البلاد في هذه الفترة وبين موافي كمدير لجهاز المخابرات العامة وكان السيسي أحد أعضاء المجلس العسكري كرئيس للمخابرات الحربية، والذي طلب بدوره عرض نسخ من تقارير المخابرات العامة على المخابرات الحربية، وهو ما أحدث غضبًا لدى ضباط المخابرات العامة.
كل هذه الإرهاصات التاريخية القديمة في علاقة السيسي كرجل المخابرات الحربية السابق والذي قيل عنه أنه حاول السيطرة على جهاز المخابرات العامة بعد ثورة يناير بحسب مصادر من داخل جهاز المخابرات الحربية، وذلك بدعم من المشير طنطاوي القائد العام للقوات المسلحة في ذلك الحين والتي كانت تدير شؤون البلاد، وهو ما يفسر أمر التوتر في علاقة السيسي بجهاز المخابرات العامة والتي يعزي إليها الكثير نصب فخاخ لنظام السيسي الجديد كل حين وآخر وهو ما يحاول السيسي تفاديه بالتخلص كل فترة من مجموعة من ضباط الجهاز.
كان آخر هذه المحاولات إحالة السيسي عدد 11 ضابطًا من ضباط الجهاز للتقاعد بححج مختلفة بين قول أن تسعة من هؤلاء رغبوا في التقاعد، وبين أن حالة اثنين آخرين لا تسمح بممارسة عملهم، وهي أمور لا يوجد دلائل عليها، ومن الصعوبة أن تأتي جميعها في آن واحد كما حدث، وهو ما يعزز كون السيسي مستمر في محاولة تقليم أظافر الجهاز، خاصة مع ظهور أحاديث عن تواصل بعض أعضاء المخابرات العامة مع شخصيات كأحمد شفيق، وهو ما حذر منه النظام علنًا على صفحات الجرائد.
وقبل هذه الإحالة بيوم خرج يحيى حامد القيادي الإخواني ووزير الاستثمار الأسبق في عهد الرئيس السابق مرسي ليتحدث في تصريحات إعلامية أن ثمة أطراف من داخل النظام تتواصل مع جماعة الإخوان المسلمين، وذكر أن من بينها ضباط في المخابرات العامة، وهو ما قد يربط البعض بينه وبين إطاحة السيسي بـ11 ضابطًا من جهاز المخابرات العامة دفعة واحدة، كما يبدو أن الجهاز سيواصل التغريد في خط خارج سرب نظام السيسي لفترات قادمة، ومعه ستستمر حملة السيسي على الجهاز لتطويعه وكسب ولائه، وربما تعاد هيكلته على يد كوادر المخابرات الحربية التي سحبت الكثير من نفوذ المخابرات العامة خاصة مع بزوغ نجم السيسي، وهو ما سيشعل الحرب بين أركان النظام.