ترجمة وتحرير نون بوست
لا يعلّق حكام المملكة العربية السعودية أهمية كبيرة على إسباغ لقب “الملك” عليهم، فهناك العديد من الملوك في العالم، ولكن في الحقيقة، يفضل هؤلاء الحكام أن يسبغوا على أنفسهم لقب “خادم الحرمين الشريفين”، في إشارة إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، ورغم التواضع الذي يبدو عليه هذا اللقب، بيد أنه يحمل دلالة على المطالبة بسلطة تمتد إلى ما وراء المملكة السعودية.
مكة المكرمة والمدينة المنورة هما أكثر الأماكن قدسية عند المسلمين، حيث يؤمهما الحُجاج من كل فج عميق، من البوسنة إلى أمريكا الشمالية، ومن نيجيريا إلى ماليزيا، وتشير الإحصائيات إلى أنه في عام 2010، حضر 12 مليون شخص إلى السعودية لتأدية مناسك العمرة والحج، ويُتوقع أن ترتفع الأرقام إلى 20 مليون في وقت قريب، وهذا يعني أن المسجد الحرام يتطلب توسعًا مستمرًا لاستيعاب هذه الأعداد المطردة.
الحرم المكي واسع وممتد بحيث يكفي لاستيعاب أضعاف ما يمكن أن تستوعبه كنيسة القديس بطرس، ويجري الآن توسيعه لأكثر من الضعف، حيث يتم إزالة الجبال المحيطة بالحرم لتوسيع المبنى الذي يرمز إلى مجد الإسلام، وإلى مجد بيت آل سعود على حد سواء، وتم تسمية الجناح التوسعي الجديد تيمنًا بالملك المتوفى عبد الله، أما التوسع المقبل، الذي دخل الآن في مراحل التخطيط، سيحمل اسم خليفته الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود.
الملك الجديد تسلّم منصبه منذ أقل من نصف عام، ولكن بالنظر إلى الحماس الذي يمارس به حكمه، يبدو أنه يسعى لتسجيل اسمه في صفحات التاريخ، باعتباره أحد أعظم ملوك المسلمين، منذ عهد صلاح الدين الأيوبي، حيث كان الأخير أول خادم للحرمين الشريفين، الذي قام بتوحيد المسلمين في القرن الثاني عشر، وطرد الصليبيين من البلاد، واستعاد القدس.
خلال أقل من خمسة أشهر، قام سلمان بإعادة ترتيب مملكته، بشكل أصبحت معه المملكة تطالب بدور قيادي وريادي في الشرق الأوسط، تاريخيًا، اعتاد الملوك السعوديون إخفاء قوتهم بدلًا من استعراضها، واستخدموا الثروة النفطية لدعم الجماعات والأنظمة الحليفة، كما عمد الملوك السابقون إلى تأسيس شبكة من الدعاة الدينيين المتشددين، الذين يعملون على نشر النسخة المتطرفة من الإسلام في جميع أنحاء العالم.
ولكن ما كان يتم في الخفاء أصبح الآن يجري علنًا، حيث تعمل المملكة بعيدًا عن مبدأ ضبط النفس؛ ففي مصر، توفر الدعم المالي للجنرالات الذين استولوا على السلطة مرة أخرى، وفي ليبيا وسورية والعراق تعمل على دعم الجماعات المسلحة، وفي اليمن، باشرت المملكة وانخرطت بحرب ضد ميليشيات الحوثي المتحالفة مع منافستها إيران، علمًا أن لا أحد، ربما ولا حتى إسرائيل، يتأهب ويتخوف من امتداد الهيمنة الإيرانية في الشرق الأوسط، أكثر من المملكة العربية السعودية.
الدور الذي تضطلع به الرياض حاليًا في العالم العربي يشابه دور برلين في أوروبا، ولكن على عكس المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الملك سلمان يعمل بقليل من التردد، وبصرف النظر عن حجمها وثروتها وطموحها، للمرء أن يتساءل، هل يمكن للمملكة العربية السعودية تلبية طموحات الملك الجديد؟
حتى الآن، مازال من غير الواضح ما إذا كانت القيادة السعودية تحوز رؤية واضحة تبتغي من خلالها إحلال السلام في الشرق الأوسط، وما إذا كان يمكن لهذه القيادة أن تحوّل البلاد من اقتصاد يعتمد كليًا على صادرات النفط إلى اقتصاد عصري وحديث، كما سيحمل لنا المستقبل فرصة لنرى فيما إذا كان يمكن للقيادة الجديدة تحرير النظام القديم من نير الإمامة، وكسر قوة قادة المملكة الدينيين.
