ترجمة وتحرير نون بوست
كتب جوليان فون ميتلشتايدت وسميحة الشافي
هذه المقالة هي الجزء الثاني من مقالة المملكة الجديدة: التحولات المتعاكسة في السعودية، اقرأ من هنا.
في كل مرة تبيع فيها حنين العامري زوجًا من الأحذية، فإن فعلها هذا يرقى إلى ثورة ضمن المملكة السعودية، حيث تقوم العمري بهدوء بترتيب مختلف أشكال الأحذية النسائية على الرفوف البيضاء، في محلها الذي يقع في الطابق الثاني في مول البحر الأحمر، أحد أكبر مراكز التسوق في جدة.
العامري البالغة من العمر 27 عامًا، ترتدي حذاءً رياضيًا، وعباءة سوداء وبيضاء تلامس حدودها الأرض، وصبغت شعرها المخبأ تحت الحجاب باللون الأحمر، وإثر حصولها على الطلاق مؤخرًا تقول “كل يوم أقول شكرًا، شكرًا، شكرًا لأنني حرة”، ولولا عملها هذا، لكانت العمري ما تزال حتى الآن على ذمة زوجها.
زواج العامري كان أحد زيجات الأسر التقليدية المدبرّة، حيث لم تلتقِ بزوجها المستقبلي إلا بعد الخطبة، ووعدها حينئذ بأنه سيكون متسامحًا ومنفتحًا، ولكن بمجرد زواجهما، أجبرها على ارتداء النقاب، الذي يغطي كامل وجهها ما عدا عينيها، وكان عاطلًا عن العمل، ومتجهمًا، وغير سعيد دائمًا، “لم يكن يريدني أن أكون سعيدة أيضًا” تقول العامري، التي كانت محبوسة في المنزل، بدون أي مال بين يديها، وبدون أي عمل لتقوم به، وكان لديها ابنة، ولكنها مع ذلك أصيبت بالاكتئاب من وضعها المزري، وزوجها كان يسيطر على كل حركة تقوم بها، وينهاها عن العمل، ولكن بعد عامين من توسلات زوجته لتغيير رأيه، استسلم أخيرًا لطلبها.
أول وظيفة لها كانت في بيع مستحضرات التجميل، ومن ثمّ بدأت بالعمل في محل لبيع الأحذية، وقبل أربع سنوات حينما باشرت عملها، كانت البائعات الإناث قليلات ونادرات، حيث كان معظم الأشخاص الذين يعملون في المتاجر من الرجال الأجانب، من الفلبين وبنغلاديش وماليزيا، علمًا أن الأجانب يشكلون ثلث عدد السكان في المملكة العربية السعودية، ويعملون في المقام الأول كسائقين، أو نُدَّل، أو خدم للمنازل، أو مندوبي مبيعات للملابس ومستحضرات التجميل، وحتى للملابس الداخلية النسائية؛ ففي البلاد التي تصر على إتباع سياسة الفصل بين الجنسين، كان النساء يضطررن لشراء ملابسهن الداخلية من الرجال!
“في إحدى المرات اضطررت للبوح بمقاس حمالة صدري للبائع في محل الملابس الداخلية النسائية” تقول العامري، وتتابع “حينها قال لي بأنني أعطيته المقاس الخطأ، وأنا أحسست بالإحراج الشديد”، وهناك في السعودية، تجربة مقاس الملابس الداخلية غير وارد على الإطلاق، كونه لا يوجد غرف لتبديل الملابس في متاجر المملكة، لذا، فعلت العامري ما تضطر لفعله جميع النساء هناك؛ فالتقطت حمالة صدر بشكل عشوائي، دفعت سعرها وغادرت، واعتادت على ارتداء ملابس داخلية لا تناسب مقاسها.
ثورة الملابس الداخلية
لكن النساء قررن وضع حد لهذه المهزلة، وفعلًا في عام 2012، وإثر الاحتجاجات الكثيرة، بدأت المملكة العربية السعودية بفرض قانون يسمح للإناث فقط بالعمل في محلات بيع الملابس الداخلية النسائية، وتدريجيًا، تم منح المرأة حق العمل في محلات بيع العباءات، الماكياج، الحقائب النسائية، الأحذية النسائية، ألعاب الأطفال، الملابس النسائية، وهلم جرا، وببطء ولكن بثبات، تم إبعاد الرجال عن العمل بهذه العوالم الخاصة بالنساء.
