يُلخص العالم الديمغرافي الفرنسي، ألفريد صوفي، ظاهرة الهجرة بقوله: “إما أن ترحل الثروات حيث يوجد البشر، وإما أن يرحل البشر حيث توجد الثروات”، ومنذ العصور الغابرة، شكلت الهجرة تعبيرًا عن رغبة الفرد في مواجهة الظروف الصعبة بالهروب منها والبحث عن أرض أخرى، توفر حياة جديدة وتضمن له الحق في العيش الكريم.
ورغم أن هذه الظاهرة يعود لها الفضل تاريخيًا في إعمار الأرض وتلاقي الحضارات وتعارف الشعوب، إلا أنها تحولت في الزمن المعاصر إلى هجرة ذات اتجاه واحد بسبب الأوضاع السيئة في مناطق كثيرة من الدول النامية، بالإضافة لانعدام التوازن بين دول العالم؛ ما دفع العديد من الحالمين بتحقيق مستوي معيشي أفضل، والتخلص من شبح الفقر الذي يطاردهم في بلادهم، إلى السفر من أفريقيا إلي ليبيا عبر الحدود الجنوبية للصحراء الغربية الليبية، لينطلقوا بعدها بقوارب عبر مياه البحر المتوسط، ويتوجهون في الغالب نحو شواطئ أوروبا سواء في اتجاه الشواطئ الإيطالية أو في اتجاه شواطئ اليونان ومالطا أو إسبانيا، فيكون منهم سعداء الحظ ممن يصل إلي وجهته، بعد أن يتم إنقاذه من الغرق، ومنهم من لا يحالفه الحظ، ليصبح جثة هامدة طافية على سطح مياه المتوسط.
وقد تطور هذا المشهد الدرامي المتعلق بالهجرة غير الشرعية، خاصة في العقد الأخير من القرن العشرين، من الشمال الأفريقي، قاطرة الجنوب الفقير، إلي أوروبا غير الراغبة في استقبال المزيد من المهاجرين، بعد أن كانت في حاجة ملحة إلى العمالة السمراء لإعادة إعمارها بعد الحرب العالمية الثانية، ليصبح هاجسًا يؤرق بلدان الاتحاد الأوروبي، ويثير بها الكثير من الجدل لما تطرحه من مشاكل من مختلف الأنواع، بل تحول هذا الملف ليصبح من أهم القضايا الأمنية، ومن أهم نقاط البرامج الانتخابية للأحزاب، خاصة بالنظر إلى العلاقة المحتملة بين الإرهاب والمهاجرين، حيث أصبح من الاحتمالات الواردة وجود أعضاء جماعات إرهابية بين المهاجرين.
ولمعالجة هذه الظاهرة، حاولت دول الاتحاد الأوروبي أن تُنشئ تعاونًا مع الحكومات المحلية لدول جنوب المتوسط (شمال أفريقيا)، إلا أن أغلب المعالجات كانت ذات خلفية أمنية بحتة؛ تتلخص في ضرورة صد جحافل المهاجرين دون البحث عن معالجة أسبابها الموضوعية التي أنتجت وستنتجها “الظاهرة” مستقبلًا.
وفي السياق ذاته، قرر الاتحاد الأوروبي بدء المرحلة الأولى من “الحل العسكري” لصد ظاهرة الهجرة السرية في البحر الأبيض المتوسط، وأساسًا القادمة من ليبيا، ولم يتطلب التوصل إلى اتفاق مجهودًا يُذكر بحكم تحمس كل الدول للحلول الأمنية، ويؤمل في تكرار تجربة أفريقيا الغربية منذ سنوات التي حدت من نسبة القوارب، في فترة يتواصل فيها الجدل بين الدول الأوروبية حول الحلول الإنسانية وبينها توزيع واستقبال المهاجرين السريين.
وقد اتفق وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي، يوم الإثنين في بروكسل، على الشروع في الحل العسكري للهجرة السرية في البحر الأبيض المتوسط، وذلك من خلال قيام المخابرات الأوروبية بجمع المعلومات حول الشبكات التي تنظم الهجرة السرية في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط.
وتتمحور المرحلة الثانية في قيام وحدات من كومندوز أوروبية بمحاصرة السفن المحملة بالمهاجرين في عرض البحر في المياه الدولية لاعتقال المهربين، خاصة أن القانون الدولي يجيز ذلك؛ وفي المرحلة الثالثة، سيتم تدمير سفن المهربين في المياه الليبية، وهذه المرحلة رهينة بمصادقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لأنه يمس المياه الإقليمية لدولة عضو.
