“تفتقر أمريكا إلى إستراتيجية كاملة للتصدي لتنظيم الدولة الإسلامية بسبب عدم التزام العراق بشكل كاف”، كان هذا التصريح للرئيس أوباما يعبر عن حالة التصاعد في الانتقاد لإستراتيجيته التي بدأت تتصاعد في الأوساط الأمريكية المختلفة بعد تقدم التنظيم واحتلاله لمدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار، الذي مثّل انتكاسة كبيرة تعرضت لها تلك الإستراتيجية، هذا السقوط أعاد إلى أذهان الأوساط الأمريكية تداعي “الجيش الوطني الصيني” في بورما أمام القوات اليابانية في العام 1942 بعد أن كانت الولايات المتحدة قد أرسلت بعثة مساعدة سرعان ما تقهقرت وهي تجر أذيال الهزيمة، فتصاعدت النداءات لإدارة أوباما إلى إعادة النظر بشكل جذري في تلك الإستراتيجية التي أثبتت إخفاقها وإصلاحها أو تبني إستراتيجية بديلة في مواجهة التنظيم.
إخفاق هذه الإستراتيجية يعود إلى ما تعانيه من خلل في التوازن بين الغايات والوسائل ونوعًا من العجز في طرق تحقيقها، يرجع ذلك إلى عدم كفاية الموارد المخصصة لإنجازها، وصحيح أنها تعبر عن حالة نجاح كبيرة لإستراتيجية الرئيس أوباما للأمن القومي في 2010 في اعتمادها على مفهوم القيادة الأمريكية وإصلاح الخلل مع الشركاء الإقليميين والدوليين الذي تسببت به إدارة الرئيس جورج بوش، لكن هذه الإستراتيجية تعاني غموضًا وضعفًا على مستوى هدفها العام وهو مواجهة تنظيم داعش، ويمكن متابعة مواطن الإخفاق في هذه الإسترتيجية من خلال توضيح أهدافها:
مواجهة تنظيم داعش في سياق الحل السياسي الشامل
تدرك الولايات المتحدة أن واحدًا من أبرز الأسباب الرئيسة لظهور تنظيم داعش هو حالة العجز والفشل السياسي الذي تعيشه المنطقة التي ظهر بها التنظيم؛ فالأخير استغل الحالة الضبابية المتعلقة ببطش السلطة الحاكمة في سوريا واستبدادها الطائفي في العراق ومعارضتها المتصاعدة؛ مما ولد بيئة خصبة اخترقها التنظيم ليحقق له أرضية خصبة تداعت أمامه منظومات تلك الدول والقوى الفاشلة؛ ونتيجة لهذا الإدراك فإن إدارة أوباما ترى أن لا حل لمشكلة التنظيم ما لم يكن هنالك حلاً سياسيًا شاملاً يقوم على تشكيل حكومة وحدة وطنية في العراق أولاً، تقوم بتمثيل كل الطوائف وتستوعب العرب السنة فيها وتجذبهم ليكونوا بصف الحكومة والولايات المتحدة في مواجهة تنظيم داعش، والسعي إلى حل الأزمة في سوريا ثانيًا وإيجاد بديل لنظام الأسد، وترى أنه من دون ذلك فإن التنظيم الذي يمتلك قدرة مراوغة عالية سيعود من جديد وبشكل أقوى، وحينها لن تكون إستراتيجية التحالف غير ذات معنى.