ولكن انضمام الإناث إلى القوى العاملة، خلق معه مجموعة من المشاكل الجديدة، فكيف يمكن للمرأة الوصول إلى العمل، وهي ممنوعة من قيادة السيارات؟ ومن الذي سيرعى أطفالهن؟ وماذا سيحدث لو حبلت المرأة أو أنجبت وهي على رأس عملها؟
بناء عليه، تم تمرير المزيد والمزيد من القوانين المنظمة لعمل النساء، مثل الحق في الحصول على إجازة أمومة لمدة عشرة أسابيع مدفوعة الأجر، والحق بالعمل بدوام جزئي، والحق في الحصول على دعم لرعاية الطفل، وبمعنى آخر، بدأت الثورة في المملكة العربية السعودية من الملابس الداخلية النسائية.
خضع المجتمع السعودي لتغيير جذري في السنوات العشر الأخيرة، وذلك منذ اعتلاء الملك الراحل عبد الله العرش في عام 2005، وخاض هذا المجتمع تغييره الجذري بشكل خاص منذ عام 2011، والسبب الرئيسي بهذا التحول هو أن عددًا متزايدًا من النساء أصبحن يعملن الآن، ليس فقط كموظفات مدنيات أو معلمات أو طبيبات، بل في جميع المجلات، لقد أصبحن على نحو متزايد أفضل تعليمًا من الذكور، وعلاوة على كل شيء حصلن على استقلالهن المادي، وغدا وجودهن في المجتمع أكثر وضوحًا بكثير، حيث سُمح لهن بمغادرة عزلة منازلهن، وأصبحن أحرارًا في السفر داخل المملكة على أقل تقدير، وسُمح لهن بالمبيت في الفنادق، وإنشاء الشركات، بل أصبح يوجد أيضًا ملاجئ للمرأة في المملكة العربية السعودية، كما لم تعد المناقشات حول العنف الممارس ضد المرأة من المحرمات، كما كانت عليه من قبل، وبالمختصر، تغيّرت الطريقة التي ينظر بها المجتمع إلى المرأة في السعودية، بالتوزاي مع تغيّر الطريقة التي ينظر بها النساء إلى أنفسهن.
“اعتدت أن أكون خائفة طوال الوقت، وتجنبت التحدث إلى الغرباء” تقول العامري، وتستطرد “ولكن بعد ذلك، بدأت بالانفتاح، والتعرف على أشخاص جدد، والاستمتاع بالحياة”، في تلك الفترة بدأ زوجها بالمرور بشكل متكرر إلى المحل الذي تعمل به، لقد كان يتجسس عليها، وحذّرها من ضرورة عدم التحدث للرجال الغرباء، وفي المنزل، كان يصرخ بوجهها ويوبخها، وبدأ بالتذمر وسؤالها إذا كانت تكسب المال الكافي لإعالة نفسها، فلماذا إذن ستكون بحاجة له، وبعد عامين، تقدمت العامري بطلب الطلاق.
اليوم تعمل العامري كمديرة للمحل، لكن لا يزال لديها طموحات لم تتحقق بعد، لذا عمدت إلى التسجيل بمدرسة ليلية للحصول على شهادة بكالوريوس في علم الاجتماع، ومن المقرر أن تتقدم للامتحانات النهائية في غضون بضعة أسابيع، وتفكر بعد التخرج بالتقدم بطلب للحصول على وظيفة أفضل أجرًا، العامري أيضًا ترغب بإرسال ابنتها إلى مدرسة خاصة، لتستطيع زيارة قائمة البلدان التي تتطلع لها، الهند، ماليزيا، الولايات المتحدة، وتذكر العامري بأنها عادت للتو من أول رحلة لها في الخارج، إلى دبي، وتقول “لم أكن يومًا سعيدة بقدر ما كنت سعيدة في تلك الرحلة”.
السياسة الوطنية للمملكة العربية السعودية
في هذه الأيام، يمكن للمرأة أن تختم جواز سفرها في المطار، كما يمكنها العمل كمحامية، وهي قادرة على التقدم بشكوى أو بدعوى إلى المحكمة، ويسمح لها أيضًا بالاشتراك بمجالس الإدارة، والانخراط بالسلك الدبلوماسي، سيدات الأعمال السعوديات يعملن بعقود توريد وإطعام ناجحة، كما يعملن على تطوير التطبيقات البرمجية، وتصميم العباءات، ومن ثمّ بيعها عبر الإنستغرام، وعلى مدى العامين الماضيين، تم ضم 30 امرأة من أصل 150 عضوًا إلى مجلس الشورى في المملكة العربية السعودية، حيث تم اختيارهن من قِبل الملك السابق، وفي نهاية السنة، ستكون النساء قادرات على التصويت لاختيار ممثلاتهن في المجالس المحلية، كما سيمنحن حق الترشح أيضًا.
