بدا صباح اليوم، بعد المفاوضات الجارية منذ الأمس، أن خطر خروج اليونان من السوق الأوروبية قد تبدد ولو قليلًا، حيث انتشرت أنباء بأن حكومة رئيس الوزراء اليوناني أليكسيس تسيبراس قد وضعت اقتراحًا جديدًا على الطاولة مقابل الحصول على دعم البنك المركزي الأوروبي لاقى ترحيبًا من وزراء المالية الأوروبيين، والذين من المفترض أن يدفعوا قدمًا تجاه تبنيه ورسم تفاصيله خلال اجتماع مجموعة اليورو صباح الغد، ثم القمة الأوروبية يومي الخميس والجمعة.
يتضمن الاقتراح الجديد الحصول على دعم مالي تبلغ قميته 8 مليارات يورو، وبرنامج لإنعاش الاقتصاد بقيمة 35 مليار يورو، مقابل تطبيق إصلاحات عدة خلال ثمانية عشر شهرًا، وصولًا لنهاية العام 2016، وهي تعتمد بالأساس على رفع الحكومة اليونانية لمجموعة من الضرائب، وتخفيض المعاشات، وهو ما يشي بوضوح بمرونة من جانب الحكومة اليونانية التي رفضت في السابق الانصياع لشروط كهذه.
الاتفاق الجديد
يدور الاتفاق الجديد حول اتخاذ إجراءات لسد عجز في التمويل يبلغ 2 مليار يورو في الموازنة اليونانية لهذا العام، والتكلفة الباهظة التي تتكبدها الحكومة اليونانية للإنفاق على نظام المعاشات الخاص بها كان محل الخلاف الرئيسي بين بروكسل، والتي رأت وجوب تخفيضها، وأثينا، التي اعتبرت المعاشات خطًا أحمرًا، بيد أنها تراجعت قليلًا عن هذه المسألة بالأمس.
تكمن مشكلة المعاشات بشكل أساسي في استغلالها من قبل ذوي الدخول المحدودة، والذين يلجأون للتقاعد المبكر رسميًا رغم استمرارهم في عملهم ليحصلوا على أموال المعاشات من الدولة مضافة إلى رواتبهم، ومن المتوقع أن يلجأ حوالي 400،000 يوناني هذا العام للتقاعد للتمتع بمزايا هذا النظام، ومعظمهم بالطبع لم يصل بعض لسن التقاعد.
يتضمن الاتفاق الجديد كذلك مساهمة الطبقات العليا بدفع ضرائب إضافية على الخدمات الصحية، وارتفاع في الضرائب على الأرباح من المشاريع الاقتصادية والشركات، بالإضافة إلى إلغاء الأسعار المخفّضة للخدمات في مناطق معينة مثل الجزر الصغيرة المتناثرة في بحر إيجة.
كل ذلك سيؤدي في النهاية إلى جلب 680 مليون يورو للخزينة اليونانية فيما تبقى من هذا العام، بالإضافة إلى 1.3 مليار يورو خلال العام المقبل، طبقًا للنسخة الرسمية من الميزانية الجديدة التي سلمتها اليونان اليوم إلى الثلاثي المكروه الآن في البلاد: البنك المركزي الأوروبي، وصندوق النقد الدولي، والمفوضية الأوروبية.
هل يقبل اليونانيون؟
عناوين الصحف اليونانية بعد أخبار الاقتراح الجديد تهاجم القوى الأوروبية
لا تبدو الأمور مبشرة رُغم أنباء الوصول لاتفاق في أثينا، حيث يشعر الكثيرون بالإحباط جراء تراجع تسيبراس عن الخطوط الحمراء التي وعد ألا يتنازل عنها، وأصحاب المعاشات بالطبع هم أول من سيتظاهر احتجاجًا مساء اليوم، حيث صرح مانوليس رالاكيس، الأمين العام لاتحاد المعاشات اليوناني، بأن كبار السن في اليونان يشعرون بالخيانة جراء تلك الإجراءات التقشفية التي اقترحتها الحكومة اليسارية المنتخبة مطلع هذا العام.
“نشعر بخيبة أمل كاملة بعد أن قررت الحكومة المضي قدمًا في نفس السياسات التي اضطرت الحكومات السابقة إلى اتباعها، وكل ما هنالك هي مجموعة من رفع الضرائب التي سيحملها على عاتقه المواطن اليوناني البسيط ليس إلا،” هكذا قال رالاكيس، البالغ من العمر 75 عامًا، “لقد قلصوا المعاشات في السابق بحوالي 50٪، والآن يريدون تقليصها أكثر، إنها مهزلة، لماذا يتوجب علينا نحن أن ندفع الثمن؟”
من ناحية أخرى، يبدو وأن الاتحادات العمالية ستنضم هي الأخرى، حيث أعلن اتحاد العمال الشيوعي أنه سيلجأ للشوارع الليلة للاعتراض على الاتفاق، وأنه يرفض اتفاق لا يجوّع الناس فقط بل يذبحهم، “لقد دفعنا بما فيه الكفاية، والآن حان وقت المقاومة!”