الجيل الجديد
قبل أن يصبح ملكًا، أمضى سلمان بن عبد العزيز 50 عامًا في منصب حاكم الرياض، وبعد ذلك أصبح وزيرًا للدفاع، ولم ينتظر حتى يُوارى جسد سلفه عبد الله التراب، ليبدأ في تحويل المملكة؛ ففي مساء يوم 23 يناير، وهي الليلة الأولى التي يقضيها على عرش المملكة، قام بعزل أعضاء مؤثرين من حاشية سلفه عبد الله، وخلال أسابيع قام بتبديل عدد من الوزراء القدماء في المملكة، وبعد ثلاثة أشهر ونصف، عمد إلى تغيير وإعادة ترتيب خط الخلافة.
ومن خلال هذه التحولات، شرع سلمان، الذي لا يصغر سلفه بكثير، 79 عامًا، والمريض، والزائغ بمشيته غالبًا، كما يشير زائروه، بتغيير الأجيال الحاكمة، وهو التغيير الذي طال انتظاره في المملكة العربية السعودية، حيث إن أكثر من ثلثي السكان تقل أعمارهم عن 30 عامًا، ورغم تميّز المملكة بفتوة سكانها، بيد أن الملك عبد الله كان بعمر الـ 90 عندما توفي، وكان متوسط الأعمار في حكومته 65 عامًا.
بشكل عام، كان جميع حكام السعودية منذ عام 1953 من أبناء الملك المؤسس عبد العزيز، المعروف باسم ابن سعود، وإثر التغييرات التي قام بها سلمان، سيكون هو الحاكم الأخير من أبناء الملك المؤسس الذي يترأس البلاد، وخلفه، وفق التعديلات الحديثة، سيتسلم عرش المملكة السعودية أول حفيد للملك المؤسس، حيث قام سلمان بعزل أخيه غير الشقيق الأمير مقرن من ولاية العهد، وعيّن بدلًا عنه ابن أخيه، محمد بن نايف، 55 عامًا، علمًا أن كلا الرجلين ينتميان إلى فرع العائلة السديري المؤثر في الأسرة الحاكمة؛ أي فروع الملك ابن سعود من زوجته المفضلة حصة بنت السديري، علمًا أن ولي العهد الجديد تلقى تعليمه في الولايات المتحدة، ويعتبر وزير داخلية حيوي ونشيط، ويتمتع بسمعة طيبة.
لكن القرار الأكثر غرابة وإثارة الذي اتخذه الملك سلمان، كان بتسمية ابنه محمد كنائب لولي العهد، والأمير محمد، 30 عامًا، معروف بنزقه وعصبيته واندفاعه، ولكنه يقبل – على ما يبدو – بسلطة ابن عمه ولي العهد الأول، وخلافًا للأخير، لم يتلقَ محمد بن سلمان تعليمه في الغرب، ويُقال إنه يحب دولة اليابان، حيث قضى شهر عسله مع زوجته الأولى، وعندما زار الولايات المتحدة قبل بضعة أسابيع خلال مؤتمر كامب ديفيد، وصفه الرئيس باراك أوباما بأنه “واسع المعرفة”، و”حكمته تفوق سنوات عمره”، وبالنسبة للصحافة السعودية، التي كانت تروّج لابن الملك على أنه منقذ المملكة لعدة أشهر خلت، فقد كانت ممتنة بشدة للتعليقات التي أشاد بها أوباما بالأمير الشاب.
عدد السلطات التي تتركز في يد ولي ولي العهد، محمد بن سلمان، لا مثيل لها في تاريخ المملكة، فهو رئيس للأركان، ورئيس للديوان الملكي الذي يتحكم بوصول الأشخاص إلى الملك، ورئيس مجلس الشؤون السياسية والأمنية المؤسس حديثًا، ويدير أيضًا شركة النفط المملوكة للدولة، شركة أرامكو السعودية، ويدير صندوق الاستثمار الحكومي.