ولما كانت إدارة أوباما تركز على “العراق أولاً” فإنها ضغطت بشكل كبير لتشكيل حكومة وحدة وطنية مهمتها القيام بإصلاحات مهمة تنعكس على إصلاح العملية السياسية بشكل عام، بيد أنه وبعد مرور عام على داعش إلا أن حكومة العبادي وبسبب ضغط البيت الشيعي وبالرغم من تظاهرها بالإصلاح إلا أن إجراءاتها تبدو وكأنها لا تفعل شيئًا، فإزاء الاتفاقات السياسية التي كانت الولايات المتحدة شبه ضامنة لها، تخطت الحكومة السياقات الزمنية لتلك الإصلاحات المطلوبة وإزاء الضغوط الهائلة التي تتعرض لها فإنها لا تفعل شيئًا سوى التمرير الشكلي لتلك الإصلاحات وإلقاء الكرة في ملعب البرلمان المنقسم على نفسه والذي انتهى من سنته التشريعية الأولى دون تحقيق بند واحد من بنود الإصلاح السياسي المتفق عليه، سواء كان ذلك متعلق بقانون الحرس الوطني أو العفو العام أو إصلاح المؤسسة العسكرية والأمنية، وكل ما فعلته الولايات المتحدة إزاء ذلك هو أنها تعامله مع هذا التلكوء بمنطق “الحرمان”، وظلت الإدارة الأمريكية تدير الأمور بأن مزيدًا من الإصلاحات والالتزامات يقابله مزيدًا من الدعم والإسناد لمواجهة تنظيم داعش، هذا المنطق أثبت أنه قاصر ولا تكون فيه الوسيلة هذه متوافقة مع الغاية العامة بل إنها على العكس من ذلك صبت في صالح التنظيم وقوة تمدده.
إضعاف التنظيم قبل القضاء عليه وإنهاك التحالف
الركيزة الثانية التي استندت إليها إستراتيجية أوباما لمواجهة التنظيم تقوم على إضعاف التنظيم وإنهاكه وحرمانه من أسباب قوته وقطع خطوط إمداده في العراق وسوريا قبل القضاء عليه بشكل نهائي، وعلى الرغم من تدويل مسألة قطع خطوط إمداد داعش عبر القرار 217/2014 والقرار 2187/2014 الصادران عن مجلس الأمن تحت البند السابع والذي نص على تدابير متعددة كفيلة بمنع إمداد التنظيم برؤوس الأموال أو بالمقاتلين المهاجرين، وبالإضافة إلى الحد من قدرته على بيع النفط في السوق السوداء، إلا أن هذه الآليات ظلت عاجزة وغير فعالة في الحد من مصادر تمويل التنظيم أو حتى تجفيف منابع التجنيد للمقاتلين الأجانب الذين هم عماد القوة البشرية للتنظيم، إذ لا يزال يمول نفسه من خلال بيع النفط عبر السواق السوداء التي تدر عليه دخلاً كبيرًا بالإضافة إلى تدفق المقاتلين الأجانب، ولعل تصريح رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي من أن العراق يدخل إليه 40 انتحاريًا شهريًا ليس إلا دليلاً على ذلك.
في مقابل ذلك فإن التحالف الدولي يدفع ثمنًا كبيرًا في الحملة الجوية التي يشنها، إذ إنه وبحسب البنتاغون فإن تكلفة الحرب التي يخوضها التحالف ضد داعش بلغت 2.7 مليار دولار في تكلفة يومية بـ 9 ملايين دولار، ومع النتائج البطيئة التي حققتها الحملة حتى الآن فإن هذه التكلفة ومع تدهور أسعار النفط ستعد باهظة ومنهكة لدول التحالف إذا ما طالت الأزمة من دون أفق واضح للحل.
إستراتيجية مفككة وغير متناسقة
واحد من أكثر العناصر خللاً في إستراتيجية الرئيس أوباما تلك المتعلقة بحالة عدم التنسيق بين عنصري سلاح الجو والقوات البرية؛ فالتحالف الدولي وإن كان مسيطرًا تمامًا على الجو، إلا أنه يفتقر إلى قوة مقبولة أو شريكة تقاتل تنظيم داعش على الأرض باستثناء قوات البيشمركة شمالاً في العراق، فعدم التنسيق بين تحرك القوات البرية مع القوة الجوية يصيب القوة الجوية بعدم الفاعلية، ولذلك فإن الإستراتيجية من غير وجود قوات أمريكية خاصة إلى جانب القوات البرية تجعل من عنصر القوات الجوية غير فعال وإن وجه ضربات صميمية للتنظيم، ولما كان الأمريكان ينظرون إلى الشرق الأوسط على أنه متعطش للدماء الأمريكية فإن وجود قوة أمريكية يبدو بعيد الحدوث.