ليست القوى اليسارية فقط هي المعترضة هنا، بل يبدو أن أصحاب الأعمال مستاءون أيضًا من مسألة رفع الضرائب، إذ يقول ثاناسيس بابانيقولا أن رفع الضرائب على المطاعم، وخدمات الأطعمة بشكل عام، من 13٪ إلى 23٪ سيضر كثيرًا بهذا القطاع، “لقد جربنا نفس السياسة عام 2011 في نفس القطاع وأدى ذلك لإغلاق 4،500 مشروع وتسريح 40،000 عامل،” هذا وشنت الغرفة التجارية اليونانية غضبها على تسيبراس، وقالت أن الاتفاق يقوّض من أي احتمال للنمو، ويزيد من الركود والبطالة، وأنه رُغم إرجائه لإعلان اليونان لإفلاسها، إلا أنه سيجعل الأوضاع على الأرض أكثر سوءًا.
علاوة على ذلك، يبدو وأن تسيبراس سيواجه المصاعب داخل حكومته أيضًا، إذ لا يتوقع أن يوافقه كافة أعضاء حزبه على تلك الإجراءات الجديدة، كما أن شريكه في الائتلاف، الحزب القومي المتطرف، لا يرحب بالتبعات السياسية لإلغاء الأسعار المخفضة للخدمات في جزر إيجه، كما يقول رئيس الحزب ووزير الدفاع الحالي، بانوس كامينوس، والذي حذر من أن خطوة كهذه ستدفع بسكان تلك الجزر إلى شراء احتياجاتهم من تركيا.
بين السياسة والاقتصاد
إنقاذ الاقتصاد من عدمه على ما يبدو ليس أمرًا مقصورًا على النظرة الاقتصادية فقط، بل إنه بالأساس رهن العمليات السياسية الجارية في بروكسل وبرلين وأثينا، وغيرها من عواصم القارة الأوروبية الجنوبية التي تميل هي الأخرى للتصويت لليساريين من أعداء التقشف الألماني، والذين يتوقع أن يصلوا للسلطة في مدريد بنهاية العام مع الانتخابات الإسبانية.
يقول الكثير من المحللين لذلك أن برلين ليست مهتمة حاليًا بتحسين الوضع اليوناني بقدر ما هي بإظهار سريزا بصورة من خضع لشروطها، لترسل بذلك رسالة قوية لكل البلدان التي تعاني من أزمة اليورو تقول فيها بوضوح أن بروكسل لن ترضخ لتلك الحركات الشعبوية، لا سيما وأن انتشار هذه الحركات في لشبونة ومدريد وأثينا سيشكل ضغطًا أكبر على الاتحاد الأوروبي، وخاصة إسبانيا البلد الكبير والمهم.
ما إن كان رضوخ تسيبراس سيكفي لتركيع أثينا هو أمر ستكشف عنه الأيام، ولكنه لا يبدو ممكنًا، فقد صرح أليكسيس ميتروبولس، نائب رئيس البرلمان اليوناني، أن تمرير الاتفاق والتصديق عليه برلمانيًا شبه مستحيل نظرًا لطبيعته التقشفيه وغير الاجتماعية بالمرة، وهو موقف يلقى صدى في الشارع اليوناني والصحافة كذلك التي بدأت في شن هجومها مع ذيوع أول أنباء تراجع تسيبراس عن شروطه بالأمس.
“حين أقرأ العناوين الآن والتي تقول أن ذلك الاتفاق نصر للاقتصاد اليوناني، أتسائل على أي كوكب يعيش هؤلاء، لقد سارت اليونان بالفعل على هذا الدرب وانكمش اقتصادها بـ25٪ وهبطت أجور اليونانيين بحوالي 30٪.. وتحصيل الضرائب أصلًا من الأغنياء والشركات الكبيرة أمر صعب في اليونان المعروفة بانتشار الفساد في مؤسسات كثيرة، وبالتالي فإن هذه الخطوة قد تكون بلا جدوى،” هكذا كتب الخبير الاقتصادي الأمريكي شين ريتشاردز.
***
تدرك برلين أن أثينا لا يسعها الآن أن تخرج من اليورو، وأن ورقة الضغط الروسية عن طريق دفع الروس لديون اليونان لن تفيدها على الأرض لأن المسألة ليست سيولة نقدية بقدر ما هي إصلاح هيكلي للاقتصاد لن تحققه موسكو بالطبع لليونان، ولكن الاقتراح من ناحية أخرى لا يحقق ذلك التغيير المطلوب على المدى البعيد، ولكن يحقق على الأرجح انتصارًا سياسيًا أرادته بروكسل لتثبت قوة موقفها في مواجهة الحركة المعادية للتقشف في دول الجنوب.
ما إن كانت أوروبا قد حققت ذلك النصر بالفعل أم لا هو ما سنعرفه من قدرة تسيبراس على تمرير الاتفاق من عدمه في البرلمان اليوناني، وإقناع الشارع اليوناني به، وهو أمر لا تقول الإشارات القادمة من أثينا أنه سيتحقق بسهولة، مما يعني أن برلين في النهاية قد تكون انتصرت على شخص تسيبراس فقط ليس إلا، بل وقد تكون خطواتها دافعًا لسقوط حكومته وتنامي الحركات الاحتجاجية من جديد.