وبالإضافة إلى هذه الوظائف، فإن ولي ولي العهد الشاب هو وزير الدفاع، وتبعًا لذلك، كان هو صاحب القرار خلال الأشهر الماضية، في تحديد المواقع التي يقصفها سلاح الجو السعودي، التابعة لميليشيا الحوثيين في اليمن، علمًا أن السعودية شاركت في عمليات عسكرية في الماضي، حيث شاركت كحليف للولايات المتحدة في حرب الخليج عام 1991، وكحليف لمصر والأردن وسورية في حرب الأيام الستة عام 1967، ولكنها الآن شكلت تحالفها الخاص وابتدرت الحرب على اليمن.
قناص ينتظر
الحدود الشمالية اليمنية تمر عبر الجبال لتقطع أقصى جنوب المملكة، وعلى بعد ساعة بالسيارة من ميناء مدينة جازان باتجاه الداخل، يقف القناص أبو عبيد، حيث يتمركز في مركز المشرّق منذ أوائل أبريل، ويتطلع من خلال منظار قناصته إلى أحد التلال المغطاة بالشجيرات، على الجانب الآخر من الحدود، أحيانًا يمر قطيع من الماعز أمامه، وأحيانًا يتبعه راعي الماعز، وأحيانًا يستطيع رصد شاحنة صغيرة في الأفق، وحينها يرسل التقرير إلى قائده، الذي يمرره بدوره إلى القوات الجوية؛ أبو عبيد لم يطلق رصاصة واحدة حتى الآن في هذه الحرب، ولكنه يقول “لن أتردد ثانية واحدة للقيام بذلك”.
بدأت قوات التحالف، التي تقودها السعودية، الضربات الجوية على اليمن في أواخر مارس الماضي، وكان هدف هذه الحملة المعلن، هو وقف تمرد ميليشيات الحوثي، وإجبار الفصائل المتنازعة للجلوس على طاولة المفاوضات، وقد نجحت الحملة في هذه المهمة إلى حد ما، حيث إنه من المقرر أن تجتمع بعض الفصائل المتناحرة في جنيف لإجراء محادثات أولية.
ولكن من جهة أخرى، وخلال الـ 10 أسابيع التي استمرت بها الحملة، أسفر القصف عن مقتل 2000 مدني، وتدمير كتل بناء بأكملها في العاصمة صنعاء، وتشريد أكثر من نصف مليون شخص، ولكن حتى الآن لم يتم إضعاف قوة الحوثيين، بل في الواقع، هاجم المتمردون الحوثيون الأسبوع الماضي مواقع للجيش السعودي على الحدود، وقتلوا أربعة جنود، في مكان لا يبعد كثيرًا عن نقطة تمركز أبو عبيد.
“مع ذلك، هذه الحملة هي الشيء الصحيح الذي ينبغي القيام به”، يقول جمال خاشقجي، وهو صحفي وأحد المثقفين البارزين في البلاد، ويتابع “عملية اليمن أظهرت أننا مؤهلون للقيادة وتشكيل التحالفات”.
خاشقجي يعيش في جدة، المدينة الساحلية المطلة على البحر الأحمر، والتي تشبه بطرقها السريعة، وناطحات سحابها، ومراكز تسوقها، لوس أنجلوس أكثر من مدينة الرياض الصحراوية المتقشفة، وفي العاصمة الرياض، النساء يرتدين العباءات السوداء، والحياة الأسرية تتلخص بالمنزل والمسجد، أما في جدة، فتنتشر النوادي الشاطئية، وموسيقى الهيب هوب التي تصدح من السيارات المنتشرة على طول كورنيش الواجهة البحرية؛ جدة مدينة تنبض بالحياة، وهي مدينة خلّاقة، وسكانها يعتبرون أنفسهم أكثر حداثة وعالمية من أشقائهم السعوديين الذين يعيشون في الرياض، ولكنها مع ذلك، ما تزال غير قادرة على التشكيك بقرارات ملكهم الساعية لاغتنام قيادة المنطقة.
