في ظلال منارة جامع النوري الكبير (الحدباء) 400 كيلو متر شمال بغداد، تقع بلدة نبي الله يونس – عليه السلام -، تلك المدينة المباركة التي استثناها الله من العذاب فقال فيها {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين}، تلك المدينة التي لها قصة مختلفة عن بقية قصص موائد الإفطار في بلاد المسلمين؛ فالمرأة الموصلية قد تعد للمائدة الرمضانية طوال العام فهي تختار أطيب الطعام من مواسم السنة لتجعل منه مخزون لشهر الرحمة، فذلك من تعظيم الشعائر وتحبيب القلوب بذلك الشهر الذي تعتق فيه رقاب الناس من النار.
سوف آخذكم في رحلة للتعرف على المائدة الموصلية الرمضانية ونضع بين أيديكم أطباق البركة لتطوف عليكم.
تمور الإفطار
مما لا شك فيه أن الموائد الرمضانية لا تخلو من التمور باعتبارها سنة نبوية شريفة، ولكن لرمضان خصوصية حتى في اختيار التمور؛ فالعراق بلد التمور وهناك طيف واسع من التمور في الأسواق الموصلية، فتختار العوائل الموصلية نوعًا خاصًا وهو “البرحي” وهو أحد أنواع التمر البرحي قبل أن يصل إلى مرحلة النضوج الكامل فيكون بطعم مختلف وجميل، وهو من الأنواع التي يقتصر العراق على زرعها وتحمل من جنوب العراق إلى شماله، ولكن رمضان قد لا يصادف في موسم وجود البرحي فتقوم المرأة الموصلية بتحزين البرحي بالتجميد وحفظه ليظهر في رمضان، حتى وإن صادف رمضان في غير موسم البرحي.
عصائر الإفطار
لا تخلو المائدة الموصلية من العصائر؛ حيث تشتهر المدينة بنوعين من العصائر وهما:
– عصير الزبيب: وهو منقوع الزبيب المبرد ما يسمى شعبيًا بالـ “طحلك”، وهو الزبيب الميبس الذي يستخدم في صناعة عصير الزبيب، بنقعه لفترة في الماء ثم حلجه، ثم ترسيب المنقوع وإضافة السكر إليه، ويقدم باردًا وهو أشهر ضيوف المائدة الرمضانية.
– عصير السوس: وهو منقوع سيقان وجذور نبات عرق السوس، وهو من المشروبات التقليدية الصيفية، وضيف آخر للموائد الرمضانية، وقد تم وضع تمثال في المدينة تخليدًا لعمل “السواس”، وهو بائع السوس في المدينة، دليلاً على عراقة المهنة في المدينة وقدمها.
الطرشي الموصلي
في زيارتك لمدينة الموصل لا بد من عودتك محملاً بالطرشي الموصلي (وهو من مكبوسات الخضراوات بالخل)، حيث تشتهر الموصل بها فتجد الموصلي يحمل معه علب الطرشي عند زيارته لأي محافظة عراقية أو دول الجوار؛ فالطرشي الموصلي له طعم خاص لا يوجد في المخللات التي تُصنع في المدن الأخرى، وعادة ما يكون بتخليل الخظراوات بأنواعها، حيث يكون جزءًا أصيلاً من المائد الرمضانية خاصة عند وجود وجبات المشاوي ويشتهر عن المدن الأخرى بطريقة العمل حيث يصل الخل إلى قلب الخضار دون أن يحدث ليونة أو ضعف في بنيته؛ مما يجعل طعمه مختلفًا عن المخللات في الدول والمدن المجاورة.
الدولمة
وهي من أبرز الأكلات الموصلية وهي كلمة تركية تعني المحشي، ولكن الدولمة الموصلية تختلف عن المحشي المصري أو الشامي وحتى عن ورق العنب والمحاشي التركية، حيث تُصنع بطريقة فريدة ومتنوعة فيحتوى الطبق على محشي الباذنجان والكوسة والملفوف وورق العنب والفلفل الأخضر والطماطم؛ مما يجعل طعمه مختلفًا وتنوعه فريدًا، وتعد الدولمة الموصلية من الأطباق الرئيسة في المطبخ الموصلي بشكل عام.