بالطبع، هناك طريقة أخرى لننظر بها إلى هذه التغييرات؛ فمجلس الشورى الذي يضم 30 عضوًا من الإناث، هو مجرد شبه برلمان عاجز عن القيام بأي تغيير، والمرأة لا تزال ممنوعة شغل منصب القاضي أو السفير، ونسبة النساء العاملات في السعودية لا تتجاوز الـ 15% فقط من النساء، كما تُعد المملكة العربية السعودية أكبر موطن لربات البيوت غير العاملات الأعلى تعليمًا من أي مكان آخر في العالم، ولا يزال القانون يعامل النساء البالغات كقصّر بحاجة إلى رعاية، حيث يسيطر عليهن أولياء الأمر (المحرم)، كما يُفرض عليهن ارتداء العباءات، ولا تزال الزيجات التقليدية والمدبّرة هي قاعدة الزواج الأكثر انتشارًا في السعودية، وعقوبة الزنا يمكن أن تصل إلى الإعدام، فضلًا عن أن المرأة السعودية في المناطق الريفية، لا تزال تحلم بالحريات التي تتمتع بها الآن النساء في المدن.
الفصل بين الجنسين لا يزال سياسة وطنية للمملكة العربية السعودية، حيث يتم مراقبة حسن تطبيق هذه السياسة بشدة من قِبل شرطة الآداب الوطنية، والتي تتمثل مهمتهم بمنع الاختلاط والخلوة، وتتم تربية الفتيات على احترام هذه الإملاءات، ونادرًا ما يلتقي حتى الأصدقاء المقربون بزوجات بعضهم، كما يُسمح شرعًا بتعدد الزوجات، لما يصل إلى أربع زوجات في ذات الوقت.
هذه المبادئ تشكّل الدعامة الأساسية لهذه الدولة الأصولية، ولكن مع ذلك، فقد تم إحراز تقدم كبير، رغم أن هذا التقدم لم يدفع السعودية إلى الأمام، لتتجاوز عقود التخلف التي تفصلها عن بقية العالم، كون التغيير لا يبدو واضحًا إلا إذا كنت تبحث عنه عن كثب، وخلف الحجاب الأسود، الذي كثيرًا ما يصرف أنظار العالم عن هذه البلاد.
البحث خلف الحجاب الأسود
يجب عليك النظر من خلال العديد من الحجابات لرؤية إبتسام المطلق، التي ترتدي العباءة، النقاب، والحجاب، وجميعهم باللون الأسود، ولا يظهر منها سوى يديها وعينيها السوداوين فقط، المطلق البالغة من العمر 30 عامًا، تصنع أشكالًا من الأسلاك المعدنية، وأحد هذه الأشكال يبدو وكأنه يتجه إلى الأمام، أطلقت عليه تسمية “كن حرًا”.
“دعونا نحول الصعوبات التي نواجهها إلى تحديات، وعقباتنا إلى دوافع” تقول المطلق على موقعها على شبكة الإنترنت، ولكن هل فنها هو نداء من أجل تحرير النساء المظلومات في المملكة العربية السعودية؟
تبتسم المطلق عندما نطرح عليها هذا السؤال، ونستطيع أن نرى ابتسامتها، لأنها في جناح السيدات، وهو طابق مخصص للنساء فقط في مركز تسوق المملكة في مدينة الرياض، وتستطيع هنا أن تخلع نقابها وحجابها، وتجيبنا بعد ابتسامتها “إن الغرب يسعى دائما لتحريرنا، لكننا لا نشعر بأننا لسنا أحرارًا، نحن نشعر بالتقدير في مجتمعنا، والحمد لله”، وتشير المطلق أنها تأمل أن يعبّر فنها عن فكرة أن المرأة السعودية يمكنها تحقيق أي شيء تسعى لتحقيقه.
حينها سألناها: أي شيء؟ ماذا عن الفصل بين الجنسين؟ وحقيقة أن النساء يحتجن لولي الأمر؟، أجابت بهز كتفها معترضة على كلامنا، وقالت “أنا فخورة لكوني امرأة عربية سعودية”.
“المطلق” لا ترى أي تناقض بين التقاليد والفن المعاصر الذي تعمل به، وكونها درست الفن في الرياض، فهي تعلم أن الفن يقوم على استقلالية الفكر، في بلد ينهى عن كل ما يصرف الانتباه عن الدين، علمًا أن صالات عرض الأعمال الفنية اُفتتحت مؤخرًا فقط في الرياض، ولكن المطلق، وهي مسلمة متدينة، تبيع أعمالها الفنية للأمراء السعوديين الأثرياء.
