أظهرت الانتخابات البرلمانية التركية التي أُجريت الأسبوع الماضي، تراجع حزب العدالة والتنمية الحاكم وخسارته الأغلبية التي كان يحصل عليها سابقًا، والتي كان يرنو إلى ما هو أكثر منها، حتى يستطيع تنفيذ خططه السياسية في تغيير الدستور وتحويل البلاد من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي أو شبه الرئاسي، وبالتالي فقد أطاحت هذه الانتخابات بأحلام وطموحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه، بل جعلت وضعه أصعب مما كان قبل الانتخابات، حيث بات مضطرًا لإيجاد طريقة ما للتحالف مع أي من أحزاب المعارضة التي دخلت البرلمان، أو التوجه إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، في ظل ظروف معقدة، لا يضمن أحد نتائجها، ولا يعرف ماذا يخبئ القدر.
هي إذن ضربة قوية لأردوغان وحزبه، إذا نظرنا إليه بعين المراقب من بعيد بغض النظر عن الأيديولوجيات أو التوافق السياسي، وذلك على الرغم من أن الحزب لا يزال في الصدارة بنسبة 40.87% وبعدد 258 مقعدًا، بفارق كبير عن أقرب منافسيه وهو حزب الشعب الجمهوري الذي حصل على 24.95% من الأصوات وبعدد 132 مقعدًا، أي نصف عدد مقاعد حزب العدالة والتنمية تقريبًا.
فور إعلان النتيجة خرجت الكثير من التحليلات لأسباب تراجع الحزب، وكان بعضها في غاية الأهمية والعمق والرصانة، ولكن في هذه السطور سنتعرض إلى جانب آخر من الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة، لم يتطرق لها الكثيرون، ومن تطرق لها فقد فعل على استحياء لسبب أو لآخر.
أخطاء حزب العدالة والتنمية
لا يمكن أن نبحث عن أسباب تراجع الحزب في الانتخابات، ونغض النظر عن الكثير من الأخطاء التي ارتكبها الحزب خلال الأشهر القليلة الماضية، والتي من بينها ما يلي:
1. ظهور قدر كبير من الخلافات بين قادة حزب العدالة والتنمية ومسؤوليه في الحكومة، بل وصل الأمر في بعض الأحيان إلى هجوم متبادل ونقد قوى بين زعماء الحزب، وقد برز هذا بشكل واضح عند استقالة رئيس جهاز الاستخبارات التركي “هاكان فيدان” المقرب من أردوغان، والذي أشارت التقارير إلى أنه شخصيًا لم يكن يرغب في الاستقالة ولكنها كانت رغبة رئيس الحكومة عبد الله جول، وتدخل أردوغان في الأمر وإعادته لمنصبه مرة أخرى.
وظهرت الخلافات مرة أخرى بخصوص العملية السلمية مع الأكراد، حيث اعترض أردوغان على بعض التفاصيل الخاصة بالمحادثات بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني، وهو ما دفع أطرافًا في الحكومة لتوجيه النقد له.
هذه الخلافات وغيرها مما لا يتسع المجال لذكره، كانت سببًا في تشويه صورة الحزب لدى الناخب التركي، الذي بات ينظر إلى الحزب على أنه حزب هرم، بدأت الصراعات تدب في صفوفه، وربما تقضي عليه في مرحلة من المراحل، وهو أمر لا ينبغي أن يحدث في حزب يسعى لإحكام سيطرته على مؤسسات الدولة الديمقراطية.
2. الإطاحة بعبد الله جول: عبد الله جول هو رفيق درب رجب طيب أردوغان، وأحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية، وأول رئيس وزراء من الحزب، وتقلد بالإضافة إلى ذلك منصب وزير الخارجية، ثم رئيس الدولة، وهو لم يصل إلى كل هذه المناصب من فراغ بل لمهارته وحنكته السياسية، وقد مرت فترة رئاسته دون أن تأخذ عليه المعارضة شيئا أو يتهم بأنه منحاز لحزبه.
بعد انتهاء فترة رئاسة جول تمت الإطاحة به تمامًا من الحياة السياسية، وهو خطأ سياسي كبير وقع فيه أردوغان وحزبه، فالرجل كان يمثل الجناح الهادئ في الحزب، القادر على مواجهة التحديات وخوض الصعاب ولكن بأسلوب هادئ مغاير لأسلوب رفيق دربه أردوغان، ولأن كلا الأسلوبين مهمين في الحياة السياسية عمومًا والحزبية خصوصًا، فقد خسر الحزب كثيرًا بخروج الرجل.
بل إن الإطاحة بجول أعطت انطباعًا سلبيًا عن أردوغان نفسه، بأنه رجل مغرم بالسلطة والنفوذ، وأنه لم يتردد في الإطاحة برفيق دربه، وعدم إعطائه الفرصة للعودة لصفوف الحزب مرة أخرى ليخوض الانتخابات البرلمانية ويواصل مسيرته السياسية، وفي الأغلب أنه إذا ظل جول بعيدًا عن حزب العدالة والتنمية، فإنه سيتجه إلى تشكيل حزب سياسي جديد، سيكون الضربة القاصمة لحزب العدالة والتنمية.