الرياض تجاهلت مسؤولياتها تجاه الشرق الأوسط لفترة طويلة جدًا، يقول خاشقجي، ويتابع “كل ما قمنا به هو التشكي عندما تذهب الأمور بالاتجاه الخاطئ، وبعد اندلاع الربيع العربي، كنا نظن أن شخصًا آخر سيعيد لنا النظام القديم في المنطقة، ولكن الآن، الولايات المتحدة تنسحب من المنطقة، وإيران تسبب المتاعب والمشاكل من لبنان إلى البحرين، ومن سورية إلى اليمن، لهذا السبب نحن بحاجة إلى قوة إقليمية جديدة للحفاظ على النظام، ونحن من سيقوم بإصلاح هذا الشرق الأوسط المحطّم”.
وفي مقال خارج عن المألوف لخاشقجي، قام بتجميع أفكاره بعبارة واحدة جذابة: مبدأ سلمان، حيث يقول إن المملكة التي يقودها ملك نشيط جديد، وضعت حدًا لعصر التقزم العربي، وأعادت تنظيم المنطقة، والأهم من ذلك كله، دحرت الإيرانين الشيعة، والحرب في اليمن، كما يقول خاشقجي، هي أول تطبيق عملي لمبدأ سلمان.
قبل سنوات، اقترح خاشقجي تشكيل تحالف مع تركيا لوضع حد للحرب الأهلية في سورية، “سخروا من فكرتي في ذلك الوقت، ووصفوني بالجنرال خاشقجي، وأحد الأشخاص قال لي ساخرًا هل سنحرر فلسطين في طريقنا؟ ولكن اليوم لا أحد يسخر” قال خاشقجي، فتحت حكم الملك سلمان، أصبح التحالف مع تركيا حقيقة واقعة.
خاشقجي لا يمكنه وصف الهدف الإستراتيجي للمملكة العربية السعودية على أنه يسعى لتشكيل قوة لحفظ السلام، كما لا يمكنه توصيف شكل الشرق الأوسط المُعاد تنظيمه من قِبل المملكة، ولكن من الواضح، أن الشرخ السعودي – الإيراني تعمق حاليًا أكثر من أي وقت مضى؛ فالمملكة عززت نفوذها بين أعضاء التحالف العسكري السني، ولكنها بذات الوقت فاقمت الصراع مع إيران بسبب الحرب في اليمن، وعمقت الانقسامات الدينية الجارية في منطقة الشرق الأوسط، وهذا الواقع يطرح مشكلة عويصة بالنسبة لبقية العالم؛ فطالما السنة والشيعة، وقادة هذين المحورين البارزين في المملكة العربية السعودية وإيران، لا يتفقون ويتحاورون مع بعضهم البعض، فسوف لن يعم السلام في المنطقة.
طالما بقي العالم العربي أحد أكثر المناطق تخلفًا في العالم، فإنه سيفشل حتمًا في الخروج من الأزمة العميقة التي تجتاحه، علمًا أن الخروج من الأزمة، يستلزم، على أقل تقدير، أن يتقلص التناقض الحاد ما بين ثروة المتطرفين في دول الخليج والفقر في أفريقيا، جنبًا إلى جنب مع انحسار اليأس في أجزاء كبيرة من بلاد الشام، وانتهاء الكارثة الإنسانية في اليمن وسورية.
حتى الآن، المملكة العربية السعودية، والتي يمتلك مواطنوها معدل دخل فردي أعلى من العديد من الدول الأوروبية، لم تواجه سببًا مقنعًا للتفكير في تطوير نموذجها الاقتصادي، حيث إن ثورات الربيع العربي لم تعصف بالبلاد، ولم تتحدَ سلطة ملوكها، بخلاف الأنظمة المجاورة للمملكة في البحرين وسلطنة عمان، والسبب في هذا الهدوء النسبي يعود بأغلبه لسخاء الحكام السعوديين، الذي وزعوا الثروة في جميع أنحاء البلاد بمهارة وسلطة أبوية، وكانت خطة المملكة غير المعلنة تتمثل في أن المال يشتري الطاعة والولاء.
ولكن هذا العقد الاجتماعي المستمر منذ فترة طويلة اقترب من حدود نهايته، كون عدد سكان السعودية البالغ حاليًا حوالي 30 مليون نسمة، ينمو بإطراد سريع جدًا، وقد يصل إلى 45 مليون بحلول عام 2050، بالتزامن مع انخفاص سعر النفط من 140 دولارًا إلى 60 دولارًا للبرميل خلال السنوات السبع الماضية، فضلًا عن أن إنتاج النفط الصخري في أمريكا الشمالية، والعودة الإيرانية المحتملة إلى سوق النفط العالمية، هما عاملان يجعلان من الزيادة المستدامة في أسعار برميل النفط أمرًا بعيد الاحتمال، علمًا أن الرياض بحاجة لأن يبلغ سعر برميل النفط نحو 100 دولار للحفاظ على توزان ميزانيتها.
