في مقالين سابقين عرضنا أثنين من الأفكار المطروحة لمواجهة الانقلاب العسكري : الثورة السلمية الاحتجاجية ، والتغيير من خلال صندوق الانتخابات ، و اليوم نعرض لفكرة منتشرة بين الناس وهى :
في لحظة ما قريبا ومع توالى الاحتجاجات الشعبية في الشارع ، وهذه الملايين التي لا تهدأ كل جمعه ، و كل يوم ، و مع انتشار المظاهرات في الجامعات ومدارس ثانوي و إعدادي ، و الاقتصاد الذي يحتضر ، و العصيان المدني الذي لم يكن يوما ما يمكن أن يقبل كفكرة في مصر فأصبح الآن مطروحا في الشوارع و على المقاهي و يناقش خطواته و أسلوبه في العلن ، ومع اكتشاف الانقلابيين أن أموال “الصدقات ” التي تأتى من الخليج لا تقيم اقتصاد لأن الاقتصاد يقوم على الإنتاج و ليس على الصدقات ، و مع غياب الدعم الدولي في العلن ، و ظهور مصر و كأنها تقف لوحدها و بجانبها السعودية و الإمارات ، و زيادة الاحتقان المجتمعي و عدم الاستقرار …..مع كل هذه الظروف سوف يكتشف الإنقلابيون أن الخطة فشلت ، و أن عليهم الاستماع إلى مطالب المتظاهرين في الشوارع ، و أنه الطريق أصبح مسدود و أنه لا بد من حل أخر …و أن هذا الحل يبدأ بالاستماع إلى مطالب المعارضين للانقلاب في الشوارع و التحاور معهم من أجل الخروج من هذه الأزمة .
وقتها تعود الشرعية مرة أخرى ، و يفشل الانقلاب.
ما سبق هو عرض مختصر لفكرة تترد كثيرا بين معارضي الانقلاب و مؤيدي الشرعية كسيناريو للخروج من الأزمة التي نحن فيها ، و هي تتردد بكثرة لدرجة أنها أصبحت عند البعض هي طريق الخروج الوحيد الذي يضع عينه عليه ، فهل يصلح هذا السيناريو في مصر بعد أن استبعدنا في مقالات سابقه سيناريو الاحتجاجات الشعبية الواسعة ، و سيناريو التغيير عبر الانتخابات ؟
للإجابة على هذا السؤال يجب أن نعرف أولا :
كيف تتطور الأحداث حتى تصل إلى هذه اللحظة التي نتحدث عنها ، ثم نعرف بعدها ما هو المتوقع حدوثه بعد وصولنا إلى هذه اللحظة .
في البداية توجد مجموعه من النخبة ( سواء المدنية على هيئة حزب حاكم ، أو عسكرية تدير المشهد العام في البلاد من خلف الستار ) هذه النخبة تدير البلد من أجل تحقيق الثروة و النفوذ ، وهما بالتأكيد هدفهم جميعا ، لكنها في نفس الوقت_وهو الأهم_ تعمل على الحفاظ على مجموعه من المكتسبات و المزايا التي يجعلهم في وضعيه خاصة جدا داخل نظام الحكم .
في النموذج المصري مثلا يسعى الجيش بالأساس في الحفاظ على نفسه كمؤسسه مستقلة خارج سلطات الدولة تماما ، يدير شؤونه باستقلال تام دون رجوع للمدنيين ، و أن يحافظ على مزاياه الإقتصاديه له و لأفراده خاصة بعد انتهاء خدمتهم بالجيش ، في نفس الوقت يعمل مع مؤسسات الدولة الأخرى ( القضاء و النيابة و الإعلام و الشرطة )على الحفاظ على قواعد اللعبة السياسية في مصر حكرا على طبقات معينه ، و أن تحتفظ كل هيئة من هذه الهيئات في المقابل بمجموعه من المزايا الخاصة بها : كأن يكون القضاء و النيابة قاصرة فقط على أولاد القضاة ، و أن تكون الشرطة لها كل الصلاحيات بدون مسألة ، و أن يعمل في الإعلام مجموعه معينه لها ارتباطات إيديولوجيه و مصلحة اقتصادية معينه مع ضمانه عدم وجود منافسين ….إلخ في مقابل ذلك فإن هذه النخبة تقنع عامة الناس بالرضا بوجودها في مقابل منفعة تقدمها لهم مثل : الأمن أو المال أو وحده البلاد وعدم تعرضها للانقسام أو تأمين حياة اقتصادية مرتفعه ….إلخ ، في الحالة المصرية كان : الاستقرار و الرخاء الاقتصادي هما المقابل المطروح للناس للرضا عن هذا الانقلاب .
