ترجمة وتحرير نون بوست
على مدى عقود، تركزت أغلبية طفرة الازدهار الاقتصادي في الصين ضمن المناطق الجنوبية والمناطق الساحلية الشرقية، التي تضم مدنًا كبرى مثل قوانغتشو وشانغهاي، اللتان تشهدان معدلات نمو صاروخية، ولم يمر وقت طويل قبل أن تتحول صين ماو تسي تونغ من أحد أكثر الدول مساواة في العالم، إلى مجتمع رأسمالي طبقي للغاية، مع مستويات تفاوت رهيبة في الدخل، تحاكي تلك الموجودة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
وإدراكًا منه لخطورة الانقسام المتزايد في البلاد على أساس جغرافي وطبقي، أقر الحزب الشيوعي الصيني ابتداءً من عام 2006، عقيدة سياسية جديدة، اتخذها في الجلسة العامة المغلقة التي عقدتها اللجنة المركزية للحزب، والتي تركز على إنشاء “مجتمعًا منسجمًا”.
اعترفت قيادة البلاد، في بيان رسمي علنًا أن “العديد من الصراعات والمشاكل تؤثر على الانسجام الاجتماعي”، ودعت القيادات ليكونوا “واضحين وحذرين حتى فيما يبدو على أنه أوقات هدوء وسلام”.
بغية تخفيف الانقسامات الطبقية، وجسر هوة الفوراق الجغرافية الشاسعة، وسعت بكين الرعاية الأساسية للمواطن الصيني المتوسط، وفي إطار إستراتيجية التنمية الغربية التي تتبعها الحكومة الصينية، زادت الأخيرة من استثماراتها في المناطق الداخلية المُهملة منذ فترة طويلة، وتبعًا لذلك، فإن الأقليات الرئيسة مثل سكان المسلمين الإيغور، الذين يقيمون في المناطق الداخلية الغنية بالموارد، كان من المفترض أن يكونوا من بين أكبر المستفيدين من هذه الإستراتيجية الجديدة.
محنة الإيغور
ولكن المشكلة تكمن في أن تطوير المناطق الداخلية الصينية، تلازم مع تزايد القمع الاجتماعي والسياسي للسكان الإيغور، فضلًا عن تدفق أعداد كبيرة من السكان الصينيين الهان إلى مناطق الحكم الذاتي مثل شينجيانغ، ومع مرور الوقت، انخفض تعداد سكان الإيغور، وهي مجموعة عرقية تركية مسلمة، ليصبحوا مجموعة من مجموعات الأقليات الظاهرية في مناطقهم، على حساب تزايد أعداد الهان، بالإضافة إلى قيام بكين، في خضم حربها ضد التطرف، بفرض تدابير صارمة ضد المظاهر الدينية، مثل منعها للطلاب المسلمين وموظفي الخدمة المدنية من الصيام في شهر رمضان.
رسميًا، يتم الترويج إلى أن شينجيانغ هي جزء لا يتجزأ من الصين، وعنصر أساسي من النسيج الصيني منذ آلاف السنين، ولكن مع ذلك، فإن نظرة سريعة على التاريخ، تكشف لنا بأن هذا التوحد لم يحدث حتى القرن الـ 18، عندما كانت بكين تُحكم من سلالة تشينغ التابعين لقومية المانشو، وحينها استطاعت الحكومة الصنية أن تفرض بعض عناصر سيطرتها على شينجيانغ، والتي تعني حرفيًا الأرض الجديدة، والتي كانت سابقًا ذات أغلبية مسلمة.
في أوائل القرن الـ 20، كان الإيغور في الواقع قادرين على إقامة أنظمة سياسية مستقلة خاصة بهم، مثل تأسيسهم لجمهورية تركستان الشرقية “يوغورستان” قصيرة الأجل من عام 1931 وحتى 1934، والتي أعيد تأسيسها فيما بعد من عام 1944 وحتى 1949، حتى أُجهضت أحلام الاستقلال بحزم، جرّاء القبضة الحديدية التي حكم بها الحزب الشيوعي الصيني، حيث سعى الحزب لإعادة تأسيس تشينغ الصين على أسس الماركسية اللينينية، خاصة بعد الهزيمة المظفرة التي قصم بها الحزب ظهر الإمبراطورية اليابانية، والحزب الوطني.
على الرغم من القبضة الاستبدادية التي حكمت بها بكين، تمكن السكان الإيغور من الحفاظ على تقاليدهم الثقافية والدينية الفريدة، وقاوموا جميع أشكال الدمج القسري في صلب فلسفة وثقافة الهان.
ولفترة طويلة، بقيت المناطق الداخلية غير الساحلية مهمشة وراكدة اقتصاديًا، خاصة بعد إغلاق الشركات المملوكة للدولة في تسعينيات القرن الماضي، مما أسفر عن تفاقم معدلات البطالة وخلق حالة مؤثرة من الركود الاقتصادي، ولكن الأمور تغيرت عندما عزم الحزب الشيوعي على تسريع وتيرة التنمية في المناطق الداخلية، حيث أطلق برنامج لتحفيز تحويل ثروات شينجيانغ، ولاستغلال مواردها الطبيعية الهائلة بشكل أكثر كفاءة.