مستقبل النفط
تقع وزارة النفط في مبنى متواضع في مدينة الرياض، وهو مبنى مرتفع يغلب عليه الطابع النفعي، وواجهته تحاكي الأقواس المدببة للمباني الإسلامية المقدسة، ولو كانت فراغات المصاعد الموجودة داخل المبنى لم يتم تصميمها لتحاكي شكل حفارة النفط، ولو كانت غرف المصاعد لم يتم تشكيلها على شكل برميل نفط، كان يمكن أن يخدم المبنى بسهولة كبنك أو كمستشفى.
إبراهيم المهنا، المستشار المقرب من وزير النفط السعودي علي النعيمي، يقع مكتبه في زاوية كبيرة من مبنى وزارة النفط، وعلى عكس الوزير، الذي يمكن لأي كلمة منه أن تؤثر على أسواق السلع الأساسية بمليارات الدولارات، يمكن لمهنا التحدث بحرية أكبر، وبالنظر إلى أن النفط كان دائمًا عنصرًا أساسيًا في معادلة السياسة السعودية، مهنا يمتلك معرفة حقيقية بالطريق الذي تتجه نحوه البلاد.
“الأمريكيون ينسحبون من الشرق الأوسط، وإذا تركوا خلفهم فراغًا في المنطقة، فإن دولة ما عليها أن تشغره” يقول مهنا، ويضيف “ثلاث دول يمكنها أن تفعل ذلك، وهي تركيا، إيران، والمملكة العربية السعودية، والمملكة هي الأقوى بين هذه الدول الثلاث في الوقت الراهن، لأنها تمتلك أكبر عدد من الحلفاء”.
مهنا، في منتصف العقد السادس من العمر، وعاصر الكثير من الحروب والأزمات، لذا لا يبدو آبهًا للفوضى التي تعم سورية، ولا للانقسام الذي يسود العراق، ولا للتراجع الذي يضرب مصر، ونظرته للعالم لم تتغير، حيث يقول “السعودية ستبقى مستقرة بغض النظر عن مدى عمق الفوضى التي يغرق بها الشرق الأوسط”، ويردف موضحًا “نحن نزود العالم بالنفط على مدى السنوات الـ 60 الماضية، صحيح أن الطلب في أوروبا آخذ بالتراجع، وأمريكا اكتشفت احتياطيات من النفط الصخري، ولكن أسواقنا في الصين والهند وإندونيسيا آخذة بالنمو”، والواقع أن السعودية اليوم تصّدر ثلاثة أرباع نفطها إلى الدول الأسيوية.
وزارة النفط ليست استثناءً من تغيير الأجيال الذي تشهده المملكة ككل، حيث يُنظر إلى الابن الرابع للملك سلمان، كخلف محتمل لوزير النفط، الذي يشغل منصبه منذ عام 1995، ورغم الوعود المتكررة، إلا أن المملكة لم توفِ حتى الآن بوعودها حول التغيير الجذري لنموذج أعمالها، وتقليل اعتمادها على النفط، حيث إن الحكومة السعودية مازالت تمول 90% من إنفاقاتها من عائدات صادرات النفط.
حتى يومنا هذا، يعمل في المملكة العربية السعودية حوالي 8 ملايين عامل أجنبي، ما يشكل حوالي ثلث السكان، وبالكاد يمكن للمملكة أن تنجر أي عمل بدون هذه العمالة الأجنبية الضخمة، وحتى بضع سنوات خلت، كان غالبية السعوديين يعملون في مناصب حكومية، ولكن الآن، لا يمكن للمملكة أن تتحمل عبء هذه البيروقراطية الكبيرة؛ لذا كثير من الشباب السعودي اليوم يعانون من البطالة، في حين يعمل المواطنون كبار السن في المكاتب الحكومية والقصور الفخمة.
