دولة حزب العمال الكردستاني: تأتيكم برعاية أمريكا

في الأسبوع الماضي، استعادت القوات الكردية، التي تحارب تحت لواء حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، السيطرة على بلدة تل أبيض الحدودية من أيدي الدولة الإسلامية، وبهذا تم قطع خط الإمداد الرئيسي إلى عاصمة الدولة الإسلامية الفعلية في الرقة، كما أن استعادة تل أبيض، سمحت بتوحيد أراضي الكانتونات التي يسيطر عليها الأكراد، كانتون كوباني، وكانتون الجزيرة، حيث تقع تل أبيض كنقطة وسط ما بين هاتين المنطقتين.
جاء هذا الانتصار بعد المعركة الشرسة التي خاضتها القوات الكردية في بلدة كوباني في أكتوبر الماضي، حيث كادت هذه القوات أن تتلقى هزيمة شنعاء على يد عناصر الدولة الإسلامية، لولا الزيادة الهائلة في الغارات الجوية لقوات التحالف التي ساعدت على تحويل دفة الأمور، وأثناء حصار الدولة الإسلامية لكوباني، قامت الولايات المتحدة أيضاً بفتح ممر للقوات الكردية التابعة للـPYD لتزويد غرفة العمليات العسكرية في أربيل بأهداف الدولة الإسلامية، والتي عمل طيران التحالف على قصفها فيما بعد، ومنذ ذلك الحين، اعتمدت قوات الـPYD بشدة على القوة الجوية الأمريكية لتساعدهم في تقدمهم، واستعادة السيطرة على المناطق من أيدي تنظيم الدولة.
الجارة التركية تجنبت مساعدة الـPYD، بسبب علاقة الأخير الوثيقة مع حزب العمال الكردستاني (PKK)، وهو حزب مصنف على أنه إرهابي من قِبل تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لشنه لهجمات متكررة ومنفصلة ضد الدولة التركية منذ أكثر من ثلاثة عقود؛ وأنقرة لا تفرق ما بين الـPYD والـPKK، وتؤكد أن تصرفات الـPYD في سورية هي بمثابة حملة للتطهير العرقي، وجزء من جهد أوسع يسعى لإقامة دولة حليفة لحزب العمال الكردستاني، على طول الحدود البرية السورية – التركية.
من جهتها، تجاهلت الولايات المتحدة المخاوف التركية، مبررة دعمها المتواصل للجماعات الكردية، بنجاحاتها ضد الدولة الإسلامية، ونأيها بنفسها عن الجماعات الإسلامية المتمردة، المدعومة بمعظمها من قِبل تركيا، وهكذا ساعدت السياسة الأمريكية على خلق جيب يسيطر عليه الأكراد في سورية معادٍ للمصالح التركية، وأصبح الأكراد يشكلون خطراً على المصالح التركية سواء في الداخل التركي أو على الحدود في شمال شرق سورية وشمال غرب العراق، وإضافة إلى ذلك، أعلنت الولايات المتحدة بشكل غير مباشر أنها سوف تعمل على حماية المكاسب الكردية، خشية أن تجتاح الدولة الإسلامية المناطق التي حررتها القوات الكردية في هجوم مضاد منظم.
هذا الواقع يطرح مشكلة بالنسبة لتركيا، حيث تواصل أنقرة مباشرتها وإيقافها لمفاوضات السلام مع حزب العمال الكردستاني منذ عام 2006، ويعمد حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى قيادة عملية تهدف في المقام الأول إلى وضع حد للعنف، وخلق مسار قانوني قابل للاستمرار أمام حزب العمال الكردستاني، ليعتمد على السياسة الديمقراطية لطرح قضاياه، بدلاً من تعويله على العنف، وبناء عليه، اتفق الجانبان على وقف لإطلاق النار في 2013، لكن المحادثات توقفت في نهاية المطاف بعد أن طالب حزب العدالة والتنمية من حزب العمال الكردستاني نزع سلاحه قبل انتقال المفاوضات إلى المرحلة التالية، وفي المقابل، اشترط حزب العمال الكردستاني على حزب العدالة والتنمية لنزع سلاحه أن يتخذ مزيداً من الخطوات الهادفة إلى منح الأكراد حقوقهم في تركيا.
منذ بداية المفاوضات، كانت الحكومة التركية ممثلة بحزب العدالة والتنمية، تسعى لتحقيق هدفين متلازمين، أولاً إنهاء العنف، وثانياً تقويض قاعدة الدعم الشعبي لحزب العمال الكردستاني، حيث حرص حزب العدالة والتنمية على خلق توازن مع شعبية حزب العمال الكردستاني لدى القوميين الأكراد، وذلك عن طريق سعيه للظفر بالدعم السياسي للأكراد المتدينين في تركيا، ومن خلال القيام بذلك، كان يأمل حزب العدالة والتنمية أن يؤدي إنهاء العنف، وإعادة دمج الأكراد في المجتمع التركي، وتحسين الأوضاع الاقتصادية في المناطق الكردية الجنوبية الشرقية، إلى إنهاء عهد سيطرة وشعبية حزب العمال الكردستاني، وبذات الوقت إلى توفير دفعة كبيرة في القاعدة الانتخابية للحزب، حزب العدالة والتنمية.
