ترجمة وتحرير نون بوست
اعتادت جدتي أن تروي كيف كان رجال العصابات يركبون الخيل في ولاية لويزيانا في الليل، وكيف كان يمكنها أن ترى ثيابهم البيضاء تلمع في الظلام، وكيف اختبأ السود هربًا منهم، قبل زمان جدتي، آمن أعضاء عصابة “كو كلوكس كلان” بأنهم يمكنهم تخويف مواطنيهم السود الذين يؤمنون بالخرافات، وأن يردوهم عن حريتهم التي كانوا قد اكتسبوها حديثًا؛ كانوا يرتدون أزياء مرعبة لكنهم لم يكونوا يختبئون بشكل كامل خلف تلك الأزياء، فكثير من العبيد السابقين استطاعوا التعرف على أسيادهم أو على جيرانهم بمجرد رؤيتهم تحت الملاءات البيضاء الشهيرة، كانوا يطاردون السود بالأقنعة، وفضلًا عن ضرب السود أو قتلهم، فقد كانوا يدعون أنهم أشباح الجنود القتلى الذين حاربوا لصالح الولايات الكونفدرالية (وهي سبع ولايات جنوب الولايات المتحدة كانت تؤيد العبودية وأعلنت استقلالها عن الولايات المتحدة عقب فوز إبراهام لنكولن بالرئاسة، واستمرت بين 1961 و 1865) في الحرب الأهلية.
لكن الآن يمكن للبعض أن يجادل بأنه لا توجد أشباح للكونفدرالية، فالكونفدرالية لم تمت حتى الآن، النجوم السبع والخطان المتقاطعان لا يزال بكل فخر يحلق فوق مبنى ولاية كارولينا الجنوبية، حتى القتل ذاته لم يتوقف، كما رأينا في حادثة مقتل تسعة أشخاص في تشارلستون هذا الأسبوع، المسلح المجرم هو أبيض وُجهت إليه تسع جرائم قتل يوم الجمعة، ويقال إنه قال للأشخاص الذين قتلهم أثناء تدارسهم الإنجيل “لقد اغتصبتم نساءنا، وتحتلون بلادنا، وعليكم أن ترحلوا”.
كانت وسائل الإعلام مترددة في تصنيف حادثة إطلاق النار باعتبارها عملًا إرهابيًا، على الرغم من أن هذا هو تعريف العمل الإرهابي كما عرفناه، الإرهاب الذي وُلد في أمريكا نشأ من أجل تقييد حرية المحررين حديثًا من الأمريكيين السود، الذين بدأوا لأول مرة في الحصول على آلية للضغط السياسي.
القانون الذي صيغ لردع الكو كلوكس كلان، والذي كان يهدف المشرعون الأمريكيون من خلاله قمع الكو كلوكس كلان باستخدام القوة، كان أول تشريع في الولايات المتحدة يمكن اعتباره قانونًا لمكافحة الإرهاب، عندما أصبح ذلك التشريع اتحاديًا في 1871، تسع مقاطعات في ولاية كارولينا الجنوبية وُضعت تحت الأحكام العرفية وأُلقي القبض على عشرات الأشخاص، وكانت أوهام ومخاوف أعضاء العصابة الذين برروا بها استخدامهم القتل ضد السود، أن السود يغتصبون النساء البيض ويسعون للسيطرة على البلاد، هي نفس أوهام ديلان رووف، صاحب هجوم تشارلستون.
حتى مع هذه التشابهات القاطعة، لا زلنا نسمع تكهنات لا نهاية لها حول دوافع مطلق النار في تشارلستون، كتبت حاكمة ولاية كارولينا الجنوبية، نيكي هالي، تقول إنه “بينما لا نعرف كل التفاصيل حتى الآن، نحن نعلم أننا لن نفهم ما الذي يحفز أي شخص لدخول مكان عبادة وقتل شخص آخر!”.
على الرغم من التقارير التي تقول إن القاتل أعلن عن كراهيته العنصرية قبل أن يطلق النار، إلا أنه بالنسبة للجميع لا تزال دوافعه غامضة! حتى بعد ظهور صورة له مزينة بأعلام روديسيا وجنوب أفريقيا أثناء نظام الفصل العنصري، ويتكيء على سيارة تحمل لوحات عليها علم الكونفدرالية، وهذه كلها أدلة على اعتناقه للعنف ولأيديولوجية الفصل العنصري، إلا أن تصرفاته لا تزال غير مفهومة بالنسبة للحاكمة!
صحيفة سياتل تايمز غردت تتساءل إذا ما كان القاتل “طفلًا جميلًا أم مركزًا للشر”، أما وول ستريت جورنال فوصفته بأنه “وحيد”، أما رئيس بلدية تشارلستون فقد وصفه بأنه “وغد”، لكن الصفات والألقاب الأكثر وضوحًا مثل إرهابي، قاتل، بلطجي أو عنصري، فليس هناك مكان لها في الخطاب الإعلامي الأمريكي.