معظم البلدان المجاورة للسعودية عملت على تطوير اقتصاداتها والتخلص من اعتمادها الكلي على النفط، حيث تركز الإمارات العربية المتحدة على الخدمات اللوجستية والطيران والتجارة، في حين تشجع سلطنة عمان وقطر القطاع السياحي.
المملكة العربية السعودية تخلت عن شواطئها، والصحارى الرائعة التي تمتلكها، والمعالم الأثرية القديمة التي تضمها، وهذه المعالم بالكاد يتم استغلالها أو التسويق لها، حاليًا، يتجه صانعو القرار في البلاد إلى الاستثمار بمليارات الدولارات لتطوير البنية التحتية، ويتم التخطيط لتطوير الصناعات السعودية، وجذب الشركات الأجنبية، ولكن مع ذلك، هذه التطورات لا تزال في مراحلها المبكرة، وهناك عقبات بيروقراطية كبيرة يجب التغلب عليها للوصول إلى الأهداف المعلنة؛ وهذا مؤداه، أن المملكة العربية السعودية ستبقى معتمدة على النفط حتى فترة طويلة قادمة.
“لقد تم التحدث عن نهاية عصر النفط على مدى عقود خلت” يقول مهنا، ويتابع “نعم، سيحدث ذلك في يوم ما، ولكن ليس ضمن السنوات الـ 10 أو الـ 20 المقبلة، علمًا أن آخر قطرة من النفط ستأتي من السعودية، وهذه رسالة ثقة، وليست رسالة تغيير”.
التحالف السام
في يوم ربيعي دافئ، وبعد حوالي ثلاثة أشهر من اعتلائه العرش، قام الملك سلمان بزيارة إلى الدرعية، وهي ضاحية على مشارف الرياض، وكانت العاصمة الأولى للدولة السعودية قبل الرياض، كما قامت اليونيسكو بتصنيفها ضمن مواقع التراث العالمي منذ خمس سنوات، وفي يوم زيارته، أعلن سلمان أنه يعتزم إنفاق الملايين بغية إعادة تأهيل المباني القديمة المبنية من الطوب في البلدة، وتم الكشف عن الميزانية الإجمالية للمشروع بقيمة 500 مليون دولار، وتتوقع الحكومة السعودية أن تجذب الدرعية عشرات الآلاف من الزوار في غضون عامين، بعد أن يتم الانتهاء من أعمال التجديد.
في الدرعية، ومنذ حوالي 270 عامًا، عقدت قبيلة سعود تحالفًا مع عشيرة رجل يدعى محمد بن عبد الوهاب، وهو داعية ذو تأثير كبير، كان يعتبر أي شيء ينحرف عن التفسير الصارم والمتشدد للقرآن الكريم على أنه بدعة وضلالة وعمل شيطاني، حيث نهى المؤمنين عن الاستماع إلى الموسيقى، وتقديس الأولياء، وتأليهه المعالم الدينية، وهو مؤسس المذهب الوهابي، الذي سُمي تيمنًا به؛ وهو المبدأ المتشدد القائم على ثقافة التكفير الذي تنتهجه الدولة السعودية، بحيث ينُعت كل الأشخاص الذين لا يلتزمون بهذه القواعد بالكفار وتتم معاقبتهم على إثر ذلك، وهذا الجوهر اللاهوتي السام هو الذي يربط الوهابية بالجماعات الإرهابية المتشددة الأخرى مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
هذا التحالف المبرم مع عبد الوهاب ما يزال يشكل أساس وجوهر المملكة السعودية اليوم، حيث يمثل آل سعود المؤسسات العالمية لهذا التحالف، كما أن الأيديولوجية الوهابية تُعتنق من قِبل النخبة الدينية في المملكة، ولم تستطع صدمة هجمات 11 سبتمبر 2001، التي كان 15 شخصًا من بين منفذيها الـ 19 من الجنسية السعودية، أن تحطم هذا التحالف.
