ترجمة وتحرير نون بوست
كتب كورت ديبوف وأيمن عبد المجيد
بعد أربع سنوات من إطاحة المصريين بالرئيس حسني مبارك الذي حكم البلاد لفترة طويلة، فقد الكثير من الناس، وخصوصًا في أوروبا، الأمل في هذه البلاد، حيث أُطيح بالرئيس الوحيد المنتخب ديمقراطيًا، زعيم الإخوان المسلمين محمد مرسي، من السلطة في انقلاب عسكري، وتم مؤخرًا تصديق حكم الإعدام الصادر بحقه، وبرئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسي والقوات المسلحة، عادت عناصر من نظام مبارك مرة أخرى إلى السلطة ولكن هذه المرة بعقلية انتقامية، وفي ذات الوقت، يقبع العديد من قادة احتجاجات ميدان التحرير في السجون والمعتقلات، وتبدو مطالب الحرية السياسية والديمقراطية في مصر أبعد منالًا من أي وقت مضى، ولكن في خضم هذه الظروف، تجري حاليًا تحركات أشد عمقًا وتأثيرًا مما يسمى بالربيع أو الشتاء العربي؛ ففي خفية عن أعين المجتمع، تجري ثورة اجتماعية في مصر الآن ستعمل على قلب وتحويل المجتمع برمته.
للمرة الأولى منذ خمسين عامًا، باشرت النساء المصريات بحملة خلع الحجاب، ويبدو أن كل مواطن مصري يعرف امرأة واحدة على الأقل في أسرته أو ضمن دائرة أصدقائه ارتكبت هذا الفعل التمردي الصغير ولكن المهم بذات الوقت، وهذا الفعل ليس الممارسة العلمانية الوحيدة التي يتم تداولها بين المصريين؛ ففي الظل، يبحث المزيد والمزيد من المواطنين المصريين عن المحرمات الاجتماعية مثل الإلحاد أو حتى الهوية الجنسية، ومن هذا المنطلق، لا تتحدى هذه الممارسات الأصولية الدينية الصارمة للإسلاميين مثل الإخوان المسلمين فحسب، وإنما تتحدى أيضًا الإسلام المؤسساتي الذي يدافع عنه النظام المصري الحالي.
هذه الثورة الصامتة الجارية في المجتمع المصري تتناقض مع الأخبار اليومية التي ترد للغرب من العالم العربي، حيث تتركز أعين الجميع هناك على الدولة الإسلامية؛ فبعد فظائع وأهوال طالبان وتنظيم القاعدة، صُدم العالم لرؤية نسخة أكثر تطرفًا وهمجية من حكم الإسلاميين الذين يفرضون سلطتهم بحكم الرعب، ولكن هل يتحول المزيد من الأشخاص ليصبحوا متطرفين، أم يتحول المتطرفون ليصبحوا أشد تطرفًا؟
لا شك بأن بعض المصريين غدوا أكثر تطرفًا منذ الحملة الشرسة التي شنها النظام المصري على جماعة الإخوان المسلمين، بل إن بعض أعضاء الإخوان المسلمين قد انضموا إلى الدولة الإسلامية أو إلى الجماعات الإسلامية الأخرى.
ولكن الأهم من ذلك بكثير هو ما يحدث ضمن الأغلبية الصامتة في مصر، ففي تلك المجتمعات، أصبح تبني منهج معاكس للتطرف الإسلامي اتجاهًا واضحًا للغاية؛ فعدد أقل من سائقي سيارات الأجرة يضعون القرآن الكريم بشكل بارز ضمن سياراتهم، والحجاب يتم خلعه من قِبل النساء في مصر، وعدد أقل من الجيل الثوري الشاب في مصر يحضر الصلاة في الجوامع، كما أشارت الكاتبة المصرية رنا علام إلى صدمتها البالغة عندما أعلن طفلها البالغ من العمر 12 عامًا فجأة عن عدم احترامه للشيوخ، كما توقف ابن صديقتها البالغ من العمر 13 عامًا عن الذهاب إلى المسجد، لأن الإمام استمر بإهانة وتشهير النساء غير المحجبات، ولم يستطع الطفل تحمل المزيد من الإهانات الموجهة إلى والدته، وعلى الرغم من أن معظم المنضوين تحت لواء هذا الاتجاه يكتفون بشجب الإسلام السياسي الذي يتم التبيشر به في العديد من المساجد، بيد أن آخرين يذهبون أبعد من ذلك، ويغازلون الإلحاد بمواجهة التطرف.
