تشكل منطقة بلاد الشام ومصر والعراق أو ما يسمى بالشرق الأوسط مركز العالم منذ القدم، ورغم غياب السلطة والقوة عنها لفترة من الزمن، إلا أنها لا تزال المحور الأساسي في معظم الصراعات الدائرة، ووجود دولة واحدة قوية فيها على الأقل مؤرق لكل القوى الدولية الكبرى الموجودة اليوم، وبديهي جدًا ألا تألوا هذه الدول جهدًا في تفتيتها وتمزيقها وإجهاض كل محاولة فيها، بل حتى تدمير كل بيئة فيها قد تساعد على خلق ذلك الجو من التفاهم والتعايش الذي قد ينتج عنه أي محاولة.
معلوم أن شعوب المنطقة الأربعة وتواقفها، أو على الأقل عدم تناحرها، هو ما يؤسس لكل محاولة قد تنهض بتلك المنطقة، الإيرانيون والعرب والكرد والترك، والذين ما زالوا منذ زمن في نزاع مستمر أو في الحد الأدنى في جو من عدم التوافق، أما الإيرانيون فقد تمت شيطنتهم في أذهان العرب على يد نظام الملالي القائم في إيران، وأما الكرد فتمزقوا بين أربع دول مما جعلهم ناقمين على الجميع، والعرب فلديهم من المصائب ما يعمي أعينهم عن أن يفكروا بعقولهم، والترك – رغم التقدم الملحوظ – فلا يزالون أسرى صورة نمطية قديمة عن العرب والكرد.
ربما شكلت الثورات العربية أملاً مشتركًا لهذه الشعوب – عدا الشعب التركي – في أن تخرج من حالة التخلف والاستبداد والظلم التي ما زلت تعيشها منذ دهر، فقد لاح لها بصيص أمل في أن التغيير ممكن والقادم أفضل، ومضت تلك الشعوب في هذا المسار بكل صدق وصفاء نية حتى طعنت من الخلف.
لدينا ثلاث حالات كان من الممكن أن تشكل نموذج نجاح للتحولات المأمولة في المنطقة، الحالة المصرية والسورية والكردية؛ أما الحالة المصرية التي تجسدت في انتخابات حرة وعملية تداول سلمي للسلطة بعد ثورة سلمية فقد قضي عليها بانقلاب دموي، أعاد البلاد لحكم العسكر وأحكام الإعدام والاعتقال، والذي بدوره أرسل رسالة واضحة للجميع، أن السلمية غير مجدية في عالمنا العربي، وأننا شعوب لم نرق بعد للوعي المطلوب بالديمقراطية والحياة المدنية.
وأما الثورة السورية التي تحولت مجبرة إلى السلاح، فقد طعنها تنظيم الدولة في ظهرها، في رسالة واضحة تقول إن السلاح يجلب الفوضى والفوضى تجلب الإرهاب، وإن الثورة هي التي أطلقت تلك السكاكين التي تذبحنا الآن.
أما الحالة الكردية وهي الأبرز والأوضح هذه الأيام، فقد شهدت نجاحًا سياسيًا قويًا في الجانب التركي في الانتخابات الأخيرة، وذلك بعد سنوات من الصراع العسكري المسلح الذي لم يجد شيئًا، ويبدو أن الرسالة القوية التي استقبلها الكرد، هي أن الحل السياسي هو الطريق الوحيد لانتزاع الحقوق، وذلك ما لا يناسب الكثير من القوى الحريصة على استمرارية ثقافة الصراع في هذه المنطقة، فنجاح الأكراد في سوريا في انتزاع دولة لهم عن طريق القوة، قد يكون أقصر طريق لتقويض تجربتهم السياسية في تركيا والتي ما زالت بعيدة عن حلم تشكيل الدولة الكردية، ولا يخفى حجم المشكلة التي قد يسببها عودة الأكراد إلى السلاح في تقويض السلام في تركيا.
الحال المرضية الوحيدة التي ربما تكف تلك الأيدي العابثة هنا، هي ما كنا عليه قبل الثورات العربية، شعوب خاملة مستسلمة تستنزف مقدراتها وهي صامتة جهلاً أو رضا.
إن كل حراك واع وواعد من هذه الشعوب يشكل خطرًا على المستبدين وأرباب المال وأسيادهم حول العالم، ولن يتركوا وسيلة مهما كانت دنيئة في تحقيق أهدافهم في السيطرة والنفوذ، فلا أصدق مثلاً أنهم يخافون من الجهاديين أو انتشار السلاح هنا، بل على العكس يريدون لتلك الشعوب التي رفضت الظلم أن تندم على خروجها عن صمتها، ولا أسهل من انتشار السلاح ليذبح الناس بعضهم، طائفيًا أو فكريًا كما نرى في سوريا، أو عرقيًا كما يحدث اليوم في منطقة الجزيرة السورية، أو سياسيًا كما يحدث في مصر، وكل ذلك لا يهم، المهم هو أن لغة الدماء والعنف تكون هي السائدة.
هذا العالم يريد أن يخبر شعوب المنطقة هنا أن عليها أن تتناحر إذا أرادت أن يكون لها وجود، يريد أن يثبت لها أن كل فرصة للتعايش السلمي فيما بينها ما هي إلا وهم، وأن لغة الرصاص والقتل والعنف هي ما التي يتخاطب بها أهل هذه المنطقة، وهذا تحد خطير وكبير يواجه العقلاء هنا، وفرصهم بالنجاح في إطار تغلب العسكرة والسلاح تبدو ضئيلة جدًا، ولكنها ليست مستحيلة، فالمجانين من كل طرف هم المسيطرون، في ظل غياب مخيف لصوت الحكمة والنجاة، و كما قيل “لعنة الله على الظالمين، لكن ماذا عن الصامتين؟”.