لقد عرف الإنسان الصوم ومارسه منذ فجر البشرية، فهو ضرورة قبل أن يكون فريضة على اليهود والنصارى ومن ثم المسلمين؛ ففي سورة البقرة يخاطبنا الله تعالى ويقول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. الأية 183
والحقيقة أن الإنسان لا يصوم بمفرده، فقد تبين لعلماء الطبيعة أن جميع المخلوقات الحية تمر بفترة صوم اختياري مهما توفر الغذاء من حولها؛ فالحيوانات مختلفة تصوم وتحجز نفسها أيامًا وربما شهورًا متوالية في جحورها تمتنع فيها عن الحركة والطعام.
عند اليونان
لعل أبقراط (القرن الخامس قبل الميلاد) أول من قام بتدوين طرق الصيام وأهميته العلاجية، “كلما أكثرنا من تغذية الأجسام المريضة زدنا تعريضها للأذى”، وكان أبقراط يجد في الصوم علاجًا لكثير من الأمراض وتقويم النفس وتشذيبها، أوصى بالاعتماد على نوع الغذاء والصوم والحمامات المعدنية والتمارين الرياضية والهواء النقي أكبر من الاعتماد على الأدوية.
وارتبط الصيام عند اليونان بشعائر من وضع الكهنة، إذ أسبغوا عليه طابع الخفية، وقسموها إلى: أسرار صغرى، وأسرار كبرى؛ فالأولى تقام في فصل الربيع بالقرب من أثينا، ويغمر فيها طلاب الأسرار أنفسهم بالماء، فيستحِمون ويصومون، وعند طلب الأسرار الكبرى؛ وهي الفترة التي تدوم أربعة أيام لمن حاز الأسرار الصغرى، يعاد عليهم الاستحمام والصيام، أما الذين سبقوهم في الأداء في مثل ذلك الموعد من العام الماضي، كانوا يؤخذون إلى الاندماج، حيث الاحتفال السري، وهناك يفطر المبتدئون الصائمون بأن يتناولوا عشاءً ربانيًا إحياءً لذكرى الإله رملتر.
وكان طبيعيًا أن يتأثر الرومان بالصوم اليوناني، فأصبح صيامهم شبيهًا به، فشعيرة الصيام عندهم تمثل شعيرة الامتناع والحرمان الممزوجة بتعاليم مبهمة وضعها الكهّان ليختصوا بها وحدهم.
المصريون القدماء
اعتبر المصريون القدماء الصيام فريضة دينية للتقرب من الموتى عن طريق الامتناع عن الطعام والشراب لأن الأموات لا يأكلون ولا يشربون، ويمكن التمييز في صيام قدماء المصريين بين صيام الشعب وصيام الكهنة.
وكان الشعب يصوم سبعين يومًا لا يأكل فيها إلا الخضراوات ولا يشرب فيها إلا الماء، وهناك صوم آخر وهو صيام أربعة أيام في السنة، والصوم في موعد الحصاد، أما صيام الكهنة كان له مواعيد محددة وكانوا يمتنعون عن الطعام والشراب ومعاشرة النساء من شروق الشمس وحتى غروبها مدة أربعين يومًا ظنًا منهم أنه يزيد قدسيتهم .
البراهمية والبوذية
وتقدم لنا الديانتان البرهمية والبوذية، أمثلة كثيرة للصيام ذي المواقيت الدورية المتصلة بظواهر الفلك، خصوصًا ظواهر الشمس؛ فالبرهميون يمتنعون عن الطعام والشراب والنوم والسفر من غروب الشمس الأحمر كل يوم.
أما البوذيون، أتباع كونفوشيوس، يصومون قبل تقديم الأضحية، ويتناولون وجبة واحدة قبل مواعيد الصلاة، من شروق الشمس إلى غروبها في أربعة أيام من أيام الشهر القمري، يسمونها “أيام اليوبوذانا”، كما أوجبت فيها الراحة التامة، وحرمت مزاولة أي عمل، إلى وقت إعداد طعام الإفطار.
رمضان في الجاهلية
بحسب مصادر التاريخ العربي، فإن قدسية رمضان كانت قبل مجئ الإسلام عكس ما يعلنه شيوخ الدعوة اليوم للعوام؛ فقد كان عبد المطلب جد النبي – عليه الصلاة والسلام -، يقدس هذا الشهر ويعظمه ويلزم فيه غار حراء ويتصدق فيه ويطعم الطعام، ولم يكن وحده فقط من يقدس رمضان بل كان كذلك عامة عرب الجاهلية يولونه نفس التقديس وبعضهم ذهبوا إلى تحريم القتال فيه.
صائبة حران، وهي ديانة كانت تقوم على تقديس الكواكب والنجوم كانت منتشرة في منطقة حران شمال سورية وجنوب تركيا، كان أتباعها يصومون ثلاثين يومًا، مبتدئين الشهر؛ أي رمضان بظهور الهلال، ومنتهين إياه بظهور هلال الشهر الجديد.
ولم تكن هذه المطابقة بين الصابئية والديانة المحمدية فقط في عدد الأيام والشهر نفسه، بل وحتى فترة الصوم؛ من الفجر للغروب ومرتبطة بالقمر مثل الصوم الإسلامي وكذلك تنتهي شعيرة الصوم الصابئي بعيد مثل العيد الإسلامي ، ويسمى بنفس الاسم وهو “عيد الفطر”.
ومنه فالصيام من أقدم العبادات الإنسانية إذ ساد الاعتقاد في الحضارات القديمة بأن الامتناع عن الطعام والشراب يساعد الإنسان في الوصول إلى حالة من الشفافية الروحية تسمح له بالاتصال بالمعبودات وعالم الأرواح.