لا مندوحة من القول بإنه لا يوجد أي استطلاعات وإحصائيات موثوقة تحدد مدى انتشار هذه الاتجاهات، حيث أعلنت مؤسسة دينية في القاهرة أن هناك على وجه التحديد 2293 ملحدًا في العالم العربي، و866 من بين هؤلاء يعيشون في مصر، ولكن من جهته بيّن الصحفي المغربي أحمد بنشمسي أنه استطاع العثور على أكثر من 250 صفحة أو مجموعة إلحادية عربية على الفيسبوك وحده، بعضويات تتراوح ما بين عدد قليل من الأفراد إلى أكثر من 11000 شخص، ولكن بالمجمل، لا توجد إحصائيات تبيّن عدد النساء اللواتي خلعن الحجاب أو عدد الأشخاص المثليين؛ لذا في الوقت الحاضر، لا يمكننا سوى الاعتماد على القصص الشخصية، التي قد تمثل وتكشف عن الحركة والاتجاه الصامت الجاري في مصر.
أحد هذه القصص تدور حول عائلة محافظة في مدينة بورسعيد، الشقيقتان مروة وهبة، وهما في الثلاثينات من عمرهما، اكتشفتا بعد سقوط الرئيس مرسي، أن الكتب التي نشأتا على قراءتها، كانت تُطبع وتُوزع من قِبل جماعة الإخوان المسلمين، ومن هول صدمتهما لمعرفة هذا الأمر، شرعتا في إعادة النظر بجميع وجهات نظرهما للعالم حولهما، وانتهى بهما الأمر للتشكيك بالأسس التي يقوم عليها دينهما، “فقط بعد سقوط مرسي، اكتشفت أن حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، هو الذي كتب توطئة كتاب العيش ضمن الخطوط السنية” قالت مروة، وتابعت “لقد نشأت مع هذا الكتاب، والآن بدأت أشك في كل شيء”، وبالنتيجة، أصبح حجاب الأختين أكثر حداثة وأقل تحفظًا، وبعد ذلك اختفت الأختان تمامًا.
أميرة، 28 عامًا، قصتها أقل سياسيةً، وأكثر شخصيةً، فهي بدأت بارتداء الحجاب في سن الـ 12، لأنها أرادت أن تتجنب المعاصي، ولكن والديها وهما من الطبقة الاجتماعية الراقية، لم يستطيعا التعايش مع قرارها هذا، لذلك ذهبت أميرة لتعيش مع جديها، وبعد 12 عامًا، أصبح والديها أكثر تحفظًا، وأضحت والدتها ذاتها ترتدي حجابًا، في الوقت الذي اتخذت فيه أميرة قرارًا بخلعه، لرغبتها بأن “تشعر بالهواء يداعب شعرها”.
دنيا، 35 عامًا، خلعت حجابها مباشرة بعد ثورة 2011، فبعد أول سباحة لها بدونه، قالت “شعرت بالماء يسري على جسدي، هذا التحرر، كان ثاني أفضل شعور بالحرية بعد سقوط مبارك”.
الشباب المصري يعمل الآن على ترويج هذه الثورة الصامتة ضمن وسائل الإعلام الاجتماعي، فبرنامج Grindr، وهو تطبيق تعارف ما بين مثليي الجنس من الرجال، ونظيره WAPA، المخصص لمثليي الجنس من النساء، عصفا بالبلاد وانتشرا بها أيّما انتشار، حيث تبين أن آلاف المثليين والمثليات كانوا على استعداد لوضع أسمائهم وصورهم ضمن التطبيقين من أجل التعارف مع بعضهم البعض، كما قمنا نحن ذاتنا باختبار هذين البرنامجين، من خلال الانضمام إليهما، وفعلًا امتلأت صناديق بريدنا الإلكتروني بالدعوات في غضون أسبوع واحد فقط.
“شعرت وكأني عثرت على نفسي أخيرًا”، يقول إسلام، وهو شاب مثلي الجنس أفصح عن ميوله الجنسية مؤخرًا، وأردف قائلًا “لقد أصبحت مُتقبلًا، وأنا ممتن لهذا، لا سيّما بين أصدقائي الإناث”، ومن الجدير بالذكر، أن صداقة النساء مع مثليي الجنس من الذكور أصبحت من الأمور العصرية، خصوصًا بين اللواتي أمضين شبابهن في مشاهدة المسلسل الأمريكي الجنس والمدينة (Sex and the City).