الكبة الموصلية
وتسمى أيضًا بالكبة الكبيرة لكبر حجمها، وهي من الأكلات صعبة التحضير وتحتاج مهارة من سيدة المطبخ الموصلي، وتطبخ عادة عند وجود شخص مهم في ضيوف المنزل الموصلي وتقدم بشكل مثلثات وتمتاز بجمالها، وتتفاخر النساء الموصليات بقدرتهن على عمل أكبر حجم، فكلما ازداد الحجم كلما كانت هناك صعوبة في تحضيرها، وتقترب من طعم الكبة الصاجية للشاميين.
العروك
وتلفظ باللهجة الموصلية “عغوق”، فللموصليين لهجة متميزة عن أهل العراق حيث يلفظون الراء غين في كثير من الكلمات مما جعل لهم تميز آخر إضافة لتميز المائدة الموصلية، وتخبز العروك في التنور لتقدم ساخنة وتحضر من عجن أحد أنواع الحبوب وحشوه بطبقة من اللحم الثروم وعادة ما يكون لحم مصحوب بدهن.
الباچة
يبدو أن عدوى التنوع انتقلت أيضًا من أكلة الدولمة الموصلية إلى أكلة ثانية وهي الباچة وهي أكلة دسمة جدًا، حيث يتم حشو أمعاء الخراف بالأرز ليطبخ ما يسمى بالـ “پمبار” ويتم إضافة أقدام المواشي من الأبقار والأغنام حيث تسمى محليا بالـ “مقادم” ويطلق عليها المصريون “الكوارع”، إضافة لرؤوس الأغنام والأبقار لتكون أكلة دسمة جدًا عادة ما تقدم للسحور في رمضانات الشتاء أو في المناسبات الخاصة ومنها موائد رمضان، ومن الجدير بالذكر أنها تقدم في تركيا لكنها منفصلة وكل على حدى، وتقدم الكوارع في مصر أيضًا منفصلة مما جعل جمعها في طبق واحد ميزة موصلية بامتياز.
كما تشتهر المائدة الموصلية بطيف واسع من الأكلات مثل (البرياني، المقلوبي، البامية، طاجن الباذنجان، القلية، وغيرها) لم يسعفنا المجال لذكرها جميعًا فالقائمة طويلة فعلاً.
الحلويات
لعل رمضان من المواسم المتميزة لمنتجين الحلويات وتظهر فيه إبداعات وطرق جديدة، قد يكون المطبخ الشامي والحلبي قد دخل بقوة في فقرة التحلية لكن للحلويات المحلية نكهة خاصة تظهر جلية في رمضان.
الزلابية
وهي من الحلويات العراقية وتصنع فقط في رمضان، وتعتبر أحد أبرز ضيوف رمضان الحصريين، ولها نوعان متميزان هما: الأصفر والأسمر أو الأبيض والأحمر، وتصنع بشكل دوائر، وعادة ما كانت مرافقة في التراث العراقي مع لعبة إيجاد الخاتم في الأيادي (المحيبس) لتكون تحلية اللاعبين بعد الانتهاء من اللعب.
من السما
وهي من الحلويات الفريدة التي تُصنع من مادة “المن” مضاف إليها المكسرات من جوز وفستق وبندق لتقدم في المناسبات الخاصة جدًا كونها من الحلويات غالية الثمن، وتشتهر الموصل وتتميز بها حيث تعتبر من الحلويات التراثية في المدينة.
إصرارنا على طرح عراقة المائدة الموصلية وتراثها الممتد وتشابكها مع الثقافات المجاورة في ظل الوضع الذي تعيشه المدينة من حصار داخلي وخارجي جعل المائدة الموصلية تقتصر على أبسط الموجودات وجعل المرأة الموصلية تعاني لتجعل مائدتها تقترب من الموائد التي كانت تعدها في أعوامها الماضية بتنوعها وجمالها، ونازحيها في الخيام المنتشرة في أرجاء العراق وخارجه وكرمهم في رمضان رغم العوز والجوع دليل على أن هذه المدينة لن تموت أو تستسلم، لكنها ستعود ولو بعد حين وتبقى المباركة الرمضانية الموصلية هي البداية والخاتمة بكلمة “مبارك صومكم”.