أريد أن أقول : أنها نخبه تتحكم في البلد من أجل مصالح و مزايا خاصة تحصل عليها ولا يمكن أن تتخلى عنها ، هذه المصالح و المزايا التي قد لا تبدو ظاهرة لعموم الناس على الملا يصاحبها مزايا مادية و ثروات وهى التي تظهر للناس و تصبح حديثهم رغم أنها أقل أهميه بالنسبة لهذه النخبة في مقابل ما تقدمه هذه النخبة الحاكمة لعموم الشعب مثل الاستقرار و الرخاء الاقتصادي .
طالما أن الأمور مستقرة لا أحد يتدخل لتقليل هذه المزايا و المكاسب لدى النخبة ، لكن مع توالى الضغط الشعبي و الاحتجاجات على هذه الأنظمة يشعر البعض منهم أن هذه المزايا و المكاسب لو استمر الوضع القائم لفترة طويلة فإن هذه المزايا قد تذهب بالكلية أمام الضغط الشعبي المطالب بالحرية و الديمقراطية ، و بالتالي يبدأ التفكير بفكرة جديدة وهى :
أنه لا مانع من التنازل عن “بعض ” هذه المزايا و المكاسب في مقابل الحفاظ على البعض الأخر لفترة أطول و في مقابل عدم تعرضنا نحن شخصيا لأذى . فتصبح النخبة الحاكمة بسبب وضعها تحت الضغوط الشعبية راغبة في تقديم بعض التنازلات الحقيقية مقابل بقاء بعض المزايا .
يضاف إلى ذلك أن “تكلفه الخوف ” تصبح مرتفعه جدا ، فالنظام يضمن ولاء و طاعة الشعب في الشعوب الديمقراطية من خلال شرعيته التي جاءت بطرق قانونية متفق عليها كالانتخابات ، لكنه في النظم المستبدة في حاجة إلى نشر ثقافة “شئ من الخوف ” من أجل أن يضمن طاعة الشعوب و انصياعها للأوامر ، فعندما تصبح “تكلفه الخوف” مرتفعه بأن يصبح الاعتقالات دون جدوى لأن أعداد المعتقلين تزيد دون أن تنقص مظاهر الرفض ، أو تفقد الدولة سيطرتها على مؤسسات كثيرة لرفضها ما يحدث في البلاد من بطش كالمدارس و الجامعات و المصانع و النقابات ..إلخ و لا تجد عدد مخبرين كافي لمراقبه كل هذه الأعداد من الرافضين ….إلخ مع زيادة “تكلفه الخوف ” يصبح الحديث عن مخرج حتميا .
للاختصار نقول :،
تبدأ النخبة الحاكمة في التفكير في التنازل عن بعض صلاحياته بعد حرب طويلة من “تكسير العظام : بين الطرفين تشعر بعدها أن “ظهرها في الحائط” ، أو أن “الطريق أصبح مسدود” أو أنه “لازم نشوف حل ، الأمور بتتعقد “مع أن تصبح تكلفه الخوف مرتفعه ، ” السجون أتملت يا أفندم ” ، ” معندناش مخبرين كفاية ” ، “هنعمل إيه مع العيال ولاد ال***** دول إيه ، مفيش حاجة نافعه معاهم ”
في هذه اللحظة التي تبحث فيها النخبة بطريقه براجماتية عن مصالحها وطريق للخروج من الأزمة يكون الطرف الثاني المطالب بالديمقراطية عليه أن يتخذ خياره :
إما الاستمرار في الضغط أو التفاوض .
من هنا تكون الظروف مهيئه فعلا لحدوث تفاوض حقيقي يستفيد منه الطرفان .
النظام الحاكم يبدأ بالتخلص من مجموعه “الدببة ” التى كانت تقتل و تعذب و تهدد وتظهر أمام الناس كوجه للقوة و البطش ، و يظهر مكانها مجموعه من “الدباديب ” اللطيفة التى لم تقتل ولم تعذب لكنها كانت جزء من النظام ، يمكن أن نقول على سبيل المثال في مصر :نموذج حسام البدراوي في الحزب الوطني ، و اللواء العصار في المجلس العسكري . يمكن بالطبع أن يصل النظام الحاكم لهذا المنطق بهدوء و دون ضوضاء ومن داخله ، و ممكن أن يعلو الصوت قليلا بينهم أثناء النقاش فينتهي الحوار “بانقلاب عسكري داخل منظومة الانقلاب العسكري الموجود ” من أجل تهيئة الساحة لما هو أتى و إظهار أننا نبدأ مرحله جديدة بانقلاب يدعم الديمقراطية ، أو “التخلص من القيادات الغير مرغوب فيها بالاغتيال “أو ظهور جناح كأنه يريد أن ينشق عن الجناح الحاكم و يدعو لمزيد من الحريات و احترام حقوق الإنسان ومحاكمة المسؤلين عن التعذيب و القتل ……إلخ .