هدى، 30 عامًا، تعمل كمديرة تسويق، وجدت وسيلة للعيش كمثلية حتى بعد أن تم إجبارها على الزواج، “أخيرًا أشعر بالحب، وعشيقتي تستوعب وضعي، وزوجي أيضًا يتقبله”، قالت هدى، وأضافت “لقد قام زوجي حرفيًا بإضاءة الطريق أمامي عندما كنت على وشك أن أقتل نفسي”.
أحمد، وهو شاب مثلي الجنس يبلغ من العمر 34 عامًا، كشف عن ميوله الجنسية في عام 2011، وكافح ضد عائلته لرفضهم قبوله وانفتاحه حول الهوية الجنسية، وفي نقطة معينة وصل إلى مرحلة اليأس، وطلب اللجوء الجنسي في أوروبا، ولكن نتيجة لطبعه المقاتل وإيمانه بالحرية، قرر البقاء في مصر، وانتهى به المطاف ليصبح فنانًا مشهورًا، وفي نهاية المطاف، وافقت أسرته وتعايشت مع أسلوب حياته.
من جهته، يرفض النظام المصري هذا الاتجاه الجديد، فصحيح أن الحكومة ومؤيديها يناصبون العداء لجماعة الإخوان المسلمين، ولكن مع ذلك، فإنهم يرون أنفسهم بذات الوقت حراسًا للمجتمع الإسلامي المحافظ الذي يعرفونه، ويبذلون أقصى ما في وسعهم لوقف التحول الذي يعتبرونه قد تمادى حدوده.
في الإسكندرية، تم إنشاء فرقة خاصة من الشرطة للقبض على الملحدين، وفي 10 يناير، تم القبض على كريم البنا، وهو طالب يبلغ من العمر 21 عامًا، وحُكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات، لنشره أنه ملحد على الفيسبوك، وفي ديسمبر الماضي، اعتقلت الشرطة 26 رجلًا في حمام عمومي واتهمتهم بممارسة الفجور، بعد أن تلقت بلاغًا من قِبل مذيع تلفزيوني بارز، ولكن تمت تبرئة ساحة الرجال بعد أثبت الفحص الشرجي أنهم لم يمارسوا أي أفعال منافية للحشمة، وفي الشهر نفسه، أغلقت الشرطة حانة في وسط القاهرة لأنها كانت تستضيف ضمنها مجموعة من الملحدين.
هذه الحملات الحكومية هي مجرد غيض من فيض، ولكنها تثبت ما يحدث على أرض الواقع في مصر، إنها معركة ما بين المؤسسة المحافظة التي توظف الأدوات الديكتاتورية القديمة، وما بين الجيل الثوري الشاب، الذي يوظف وسائل الإعلام الاجتماعي ومناهج مبتكرة أخرى كأدوات لحربه مع الحكومة، إنها معركة ما بين مجتمع يفرض على الناس ما يجب أن يكونوا عليه، وما بين جيل يسعى لأن يكون ما هو عليه فعلًا.
في أوروبا، وضع الحجاب يعتبر ثورة وتمردًا، بينما في مصر، فإن التمرد هو في خلعه، ولكن ليس ارتداء الحجاب هو الذي يجعل المرء محافظًا، ولا عدم ارتدائه هو الذي يجعله تقدميًا، بل إن فعل التغيير والتمرد هو الذي يخلق هذا الفارق، وإذا كانت ثورة مصر لعام 2011 قد فشلت على العديد من المستويات، وخاصة من الناحية السياسية، بيد أنها نجحت في إقناع جيل الشباب بأنه يستطيع أن يكون حرًا إذا أراد ذلك حقًا، وذلك على الأقل في أذهان هؤلاء الأشخاص وحياتهم الشخصية.
جيل الشباب المصري الذي يبلغ من العمر أقل من 25 عامًا ليس عبارة عن مجموعة صغيرة، بل إن هذه الفئة تشكل 50% من سكان مصر، وهذا الجيل هو ذاته الذي صنع ثورة 2011 وحول الحلم إلى حقيقة، والآن، يعمل بطريقة مختلفة، على تغيير وتحويل البلاد مرة أخرى، هذه الثورة الاجتماعية مازالت عملية صامتة حتى الآن، ولكن على المدى الطويل، فإنها قد تؤدي إلى تغيير أعمق مما يتوقعه أي شخص منا.
المصدر: فورين بوليسي