عند مواجهة المملكة للانتقادات الموجهة من قِبل الساسة الغربيين ونشطاء حقوق الإنسان حول عدم سماحها للمسيحيين ببناء الكنائس في السعودية، أو ممارسة شعائرهم وعرض رموزهم بشكل علني، غالبًا ما يلجأ الدبلوماسيون السعوديون إلى مبدأ المقارنة، حيث يقولون إن بلادهم ليست دولة بالمعنى التقليدي للكلمة؛ فبالنظر إلى كونها موطنًا للحرمين الشريفين، المملكة العربية السعودية يجب أن تُشبه وتُقارن بالفاتيكان؛ بهذه الطريقة يرى الساسة السعوديون بلادهم، وبناء عليه، لا تتسامح السعودية عمليًا مع أي معارضة لمبادئها المتشددة، ليس فقط من المسيحيين، ولكن أيضًا من قِبل أعضاء الجماعات الإسلامية الذين يختلف تفسيرهم للقواعد الإسلامية عن تفسير المذهب الوهابي المتشدد الذي تتبناه.
أي سلوك يحيد عن إجماع الأمة تتم معاقبته بصرامة، والفصل ما بين الجنسين هي سياسة وطنية سعودية، ولكن رغم ذلك، بدأ الشباب السعودي بتبني مجموعة واسعة ومختلفة من أنماط الحياة، ومن خلال سفرهم في أنحاء العالم، واستخدامهم للإنترنت، ومشاهدتهم للقنوات الفضائية، شرع الشباب يتساءل بحق عن سبب حظر بلادهم للأشياء التي يُسمح بها في دول إسلامية أخرى، مثل مصر وإندونيسيا.
في الحقيقة إن السماح بالتنوع في المجتمع السعودي، يعني التنازل عن غموض المذهب الوهابي، وهذا الانفتاح يتطلب أيضًا شجاعة وقدرة على التعامل مع الزعماء الدينيين المتشددين، ولكن الملك سلمان لم يبدِ أي رغبة في زعزعة الاتفاق المبرم في الدرعية، بل على العكس من ذلك؛ فسلفه، الملك عبد الله، كان إصلاحيًا ولكن بحذر، حيث روج لتحديث نظام التعليم وتعليم المرأة، كما عزل باحثان قانونيان يتميزان بآرائهما المتطرفة بشدة، ومعارضتهما لأي إصلاحات في المملكة، حتى أن شخصًا منهما دعا إلى قتل المنتجين التلفزيونين غير الأخلاقيين، وبشكل غير مفاجئ ربما، قام سلمان بإعادة توظيفهما.
كما عمد سلمان إلى تعيين شخص متزمت للغاية رئيسًا لهيئة الأمر بالمعروف، وهي الهيئة الحارسة والتي تحرص على تطبيق الوهابية، كما ارتفع عدد حالات الإعدام بشكل حاد تحت حكم سلمان، حيث تم تنفيذ 90 حكمًا بقطع الرأس منذ بداية العام الجاري، وهو عدد يماثل عدد حالات الإعدام التي تم تنفيذها خلال كامل العام المنصرم تحت حكم سلفه عبد الله، فضلًا عن أن العقوبة الوحشية الصادرة بحق المدون السعودي رائف بدوي، الحكم بـ10 سنوات من الحبس و1000 جلدة بتهمة إهانة الإسلام، تم تصديقها في ظل حكم سلمان.
يقول أحد مستشاري الملك السابق، “سلمان يسعى لتوسيع الخيمة مرة أخرى، حتى تصبح سقفًا يظل الجميع”، ولكن هذه الخيمة، عندما يتعلق الأمر بالمستقبل، ترحب على ما يبدو، فقط بالأشخاص الذين يتطلعون إلى الماضي.
متمرد متناقض
زيارتي للناشط السعودي محسن العواجي تؤكد مدى صعوبة وتناقض تحالف الحكام السعوديين مع الوهابيين، فعلى جدار واحد في مكتب منزله الواقع في ضواحي الرياض، وضع العواجي 12 شاشة كبيرة، تقوم بنقل بث حي ومن كل زاوية لأي شخص يقترب من المنزل، “أريد أن أكون مستعدًا عندما يأتون لاعتقالي مرة أخرى” يقول العواجي ضاحكًا.
أُلقي القبض على العواجي عدة مرات بالفعل، وقضى في المعتقل فترات تتراوح من شهرين إلى ثلاثة أشهر في كل مرة، وإجمالًا، قضى العواجي عدة سنوات في السجن، ومؤخرًا، تم اعتقاله لمدة 11 يومًا إبان إطاحة الجنرالات في مصر بحكم الإخوان المسلمين، وذلك لتوقيعه على بيان المثقفين السعوديين المعارض للإنقلاب العسكري، والمطالب بعودة الشرعية في مصر.
العواجي، رجل ملتحٍ يتمتع بحس عالٍ من الفكاهة، ويتعاطف مع الإخوان المسلمين، وهو ليس الوحيد في المملكة الذي يتفق مع مطالب هذه الجماعة، “نريد برلمانًا منتخبًا، وقضاء مستقلًا، وتوزيعًا أكثر عدالة للدخل” يقول العواجي، ويتابع “في أحد أحلامنا، يمكن للمرء أن يتخيل البلد وهي تتحول إلى ملكية دستورية في أحد الأيام”، ويردف شارحًا “نحن مجتمع قبلي، ولهذا السبب نحن بحاجة إلى العائلة المالكة في هذا الوقت، ولكن هذا لا يعني أننا نحبهم”.
أفكار العواجي خطيرة بالنسبة للعائلة المالكة، خصوصًا عندما يجهر بها على شاشة التلفزيون، كما يفعل غالبًا؛ فالمملكة العربية السعودية هي نظام ملكي مطلق، والملك يستحوذ على القول الفصل في كل من السياسة الخارجية والداخلية، ويعين أعضاء مجلس الشورى، كما أن رجال الدين يسيطرون على السلطة القضائية.
ولكن مع ذلك، العواجي هو بحد ذاته جزء من النظام، مع كل تناقضاته، فهو ينتقد العائلة المالكة، ولكنه حتى الآن ينضوي تحت لواء المؤسسة الدينية التي تتبناها المملكة، “أنا وهابي” يقول العواجي.
كداعية إسلامي، كان العواجي يجمع المال منذ ثمانينات القرن المنصرم لأسباب مثل تمويل المجاهدين في أفغانستان وزعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن، ولكنه الآن يعمل نيابة عن السلطات، ويقنع الجهاديين بتسليم أنفسهم إلى الشرطة، كما أنه رجل أعمال كثير الترحال، والدبلوماسيون الغربيون يقابلونه بشكل متواتر لفهم الكيفية التي يفكر بها السعوديين.
إن اتساق وتكامل هذه التناقضات في المواقف ما بين داعٍ إلى الجهاد ورادع عنه، يصعب شرحه وتفسيره حتى بالنسبة للعواجي، حيث يقول “إن المواطنين السعوديين، وخاصة أبناء الأسر التقليدية، مشوشين للغاية، فلسنوات عديدة، قيل لهم كيف يشرع الشرفاء بالجهاد ضد الكفار، ضد أعداء الإسلام، وحصل تراجع في هذه الموقف بعد أحداث 11 سبتمبر، ونحن الآن أدركنا أنه كان من المفترض علينا فجأة أن نبقي أفواهنا مغلقة ونحن نرى طائرات الأباتشي الأمريكية تصطاد الشباب العراقيين مثل البط، ومن المفترض أن نبقى صامتين ونحن نرى الفرس وعملاءهم يضطهدون إخواننا السنة، ويستخدمون الغازات السامة في دمشق، ويسقطون البراميل المتفجرة في حمص، ويطردون الناس من ديارهم في صنعاء؟”.
يشير العواجي إلى أن تنظيم القاعدة استفاد سابقًا من هذه التناقضات، والدولة الإسلامية تفعل ذات الشيء اليوم، فربما قد انضم مئات أو آلاف من السعوديين للجماعة الإرهابية في سورية والعراق، والآن انقلب هؤلاء ليحاربوا المملكة نفسها؛ ففي أواخر شهر مايو، هاجم انتحاريون مسجدين شيعيين في الجزء الشرقي من البلاد، مما أسفر عن مقتل حوالي 30 شخصًا.
الملك يجب أن يواجه ويتغلب على كل هذا يومًا ما، يقول العواجي، ويستطرد “المملكة العربية السعودية جزء من المجتمع الدولي، وهذا شيء جيد، ولكنها دولة تأسست على أساس لا يشابه أسس المجتمع الدولي، وهو الإسلام النقي”، وتابع قائلًا “أنا لا أحسد القيادة الجديدة على مهمتها، ولا أعرف كيف ستتمكن من حل هذا التناقض”.
المصدر: دير شبيغل