كما كان جول يتميز بقدرته على إقامة علاقات جيدة مع المختلفين معه سياسيًا، وهي ميزة لا تتوفر في الكثير من السياسيين، وهذه الميزة من شأنها جلب المزيد من الأنصار والمؤيدين للحزب في الانتخابات، وخسارة الحزب لجول تعني خسارته لهذه الفئة التي كان يمكن أن يجذب أصواتها.
3. شعور عدد من الناخبين بل وبعض أنصار وأعضاء حزب العدالة والتنمية أن طموح رجب طيب أردوغان هو طموح شخصي، يهدف من ورائه إلى صنع تاريخ ومجد خاص به، وليس من أجل صالح ومستقبل تركيا وحزب العدالة والتنمية نفسه، ولعل ما نما هذا الشعور هو قصر الرئاسة الذي بناه بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية، وإطاحته بعبدالله جول، وإصراره على التدخل في شؤون حزبه رغم أنه تقدم باستقالته منه.
4. التوجه للنظام الرئاسي: ركز حزب العدالة والتنمية خلال الأشهر القليلة الماضية بشكل كبير على قضية التحول من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي أو شبه الرئاسي، ولم يقدم الحزب أسبابًا مقنعة لهذا الأمر، وكل ما ساقه الحزب من أسباب لهذا الأمر لم تكن بتلك الأهمية التي يراها قادة الحزب، بل إن بعض التقارير أفدات بأن الكثير من أنصار الحزب وأعضائه غير مقتنعين بهذا التوجه.
وفي ظل الصراع القوي بين الحزب الحاكم والمعارضة والأخطاء التي يقع فيها أردوغان وحزبه، فقد توجس الكثير من الناخبين الأتراك خيفة من هذا التوجه، وزادت الخشية من تحول البلاد إلى الدكتاتورية، ومع أن ذلك ليس ممكنًا في المدى المنظور، إلا أن ضعف حجج حزب العدالة والتنمية في هذا الأمر، والحملة الإعلامية التي شنتها المعارضة، كان لها تأثير كبير في إبعاد الناخبين الأتراك عن الحزب.
5. قضية الفساد التي لم تغلق: على الرغم من أنه قد مضى عام ونصف على ما يسمى بقضايا الفساد التي تم فتحها في 17 ديسمبر 2013، وما تبعه من حملة حكومية ضخمة ضد الكيان الموازي وأنصار حركة الخدمة وفتح الله كولن، وكذلك الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها أردوغان من الجولة الأولى، إلا أن عدم غلق هذه القضية حتى الآن، بمثابة نقطعة ضعف كبيرة لدى حزب العدالة والتنمية ورموزه ممن طالتهم الاتهامات، وستبقى كذلك حتى يبت القضاء في الأمر، ويصدر حكمًا بالبراءة القاطعة لكل شك.
6. انحياز أردوغان لحزبه: يفرض الدستور التركي على رئيس الدولة أن يتقدم باستقالته من الحزب الذي ينتمي إليه، ويبقى مستقلاً طوال فترة حكمه، وبالطبع فإن ذلك يكون بالأوراق والمستندات فقط، إلا أن دستور الشعب التركي يرى أنه يجب أن يكون تطبيق الدستور واضحًا بلا مواربة، ولا يقبل أن يتحايل رئيس الدولة على الدستور، بتقديم الاستقالة من الحزب، ثم يمارس مهامه الحزبية بشكل طبيعي، وكأنه لم يتقدم باستقالته.
هذا إذن خطأ جديد وقع فيه أردوغان منذ توليه رئاسة تركيا، حيث لم يتوقف عن التدخل في الشؤون الحزبية، وبات واضحًا أنه هو من يقود حزب العدالة والتنمية وليس أحمد داوود أوغلو، على الرغم من أن الأخير ليس تابعًا، ولكن أردوغان بيده الكثير من الأوراق داخل الحزب، ولم يتوقف أردوغان عند هذا بل تدخل بشكل صريح في الترويج لحزبه في الانتخابات البرلمانية ودعوة الأتراك للتصويت له، وهو خطأ دستوري وقانوني وقع فيه، استغله خصومه السياسيين لصالحهم.
هذه عينة من الأخطاء الكثيرة التي وقع فيها حزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان، ويمكن القول إن النجاحات التي حقهها الحزب على مدار السنوات الماضية، جعلت قادته يرون أن هذه أخطاء بسيطة لن يكون لها تأثير حقيقي في الشارع، ولكن الناخب التركي أكثر وعيًا وإدراكًا من أمثاله في الدول العربية مثلاً، ويستطيع قراءة ما بين السطور جيدًا، ويتخذ قراره بناء على المعطيات الظاهرة أمامه.