القمع واسع النطاق
رغم ما تقدم، فإن تطوير وتحديث شينجيانغ، لم يؤدِ إلى التنمية الشاملة لشعب الإيغور، بل خلق انقسامات اقتصادية جديدة ضمن منطقة الحكم الذاتي، كون الازدهار الاقتصادي الذي طرأ على المقاطعة استفاد منه على نحو غير متناسب سكان الهان المهاجرين، الذين جاؤوا للسيطرة على الاقتصاد المحلي، وكانت النتيجة مزيدًا من التوترات العرقية بين السكان المحليين والمستوطنين الجدد، الذين تدعمهم بكين بمختلف أشكال الدعم، وتعاملهم بطريقة خاصة مختلفة عن شعب الإيغور.
وفي عام 2009 وصلت الاستقطابات إلى أقصاها، حيث انفجرت هذه التوترات المستمرة منذ فترة طويلة؛ لتندلع على شكل احتجاجات عنيفة في عاصمة المقاطعة أورومتشي، مما أدى إلى وفاة ما لا يقل عن 200 شخص وإصابة مئات آخرين، وعملت بكين، جنبًا إلى جنب مع مواطنيها الهان المحببين، على مواجهة هذه الانتفاضة المحلية تدريجيًا، مما أدى إلى انطلاق موجات من عدم الاستقرار في كافة أنحاء الصين، ومنذ ذلك الحين، وسنة إثر أخرى، تشهد منطقة الحكم الذاتي في شينجيانغ احتجاجات، وتوترات عرقية، وهجمات إرهابية.
وبدلًا من معالجة الأسباب الجذرية للأزمة، وغني عن القول بإنها تتمثل بإنهاء مختلف أشكال التمييز، ومنح الحكم الذاتي السياسي الحقيقي لسكان الإيغور، اعتمدت بكين على إستراتيجية عنيفة لمكافحة التمرد، إلى جانب فرضها لقيود متزايدة على الممارسات الثقافية والدينية لسكان الإيغور، حيث فرضت بكين قيودًا على المكان والكيفية التي يصلي بها الإيغور، كما أصبح الأئمة بحاجة للحصول على تصاريح حكومية قبل حضور الاجتماعات السياسية، وأُلزمت المساجد بالتسجيل لدى الحكومة، كما مُنع أو ثُبّط الإيغور الذين يعملون في المكاتب الحكومية من ممارسة شعائر الصوم والصلاة خلال شهر رمضان، وتم فرض أشكال مختلفة من القيود على أي نوع من أنواع التجمعات العامة، وخاصة بين السكان المحليين من الذكور.
حملة مكافحة الإرهاب
نتيجة لما تقدم، صعّدت الجماعات المتطرفة من هجماتها على سكان الهان والمكاتب الحكومية، وبالمقابل، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ عن حملة شاملة في بلاده لمكافحة الإرهاب، داعيًا إلى تشييد “جدران مصنوعة من النحاس والصلب، وشبكات ممتدة من الأرض إلى السماء للإمساك بالإرهابيين”، علمًا أن بكين تُلقي اللوم في أعمال العنف بشكل مباشر على الجماعات الإسلامية مثل حركة شرق تركستان الإسلامية، والحزب الإسلامي التركستاني.
مؤخرًا، أعلنت بكين، بشكل مدهش للغاية، أنها اعتقلت حوالي 181 شخصًا من الجماعات الإرهابية في شينجيانغ على مدى الأشهر الـ12 الماضية، وبغية استهداف التطرف الديني، اتبعت بكين إستراتيجية تتمثل بزيادة الوجود العسكري، توسيع مجال وأدوات المراقبة، وممارسة حملات الاعتقالات الجماعية في منطقة الحكم الذاتي.
إن الأفكار الصينية الفضفاضة حول محاربة الإرهاب، وعدم تسامحها مع أي معارضة لها، أسفرا عن اعتقال ناشطين بارزين مثل إلهام توهتي، وهو أكاديمي ومفكر أيغوري، يدعو إلى الحوار، وإلى إتباع الوسائل السلمية لحل الاضطرابات في شينجيانغ.
أخيرًا، إن رد فعل الصين الوحشي تجاه الأزمة، من المتوقع أن يعمل على تعميق الاستياء، ومضاعفة خطر التطرف عن طريق تقديم الأعذار والمبررات والحجج لاستمرار ظهوره، كما أن الإستراتيجية الصينية تهدد بتحويل المنطقة الهادئة منذ فترة طويلة إلى شيشان الصين، وتخنق أي أمل بخلق مجتمعًا منسجمًا ومتناغمًا.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية