القيروان مدينة تونسية، تبعد حوالي 160 كيلومترًا عن تونس العاصمة، ويعود سبب أهميتها إلى دورها الإستراتيجي في الفتح الإسلامي، فمنها انطلقت حملات الفتح نحو الجزائر والمغرب وإسبانيا وأفريقيا، بالإضافة إلى أنها رقاد لعدد من صحابة رسول الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام ويطلق عليها الفقهاء “رابعة الثلاث،” بعد مكة والمدينة المنورة والقدس.
ويعود تاريخ القيروان إلى سنة 50 هـ / 670 م، عندما قام بإنشائها عقبة بن نافع. وكان هدفه من هذا البناء أن يستقر به المسلمون، إذ كان يخشى إن رجع المسلمون عن أهل إفريقية أن يعودوا إلى دينهم، وتُعتبر القيروان من أقدم وأهم المدن الإسلامية، بل هي المدينة الإسلامية الأولى في منطقة المغرب ويعتبر إنشاء مدينة القيروان بداية تاريخ الحضارة العربية الإسلامية في المغرب العربي، فلقد كانت مدينة القيروان تلعب دورين هامين في آن واحد، هما الجهاد والدعوة، فبينما كانت الجيوش تخرج منها للغزو والتوسعات، كان الفقهاء يخرجون منها لينتشروا بين البلاد يعلِّمون العربية وينشرون الإسلام، فهي بذلك تحمل في كلّ شبر من أرضها عطر مجد شامخ وإرثًا عريقًا يؤكده تاريخها الزّاهر ومعالمها الباقية التي تمثل مراحل هامة من التاريخ العربي الإسلامي، لقد بقيت القيروان حوالي أربعة قرون عاصمة الإسلام الأولى لأفريقية والأندلس ومركزًا حربيًّا للجيوش الإسلامية ونقطة ارتكاز رئيسية لإشاعة اللغة العربية.
ويعود أصل تسمية القيروان إلى اللفظ الفارسي “كيروان” والتي تعني المعسكر، أو المكان الذي يدخر فيه السلاح، ومن هنا ندرك أن عقبة بن نافع أقام هذه المدينة لتكون حصنًا منيعًا وقاعدة عسكرية لدوام واستمرار فتوحات المسلمين .
كيف يحتفي القيروانيون بشهر رمضان
متى زرت القيروان أيامًا قبل حلول الشهر الفضيل، فإنك ستلمح حركة قد لا تجدها خارجها، فاحتفاء أهالي المدينة العريقة بشهر رمضان، له تحضيرات تسبق قدومه بأيّام، من بينها إعداد “العولة” وهي عمليّة تخزين المواد الغذائيّة التي يتم إعدادها بطريقة تقليدية من خلال تحضير مشتقات الحبوب التي يتم طبخها في شهر رمضان والتوابل، كما يتمّ تحضير الأواني النحاسية التي تحرص العائلات القيروانية على أن تكون جزءًا من جهاز العروس (وإلى الآن لا تستعمل بعض العائلات سوى الأواني النحاسية)، علاوة على الزينة التي تُجمّل المساكن والمساجد والمعالم الدينية مثل من يستعد لإقامة عرس.
ويُستقبل شهر رمضان، استقبال الضيوف كما جرت عليه عادة أهل المدينة استئناسًا بمزيج من العادات العثمانية والفاطمية والبربرية؛ فمدفع رمضان الذي يعود للعهد العثماني، لا يزال يحافظ على مكانه في أعلى برج سور القيروان الذي يسمى “بريجة” والذي أعيد بناؤه في العهد الحسيني، وهو عبارة عن حشو من البارود يطلق في الهواء فيعلن صوته لأهل المدينة عن بدء الإفطار وحلول الإمساك، ويأذن وميضه للقاطنين في محيط المدينة بتلك المواعيد، ويوحّد المدفع المواقيت ويؤنس لحظات الإفطار، ولتلك الغايات احتج بعض أهالي القيروان ضد قرار منع المدفع في ولايات الجمهورية، وقد استثنيت القيروان من قرار المنع، جريًا على تلك العادات.
القيروان ومسحتها الروحية
ومن المميز في هذه المدينة الإسلامية العريقة، أنها تحوي في كل حي مسجد أو جامع، ومن هذه المساجد يعلو ترتيل القرآن في صلاة التراويح، ويستقطب جامع عقبة بن نافع، وهو أوّل مسجد وضع الفاتحون حجر أساسه قبل 1400 عام، زوّاره من محافظات مختلفة وكذلك ضيوفًا من الجزائر وليبيا ومن بعض دول الخليج، ويحافظ الجامع والمصلّين والأئمة على طابع الاعتدال ونبذ التطرّف وهو الوحيد الذي تشرف عليه لجنة تنظيم، وهو الى جانب كونه مسجد للعبادة، فهو معلم أثري تعتبره منظمة اليونسكو تراثًا عالميًا، إلى جانب معالم أخرى ومنها فسقية الأغالبة والمدينة العتيقة وسور القيروان ومعالم دينية منها مسجد الأنصاري، الذي بني قبل بناء جامع عقبة بن نافع.
وتستعيد مدينة القيروان خلال أيام شهر رمضان تألقها الروحي، حيث تشهد مساجدها التاريخية نشاطًا كبيرًا، من خلال حلقات حفظ وتجويد القرآن الكريم والمسامرات الدينية وحلق الذكر الصوفي والمدائح النبوية.
إلى جانب ذلك، تزدهر خلال ليالي الشهر الفضيل، حلقات الذكر الصوفي ومواكب الإنشاد والمديح التي تُعرف بها المدينة وتحييها فرق “السلامية” و”الحضرة”، في الزوايا الصوفية ومقامات الأولياء الصالحين وفي بعض مساجد المدينة العتيقة.
وتخص عاصمة الأغالبة ليلة القدر باستقبال حار وغير عادي، حيث تشع كل مظاهر الاحتفالات في كامل أرجاء مدينة القيروان، وتخيم عليها أجواء دينية يستمتع بها حتى الساهرين في المقاهي والسامرين في الأماكن الأخرى، فالتجار والحرفيون والمتساكنون يستعدون لاستقبال آلاف الزوار الذين يتوافدون من كل المدن التونسية الأخرى وغيرهم على أكثر المواقع قدسية في المدينة التاريخية إلى جانب الزوار من دول أخرى كدول الخليج و المغرب والجزائر وليبيا وغيرها.
وفي هذه الليلة يتحرك الأبناء في كل حدب وصوب لزيارة الأهل وتقديم التبريكات بالعيد السعيد برًا بالشيوخ والعجائز، وتعد ليلة الـ 27 من رمضان ليلة موعد “الموسم” التي لا تنازل عنها، الموسم هو مناسبة يهدي فيها الخطيب لخطيبته بعض الهدايا، فيقتنى الخطيب بعض الأواني البلورية والنحاسية والحلويات والملابس (ما عدا الأحذية) لخطيبته، أو يخرج الخطيبان برفقة والدتها لاقتناء الذهب استعدادًا للزفاف، كما تكثر في هذه الليلة عقود الزواج والخطوبات.
مقروض القيروان
من يقول القيروان يقول عقبة بن نافع الفهري ومسجده الشامخ، والأغالبة وتاريخهم العريق، ومقام الصحابي أبي زمعة البلوي حلاق الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، ويقول العادات والتقاليد الأصيلة، ومقروض القيروان، ذلك النوع من الحلويات الذي يميز هذه المدينة منذ قرون طويلة.
وفي شهر رمضان تتحول القيروان إلى ورشة كبيرة لصنع المقروض، الذي يتم بيعه في مختلف المدن والقرى التونسية، كما يتم تصدير بعضه إلى أوروبا حيث الجاليات التونسية والمغاربية التي تتهافت على شرائه ليؤنسها في ليالي رمضان، وليكون سيد المائدة في أيام عيد الفطر المبارك.
ويتم إعداد المقروض من خلال غربلة كمية من السميد الخشن ودقيق الفارينة الناعم، تضاف إليهما البكربونات والملح، ثم يحمى الزيت ويسكب فوقه الخليط، ثم يعجن باليد مع إضافة الماء الفاتر بكميات متفاوتة إلى أن تتماسك العجينة، وتوضع جانبًا حوالي 30 دقيقة، في تلك الأثناء يتم دق التمر بعد نزع النوى في مهراس أو يرحى بآلة رحي، وتضاف إليه القرفة والزيت إلى أن يصبح مرنًا وليّنًا.
وتؤخذ قطع من عجين الدقيق وتفتل على شكل اسطوانة مستطيلة، ثم تحفر في الوسط ليوضع فيها بعض عجين التمر، ثم تلف العجينة حول التمر وتفتل مرة ثانية آخذة شكل المستطيل، وتخضع لعملية تسطيح بقالب خشبي يتم احضاره للغرض، ثم تقطع حبات المقروض بالتساوي، وترمى في المقلاة حيث الزيت الساخن إلى أن تنضج، وبعد ذلك ترفع حبات المقروض وتوضع في مزيج ساخن من السكر الذاب في ماء الزهر المقطر، ثم ترش بالكون الأسود أو اللوز المهروش بعد قليه.