وإذ نسوق هذه الأخطاء كأسباب حقيقية لتراجع حزب العدالة والتنمية وخسارته للأغلبية، فإنه لا يمكن التغاضي عن المؤامرات والحيل التي تعرض لها الحزب، والتي كان لها دور كبير في هذا التراجع أيضًا، ولعل من أهم هذه المؤامرات هو عملية تفتيت الأصوات لحرمان حزب العدالة والتنمية من الحصول على الأغلبية، حيث صوت الكثير من أعضاء حزب الشعب الجمهوري المعارض لصالح حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، في سابقة عجيبة، بهدف تفتيت الأصوات، وتمكين حزب الشعوب الديمقراطي من تخطي حاجز 10% ودخول الانتخابات وبالتالي حرمان حزب العدالة والتنمية من الحصول على مزيد من الأصوات والمقاعد، وهو ما اعترف به رئيس الحزب كمال كليجدار أوغلو، ووصف هذه المؤامرة غير الشريفة بأنها مناورة سياسية، وقد حصل حزب الشعوب الديمقراطي بالفعل على 13% من مجموع الأصوات، بعدد 80 مقعدًا.
كما كان ظهور حزب الشعوب الديمقراطي الكردي بقوة خلال الانتخابات الماضية، وعملية السلام مع الأكراد التي قادها حزب العدالة والتنمية خلال السنوات الماضية، سببًا في دفع الكثير من الأتراك إلى الانحياز لقوميتهم التركية مقابل القومية الكردية، والابتعاد عن حزب العدالة والتنمية، والتصويت لحزب الحركة القومية باعتباره حزبًا قوميًا يرفض السلام مع الأكراد.
وماذا بعد؟
الآن وقد انتهت الانتخابات وبات الجميع أمام أمر واقع، ولا زلنا ننتظر ماذا سيحدث خلال الأيام القليلة المقبلة، وقد نكون أمام انتخابات مبكرة بعد ما يزيد قليلا على الشهر، فإنه ينبغي على حزب العدالة والتنمية القيام بالعديد من الأمور التي من شأنها استعادة ثقة الشعب التركي في الحزب، والتي ينبغي أن يكون من بينها:
1. وقف تدخل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في شؤون حزبه بشكل علني، واتخاذ موقف الحياد وعدم التدخل في الشؤون الحزبية مطلقًا، لتبديد المخاوف من اتجاه تركيا إلى دولة ديكتاتورية في ظل أردوغان وحزبه، وعدم الدخول في صراع أو منابذات كلامية مع قادة المعارضة، لأنهم لم يعودوا خصومًا سياسيين له باعتباره رئيسًا للبلاد غير منتمٍ إلى أي حزب وهم بعض من مواطنيه.
2. حل الخلافات داخل صفوف حزب العدالة والتنمية ووقف الملاسنات الكلامية بين بعض قادته، وحسم المسائل والقضايا الخلافية، قبل الوصول إلى الانتخابات المبكرة.
3. غض النظر عن التوجه للنظام الرئاسي أو ذكر مبررات وحجج أكثر قوة مما ساقها الحزب خلال الشهور القليلة الماضية، مع الاهتمام والتركيز على واقع المواطن التركي وقضاياه ومشاكله الاقتصادية والاجتماعية وعرض الحلول لها.
4. العمل على إعادة الرئيس التركي السابق عبد الله جول إلى صفوف الحزب الأولى مرة أخرى، فالرجل شريك أساسي في الحزب وله فضل على الحزب ولا ينبغي الإطاحة به بهذه الطريقة السيئة، ولقطع الطريق عليه لتشكيل حزبًا سياسيًا جديدًا.
5. في حال إجراء انتخابات مبكرة، ينبغي على الحزب العمل على جذب أصوات المزيد من الأكراد، وطمأنة الإسلاميين منهم بشكل خاص، حتى يحصل على المزيد من أصواتهم، وهو ما قد يطيح بحزب الشعوب الديموقراطي إلى دون 10% أي عدم دخوله البرلمان، وبالتالي تذهب الكثير من مقاعده إلى حزب العدالة والتنمية ويحصل على الأغلبية.
6. العمل على إثارة المخاوف من التصويت على الهوية، وتوضيح أضرار ذلك على الأتراك والأكراد معًا؛ ما قد يساهم في خفض عدد الأصوات التي يحصل عليها حزب الحركة القومية.
هذا جانب آخر لما يحدث في تركيا، ولا ينبغي أن يغض حزب العدالة والتنمية الطرف عنها، وإلا فهو الخاسر الأول وتركيا هي الخاسر الأكبر في هذه الحالة، بل ينبغي عليه تشكيل لجنة خاصة للتحقيق في أسباب هذا التراجع، والنظر في آراء الخبراء والمحللين، ومعالجة الأسباب التي تصل إليها اللجنة بكل حيادية وشفافية.