الدباديب و الدببة
الدباديب : في اللعبة أليفه ، ليه في الغابة يتبقى مخيفه ؟
الدباديب : دباديب مش دببه ، ياختى عليها الله يحرسها
بعيون خضره زى العنبة ، و احنا بنحضنها ونبوسها
حتى في شيلها يتبقى خفيفة ؟ !
الدباديب :: دباديب دببه !!
الدببة : زى الدبابة
رجل تدب وصوت بيزمجر
وسط الثلج وجو الغابة
الإغصان تحتها تتكسر
الدببة مجرمه و عنيفة ،
و الدباديب : دباديب دببه !!
الدباديب لبسوا فيونكات
و الدببة بالموتوسيكلات
الدباديب ناموا على الكنبة
و الدببة يفضوا إعتصامات
وتعدي قصادهم تشريفه …
الدباديب :يدبدبوا في الأرض
قالوا كفاية يا مظاهرات
و الدببة اترصوا بالعرض :
حظر تجول يا حضرات
وهنضرب كل الهتيفه ! دباديب دببه
الدباديب و الدببه حبايب
دول مع دول ماشيين على الخط
ضربوا المربوط خاف السايب
زبط وربط و شخط و نطر
و استعباط مع ضحكة خفيفة
دباديب :دببه
الدباديب : إعلام كذاب
و الدببة :واقفين على الباب
الدببة يلبسوا نايشين
والدباديب : يلعبوا أحزاب
إيه رأيكوا بأه في التوليفه ؟
ادى اللعبه ودى الملعوب :
شغل الدبه مع الدبدوب
أدى الملعوب ويا اللعبه : شغل الدبدوب مع الدبه
ومفيش أى سياسه نظيفه
*كلمات أمين الحداد
في سياق فكرة التفاوض مع النظام الحاكم المستبد من أجل الوصول إلى اتفاق يسمح ببدء التحول الديمقراطي يساق دائما تجربة جنوب إفريقيا كأهم مثال في هذا المجال .
جنوب أفريقيا كانت دوله يحكمها البيض ( و هم حوالي 4 مليون ) ، في مقابل أغلبية من السود ( 29 مليون ) ، يتمتع فيها البيض بكل المزايا ولا يحصل فيها السود على حق الانتخاب مع سياسة تمييزية في السكن و العمل ، و حرمان من التعليم و الرعاية الصحية …إلخ .
في مقابل هذه السياسة ظهرت منظمة المؤتمر الوطني لقياده الكفاح ضد هذه السياسة التمييزية ، وفي 1960 قرر نيلسون مانديلا ومعه رفقائه فتح باب المقاومة المسلحة ، ، و قبض عليه مرتين ، في المرة الثانية حكم عليه بالسجن مدى الحياة و في عام1985 عرض عليه رئيس الجمهورية العفو عنه مقابل وقف الكفاح المسلح إلا أنه رفض !
في عام 1990 أطلق رئيس الجمهورية سراح نيلسون مانديلا بعد 27 عام من الاعتقال ، و بدأ معه مفاوضات من أجل إنهاء سياسية التمييز العنصري ،و بدأ التحول الديمقراطي انتهت بانتخابات رئاسة الجمهورية عام 1994 التي فاز بها مانديلا بعد أن حصل هو و رئيس الجمهورية على جائزة نوبل للسلام قبلها بعام .
هل تصلح فكره التفاوض للتطبيق في مصر ؟
في البداية يجب التذكير بأن لكل بلد النموذج التاريخي الخاص به ، و الذي يمكن أن يتشابه مع نماذج أخرى لكنه لا يتكرر بالتأكيد ،و لمصر في الوضع الحالي وضع خاص :
– كان يقال دائما أن أكبر مؤسستين تتنافسان في مصر هما الحزب الوطني و الإخوان ، و هذا الكلام لم يكن صحيحا لأن الحزب الوطني لم يكن لدية ايدولوجيا أو رؤية تجمعه غير المصالح المشتركة ، و الصحيح أن الجيش يعتبر المؤسسة الوحيدة في مصر المتماسكة ، و التي له عقيدة و رؤية ، كما أن لها أهدافها الخاصة بها التي تسعى لها .
– الأمر الثاني :أن البلد بالفعل قد انقسمت نصفين ، و يوجد حاله من الانقسام المجتمعي التي سيستعصى على الحل في المدى القريب ، و أي حل يتجاهل هذا الانقسام سوف ينتهي بالفشل.