هذه هي ميزة البياض! ففي حين أنه قد يكون الإرهابي أبيض، إلا أن الإعلام لن يشير أبدًا إلى أن لونه هو السبب في إرهابه، الإرهابي الأبيض لديه دوافع معقدة ومتفردة عن أي إرهابي آخر، وهو ما لن نفهمه أبدًا، فيمكن أن يكون الرجل شخصًا وحيدًا مضطربًا أو وحشًا، إما مختل عقليًا أو شر محض، الإرهابي الأبيض موجود فقط في صيغتين لا ثالث لهما، إما أنه شديد الإنسانية لدرجة تستجلب التعاطف، أو وحشي لدرجة تجعله شبه أسطورة لا مثيل لها بين البيض، وفي الحالتين فهو لا يعبر عن عرقه، ولونه لا يعبر عن عنصريته، الإرهابي الأبيض يمكن أن يكون أي شيء يعبر عن وحدته وشذوذه وانفصاله عن تاريخ طويل من الإرهاب الأبيض!
دائمًا ما أُصعق بالتردد ليس من تسمية “الإرهاب الأبيض”، لكن حتى من إطلاق وصف “الأبيض” على أي عمل عنيف أو عنصري؛ في مقال نُشر مؤخرًا في صحيفة نيويورك تايمز عن الإعدام للسود خارج نطاق القانون، وصفت مرارًا وتكرارًا الضحايا بأنهم سود، لكن لم يُشر ولو لمرة واحدة إلى المجرمين باعتبارهم بيض! لقد كانوا يوصفون ببساطة على أنهم من الغوغاء أو أنهم مجموعة من الرجال.
في مقال حول العنف العنصري، ظهر تناسي البياض بشكل فج وسخيف، حيث يُروج من خلال هذا المقال بأن عرق الضحية له علاقة وصلة بالجريمة المرتكبة، ولكن عرق القتلة هو موضوع عرضي، فإذا كنا فعلًا على استعداد للاعتراف بأن العرق هو السبب الذي يكمن خلف تصفية السود، فلماذا نحن غير مستعدين للاعتراف بأن العرق هو السبب بقيام البيض بإعدامهم أيضًا؟
في تصريحات له عقب حادثة إطلاق النار في تشارلستون، ذكر الرئيس أوباما البيض مرة واحدة فقط، من خلال اقتباس للقس الدكتور مارتن لوثر كينغ يهدف إلى تشجيع الوئام بين الأعراق، واعترف أوباما بشكل غامض بأن “هذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها كنائس السود للهجوم”، لكنه امتنع عن تحديد هوية مرتكبي الهجوم على هذه الكنائس، وهذه اللغة السلبية التي استعملها أوباما تعكس الغموض الغريب المتمثل بالتردد بتسمية وتحديد الإرهاب الأبيض، كما لو أن كنائس السود تعرضت للهجوم من قِبل قوى لا جسد لها، ولم تتعرض للهجوم من قِبل أناس حقيقيين، بدافع من أيديولوجية عنصرية تضرب جذورها ضمن ماضي وتاريخ تأسيس هذا البلد.
أستطيع أن أفهم السبب الكامن خلف هذا الصمت، فإذا كان العنف الأبيض غير مُعلن وغير معترف به، وإذا صنفنا الإرهابيين البيض على أنهم إما قديسين أو شياطين، فنحن حينئذ، لن يكون علينا التعامل مع الواقع الأشد تعقيدًا للغاية والمتمثل بالعنف العنصري؛ ففي يومنا هذا، الإرهاب العنصري لم يعد يعلن عن نفسه ويتكشّف بشكل أغطية وملاءات بيضاء، كما كان في عصر الكو كلوكس كلان، بل يمكن أن تتصور العنصرية في عصرنا هذا، بشكل شاب يبلغ من العمر 21 عامًا، ولديه العديد من الأصدقاء السود على الفيسبوك، وينشر نكاتًا عنصرية مؤذية، وهو بذلك يرتكب عملًا شنيعًا من أعمال العنف العنصري المرعب، فنحن لا نستطيع أن نفصل أنفسنا عن الوحوش لأن الوحوش لا وجود لها، كون الوحوش كامنة في البشر منذ البداية وطوال الوقت.
المخيلة الأميركية المعاصرة، تتصور الإرهاب على أنه أجنبي وبني اللون، وهؤلاء الإرهابيون – وفق هذه المخيلة – لا يمتلكون دوافعًا معقدة، فنحن لا نحث بعضنا بعضًا لنتحفظ عن إطلاق الأحكام حتى نبحث بتاريخ هؤلاء على الفيسبوك أو حتى نقابل أصدقائهم، ونحن لا نستشير علماء النفس لتحليل حالتهم العقلية، لأننا ضمن مخيلتنا المعاصرة، نعرف على الفور لماذا يَقتلون.
ولكن الإرهابي الأبيض هو لغز محير، الإرهابي الأبيض ليس له تاريخ، ولا إطار، ولا أصل، فهو مجهول إلى الأبد ومنذ الأزل، ولا نستطيع أن نفصح عن وجوده بذاته، فنحن نراه، لكننا ندعي أننا لا نستطيع رؤيته، إنه شبح يتحرك تحت جنح الظلام.
المصدر: نيويورك تايمز