كما أن التحالف الدولي يعاني من عائق آخر فيما يتعلق بإستراتيجيته العسكرية، وهو من يقاتل على الأرض؛ فمنذ البدء حرصت إدارة الرئيس أوباما على ألا تظهر بمظهر الداعم للشيعة ضد السنة ولا الكرد ضد العرب، لذلك فإن هذا الإدراك يحكمه بمن يدعم سلاح الجو على الأرض، ففي العراق وإزاء تفكك الجيش العراقي وعدم جدارته في المعارك، تبنت إستراتيجية أوباما تأسيس قوات حرس وطني “سنية” لاستيعاب العرب السنة إلى جانب التحالف في حربه ضد تنظيم داعش، إلا أن ذلك المقوم الذي تعتمده تلك الإستراتيجية لا زال يراوح الفشل، والسبب يعود إلى أن العبادي وتحت ضغط البيت الشيعي يضع العوائق أمام تشكل قوة سنية أو تسليح العشائر السنية خشية تحولها للمعارضة في المستقبل.
هذا الإدراك يقابله إطلاق يد الحشد الشعبي المكون من مليشيات تتبع لإيران من حيث الأيدلوجية والتسليح وحتى التدريب والمستشارين؛ لذلك فإن الإدراة الأمريكية محكومة بإدراك أن ضربات سلاح الجو لن تكون إلا لصالح مزيد من التقدم الإيراني في العراق، وهو ما ينعكس بالسلبية على بقاء السنة على الحياد في الحرب ضد داعش، وهو ما أصاب الإستراتيجية بالشلل وعدم الفاعلية، لم تفعل أمامه إدارة أوباما شيئًا سوى حرمان حكومة العبادي من الدعم وهو ما صب في صالح تنظيم داعش بالنهاية.
أما في سوريا فإن الأمر أكثر تعقيدًا؛ فالبرنامج التدريبي الذي تبنته الـ CIA لـ 5000 عنصر من المعارضة المعتدلة يبدو خيارًا غير فعال، فلا تزال القوى التي تصنفها الإدارة الأمريكية إلى جانب داعش كجبهة النصرة وأحرار الشام هي القوة الفاعلة على الأرض وبالإضافة إلى قوات الـ PYD الكردية التابعة لحزب العمال الكردستاني PKK؛ لذلك فإن الإدارة مقيدة بإدراك أن مزيدًا من الضربات ضد داعش في سوريا قد لا يفضي إلا لصالح نظام بشار وهو ما سيثير غضب حلفائها الخليجيين، أو لصالح الفصائل التي تعتبرها إرهابية وتتبع بعضها لتنظيم القاعدة، أو لصالح قوات الـ PYD وهو ما يثير حفيظة حليفتها تركيا ويبعدها أكثر عن المشاركة في التحالف وهو ما بدا واضحًا في معارك تل أبيض.
لذلك فإن سلاح الجو الذي تقدمه إستراتيجية أوباما هو كمن يهديك سيارة “ليموزين” من دون أن يعطيك مفاتيحها؛ لذلك فإن السؤال الذي بدأ يثار بشكل جدي حول إذا ما كانت إستراتيجية أوباما ستتحول من هدف “القضاء على داعش” إلى “احتواء داعش”، ثم بدأ التساؤل حول الهدف الحقيقي لتلك الإستراتيجية: أهي للقضاء فعلاً على داعش أم لمزيد من الفوضى ومن ثم إعادة التشكيل؟