استطاع حزب العدالة والتنمية تحقيق بعض النجاح في مسعاه لتهميش حزب العمال الكردستاني، حيث ساعد تخفيف القيود الثقافية، وتحسّن المناخ الاقتصادي في المناطق الجنوبية الشرقية ذات الأغلبية الكردية في تركيا، على تلميع صورة حزب العدالة والتنمية ما بين الأكراد المتدينين، ولكن خلال معركة كوباني، تبنى الحزب خطاباً معادياً للأكراد، مما عمل على تقويض الدعم الذي حصل عليه في المناطق ذات الأغلبية الكردية، ومع استمرار مناصبة العداء من قِبل أنقرة نحو الـPYD، استمر حزب العدالة والتنمية بخسارة الناخبين، وفي نهاية المطاف أدت سياساته المعادية للمصالح الكردية في سورية، إلى تحول القاعدة الانتخابية بشكل جماعي من دعم حزب العدالة والتنمية، إلى دعم حزب الأكراد، حزب الشعوب الديمقراطي، المرتبط بحزب العمال الكردستاني.
حزب العدالة والتنمية وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي كانا حليفين طبيعيين، حيث عملا معاً بشكل وثيق للتقدم بعملية السلام التركية – الكردية، قبل أن تؤدي الخلافات السالف ذكرها إلى تجميد المفاوضات، ومنذ ذلك الوقت اطردت الانشقاقات والاختلافات ما بين الطرفين وتوسعت، ولا سيّما بسبب القضية الكردية- السورية؛ فعلى سبيل المثال، رحب حزب الشعوب الديمقراطي بسقوط تل أبيض، قائلاً إن كل انتصار للـPYD ضد الدولة الإسلامية هو تعزيز للأمن الإقليمي، وعلى النقيض، جاء موقف حزب العدالة والتنمية متهماً حزب الاتحاد الديمقراطي PYD بتشريد أهالي القرية العرب والتركمان، كما انتقد قيام الولايات المتحدة بتوفير الغطاء والدعم الجوي لحزب الـPYD الإرهابي.
أثارت هذه الانقسامات مخاوفاً من انهيار اتفاق وقف إطلاق النار الهش، وعودة حزب العمال الكردستاني والدولة التركية إلى ساحة الصراع الدموي، ولكن على أرض الواقع، هذه المعادلة غير واردة على المدى القريب، كون التغيير في المواقف الأميركية، جنباً إلى جنب مع التغطية الإعلامية المترافقة والملائمة للموقف الأمريكي الجديد، خلقا حافزاً لدى حزب العمال الكردستاني للامتناع عن مهاجمة الدولة التركية، حيث تحسنت صورة الحزب العالمية بشكل كبير في الأشهر الأخيرة، وكسبت كتائبه النسائية اهتمام وسائل الإعلام الدولية، التي أشادت بالحزب باعتباره القوة الوحيدة القادرة على هزيمة الدولة الإسلامية، وهذه التغطية الإعلامية المؤيدة نوعاً ما للحزب، أنعشت جهود الضغط على الاتحاد الأوروبي وصنّاع السياسة الأمريكيين لإزالة حزب العمال الكردستاني من قوائم المنظمات الإرهابية.
إزالة الحزب من قوائم الإرهاب هي عملية غير واردة، نظراً للمقاومة المطروحة من تركيا وهي حليف لحلف الناتو، ومع ذلك، فإن الـPYD يمتلك مصلحة في الإبقاء على الدعم الغربي، وخاصة الآن بعد أن قام بتوحيد كانتوناته في سورية، وبالتأكيد سوف يفكر الحزب الآن في كسب التأييد لمساعيه في الحكم الذاتي، أو حتى الاستقلال التام، في سورية ما بعد بشار الأسد، ومن المؤكد أن تركيا ستقاوم هذه الجهود، ولكن حتى الآن، يبدو أن الولايات المتحدة ترى أن حزب الاتحاد الديمقراطي هو قوة قتالية قادرة على الاستمرار والبقاء، وتستحق الدعم الجوي المباشر.
إن تمكين حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، له تداعيات محلية وسياسية على الدولة التركية، وسيطرة الحزب على الأراضي في سورية، تشكل مصدر قلق كبير للمسؤولين الأمنيين الأتراك ولاعبي السياسة الخارجية التركية، في الوقت الراهن، فإن كلا من الـPYD والحكومة التركية، لديهما حافز يدفعهما للامتناع عن تصعيد الموقف، كون التصعيد سيؤدي إلى فقدان الـ PYD لمصداقيته الدولية، في حين أن تركيا ستخاطر بإنجرارها ضمن داومة الصراع السوري، ولكن، إذا ما نظرنا إلى ما بعد النزاع الحالي، فإن أنقرة يجب الآن أن تتعامل مع ما لا يمكن تصوره، وهو دويلة حزب العمال الكردستاني المدعومة أمريكياً والقائمة على امتداد أطول حدود برية تمتلكها، وبشكل طبيعي، فإن تركيا وهذه الدويلة ستناصبان العداء لبعضهما البعض، وهنا على أنقرة أن تختار، إما تنشيط عملية السلام ومحاولة عقد السلام مع حزب العمال الكردستاني، أو محاولة القضاء على هذا التهديد، وهذا الخيار الأخير، في حال اختياره، سيضمن استمرار الاضطرابات في سورية، وهي نتيجة غير مقصودة ربما للقرار الأميركي بالتدخل في النزاع السوري.
المصدر: وار اون ذي روكس