تجدر الإشارة إلى أن ويكيليكس سبق لها وأن نشرت، الشهر الماضي، وثيقة صادرة عن الاتحاد الأوروبي تضمنت وجود مخاوف حقيقية لدى بعض الأوروبيين من إمكانية اندلاع انعكاسات سلبية للتدخل العسكري في شواطئ ليبيا، خاصة مع فرضية أن يؤدي إلى مواجهات بين قوات أوروبية ومليشيات ليبية.
وخلال الأيام المقبلة، سيبدأ العمل بالخطة، وفق تصريحات فدريكا موغيريني، الممثلة العليا للسياسة الخارجية والأمن القومي المشترك بالاتحاد، وتشمل خمس سفن حربية، غواصتين، ثلاث طائرات من المكلفة بحراسة البحار، طائرات بدون طيران، وثلاث طائرات مروحية، وذلك بمشاركة قرابة ألف جندي ينتمون إلى مختلف الدول الأوروبية تحت قيادة أدميرال إيطالي، ولن تهم العملية العسكرية مجموع البحر المتوسط في البدء بل ستكتفي بمراقبة شواطئ ليبيا، حيث تنطلق قوارب بشكل يومي محملة بالمهاجرين.
وستستهدف أساسًا السفن الكبيرة التي تستعمل في نقل مئات المهاجرين دفعة واحدة من شواطئ ليبيا إلى شواطئ إيطاليا، ورغم أن التدخل في مياه ليبيا لتدمير هذه السفن يتطلب قرارًا من مجلس الأمن، الأمر لا يتطلب قرارًا في حالة اعتراض هذه السفن قبل دخولها المياه الإقليمية الليبية لتحميل المهاجرين.
ورغم تسجيل سنة 2014 أكبر نسبة من النازحين في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وارتفاع التوتر السياسي والأزمات المالية لدى الدول المجاورة للاتحاد الأوروبي، إلا أنه ماض في تكريس الحلول الأمنية والعسكرية للهجرة على حساب الحلول الإنسانية، رغم أن التجارب المختلفة كشفت صعوبة نجاح الحلول الأمنية والعسكرية للهجرة، فهي قد تحد مؤقتًا من تدفق المهاجرين ولكنها لا تستأصل الظاهرة، التي أصبحت من عناوين الخلل البنيوي في العلاقات الدولية.
ومن جهته، يرد الاتحاد الأوروبي على منتقدي سياسته في هذا الموضوع باستحضار تجربته في القضاء على قوارب الهجرة القادمة من غرب أفريقيا، حيث نجح بين سنتي 2004- 2006 في صد قدوم سفن من موريتانيا والسنغال وغامبيا، من خلال التنسيق بين دوريات أوروبية ودول المنطقة، ونجحت في الحد من تلك القوارب، التي كانت تعرف باسم “كايوكو” وتحمل حتى 150 مهاجرًا سريًا.
يواصل الأوروبيون إذن الدفع نحو الحلول الأمنية وبالتصريح لا التلميح هذه المرة، رغم أن أغلب المحللين يعتبرون أنها غير عملية كونها تهمل الأسباب الرئيسية وتحاول معالجة النتائج، كما أن هذا النوع من الحلول مكلف بالفعل، فقد سبق وأن شهد الاتحاد الأوروبي توقيع اتفاقات ثنائية بين دول مثل إيطاليا وليبيا، وأخرى بين الاتحاد الأوروبي ككل ومصر والمغرب والجزائر، يدفع الاتحاد بموجبها الملايين من أجل مشروعات مثل رفع قدرات الحراسة على الحدود، والدعم اللوجيستي المتمثل في طائرات المراقبة، وبناء معسكرات الاحتجاز، فالاتحاد الأوروبي ينفق بالفعل أموالًا طائلة ولكن ضمن رؤية قاصرة، وبدلًا من ذلك، كان حريًا به أن ينفقها علي دعم مشروعات تنموية، يكون عمادها مؤسسات المجتمع المدني، خاصة في القرى والأرياف وهوامش المدن الكبرى، فالقضاء على البؤس والبطالة هو ترياق هذه الظاهرة، وفقط.