من خلال هذه الاعتبارات يبدو للبعض أن المدخل التفاوضي هو الأفضل لحل الأزمة : يطمئن الجيش على أن لا أحد سيقترب منه ، و أن الأمور سوف تبقى على حالها دون تغيير في مقابل أن يقدم عدد من أفراده للمحاكمة على الجرائم التي ارتكبها خلال الانقلاب ، و في نفس الوقت يعود المسار الديمقراطي و الدستوري من خلال انتخابات حرة و نزيهة ، ويراهن المعارضون للانقلاب على أنه مع بدأ المسار الديمقراطي فإنهم قادرون مع الوقت على تصحيح هذه العيوب .
ومزايا هذا الحل :
– أنه يهدأ من حاله الانقسام المجتمعي الحاصل قليلا .
– يعيد المسار الديمقراطي بسلاسة و بطريقه منظمة متفق عليها من قبل .
– يضمن لكل الطرفين : حفظ ماء الوجه ، فلدية ما يقدمه لمريديه و مؤيديه من حجج من أجل القبول بهذا الحل دون أن يبدو أن أحدهم قد خرج من المعركة منهزما .
لكن مشكله هذه الطريقة أنها تحتاج إلى :
– قياده واعية من الجانبين قادرة على التفاوض ، وفي نفس الوقت الحفاظ على التأييد الشعبي لها ، فهي تعلم ما تريد و ما لا يمكن التنازل عنه من جهة ، وفي الجانب الأخر تعرف كيف تقنع من بالسلطة بالتخلي عنها من أجل إتمام اتفاق أو مصالحة .
– هذه الاتفاقات دائما تتجنب محاسبه المسؤلين الحقيقيين عن ما حدث من انتهاكات و قتل و تعذيب ، أو أنها لا تقدم الجناة الحقيقيين للمحاكمة وتقدم بدلا منهم “كبش فداء ” …وهذا بالتأكيد لن يرضى قطاع كبير من معارضي الحكم المستبد ،ويؤدى فيما بعد لحدوث اختلاف داخل جبهة معارضي الحكم المستبد ، بل قد تصل الأمور لأن يحاول البعض اسكات هذه الأصوات المطالبة بمحاكمه حقيقية للجناه الحقيقيين من أجل تمرير المصالحة أو الاتفاق !! وهذا يعنى أن هذه الديمقراطية الوليدة تولد مشوه منذ البداية .
– العيب الأخطر : أن هذا الاتفاق لا يحل الصراع الموجود ،و لا ينهى الأزمة …هو فقط يؤجلها إلى مدى قريب يحاول فيه كل طرف كسب مساحه جديدة على الأرض و تغيير ظروف الصراع ، فلا هو يقدم حلول حقيقية ، و لا هو يحاول علاج أصل المشكلة ، بل على العكس فإن الأنظمة المستبدة تسعى دائما لتقديم أتفاق شكلي لا يغير اى تغيير حقيقيي في بنية النظام …….وبمعنى أخر فإننا نعيد من جديد كل عيوب المرحلة الديمقراطية في مصر من بدايتها دون تغيير .
من السيناريوهات الفرعية داخل هذا السيناريو المطروح :
أن يفشل النظام الحاكم ونخبته في توفير ما وعد الناس به ( الاستقرار ، و الرخاء الاقتصادي )، ومع توالي الضغوط الشعبية هذه المرة من قطاعات كانت تؤيده منذ البداية من أجل هذا المقابل الذي كان يقدمه لها ينهار النظام من الداخل على حين فجأة بسبب صراعات بداخل النخبة الحاكمة لا يستطيع أحد حسمها أو إيقافها فيبدأ البعض من القفز من المركب قبل أن تغرق وبعد أن يكون قد فقد كل حلفاءه على الأرض ولم يتبقى إلا النخبة التي تحكم ،فيبدأ بالانهيار و تكون الفرصة مواتية لقوى الديمقراطية في تنفيذ ما تريده ، وقد حدث هذا في دول عانت من خسارة حروب خارجية أو أزمات اقتصاديه مميتة .
في النهاية ،
يبدو أن فكرة الاتفاق أو التفاوض قد تكون مطروحة عندما تنتهي مرحله ” تكسير العظام ” دون تحقيق أي انتصار حاسم لأحد الطرفين ،وهى تضمن عوده المسار الديمقراطي و الدستوري ثم الدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة مع بقاء مزايا الجيش و وضعيه الجيش كما هي دون مساس و تقديم عدد من الجناة إلى المحاكمة , لكنها ليست الخيار الأفضل بالتأكيد بعد كل هذه التضحيات : أن يعود الوضع كما كان و أن تولد ديمقراطية مشوهه !!