“ريما الجويني” فنانة أخرى، بالغة من العمر 24 عامًا، لا ترتدي العباءة السوداء، وترتدي معطفًا من الصوف وبنطالًا رياضيًا، ذات شعر قصير، وثقبت حاجبها لتضع فيه حلقًا صغيرًا، الجويني ترسم صورًا لإناث نصف عاريات، وتنشرها على الإنستغرام، وعندما لا ترسم أو تتدرب لسباق الماراثون المقبل الذي ستشترك به، تقوم بالتدريب في صالة رياضية، الجويني شاركت في سباقات ماراثون في بلجيكا ودبي، ولكن في حال أرادت أن تتدرب في الرياض، فعليها الذهاب إلى الحي الدبلوماسي المنعزل، حيث توجد السفارات الأجنبية، ويقطن في الحي الأجانب فقط، وبالنسبة لها، التدرب في العلن، في بلد يُحظر فيه على الفتيات في المدارس الحكومية المشاركة في التدريبات بالصالة الرياضية، هو شكل من أشكال الاحتجاج.
المطلق والجويني، امرأتان تعيشان في الرياض، ولا يمكن أن تكونا أكثر اختلافًا مما هما عليه الآن، ولكن بطرق مختلفة خاصة بهما، تحاولان التغلب على العوائق التي وضعتها بلادهما في طريقهما، وكلتاهما شابتان تنتميان إلى جيل الشباب التوّاق للحصول على مساحة أكبر ليثبت نفسه، ولكن ما يتوقا إليه في الواقع، هو المزيد من الحرية.
الأثر المُحرر لوسائل التواصل الاجتماعي
التحرر والانعتاق في المملكة العربية السعودية مهمة عسيرة، كونه لا يعبّر عن قضية شخصية، بل عن قضية سياسية، والنساء يتهن في مرمى النيران المتبادلة ضمن المعركة الدائرة بين المحافظين والمحدثين، والتي تدور رحاها في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وبالأخص في المملكة العربية السعودية، وهذه المعركة – بالحد الأدنى – تميط اللثام عن تجربة اجتماعية، تتمثل بالسؤال: ما الذي قد يحدث عندما تمر البلاد المتزمتة بعملية التحديث؟
من الناحية الإحصائية، يمكننا ملاحظة اتجاهين رئيسيين في البلاد، أولهما، أن ثلاثة أرباع الشعب السعودي هم أقل من سن الثلاثين، وثانيهما، أن السعودية هي أكثر دولة في العالم يقضي شبابها وقتهم على اليوتيوب، وتمتلك أكثر نسبة للمستخدمين النشطين على موقع تويتر تناسبًا مع عدد السكان، وهي أكثر دولة في العالم يحوز الهاتف الذكي فيها على تأثير مُحرّر ومُحفّز.
السبب بهذا الانجراف الشبابي الكبير نحو الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ناجم عن عدم وجود أي شيء آخر ليقوموا به؛ فالسينما محظورة، والبث التلفزيوني المحلي يتضمن إما برامج دينية أو برامج سفيهة ومملة، وفي المقابل، اليوتيوب يمثل منطقة قانونية رمادية، تقع بعيدًا عن متناول مقص الرقابة، وهو بذلك يوفر واجهة ترفيهة للشباب السعودي، ضمن صحراء شاسعة من التناقضات، ويعود الفضل إلى حد كبير بهذا الإقبال، إلى قسورة الخطيب، الذي شارك في عام 2010 في تأسيس قناة يوتيرن “UTurn” على اليوتيوب، التي توفر لملايين السعوديين الكوميديا والأخبار والترفيه منذ ذلك الحين.
يعمل الخطيب، البالغ من العمر 46 عامًا، في مكتب قرب مطار جدة، ويرتدي الثوب الخليجي الأبيض الطويل “الدشداشة”، البث الذي تقدمه قناة يوتيرن لا يحتوي على مشاهد تدخين، أو شرب الكحوليات، أو المخدرات، ولا أجساد عارية، ولكن يعمل ضمن القناة مذيعات، كما تقوم القناة ببث الكثير من الموسيقى، يوتيرن تعمل باستمرار على الخروج عن التقاليد السعودية، وتقدم محتوى لم يكن يتخيله المشاهد السعودي قبل بضع سنوات من الآن.
ما الذي كان يقوم به الشباب السعودي قبل عصر الانترنت؟ سألنا الخطيب، وأجابنا بضحكة عالية “يا إلهي”، وتابع “لقد كانت الأمور رهيبة عندما كنت صغيرًا”، ويضيف شارحًا كيف كان هو ورفاقه يتسابقون بالسيارات، ويرمون قطعًا صغيرة مجعدة من الورق تحتوي أرقام هواتفهم للفتيات، رغم أنهم لا يرون منهن سوى أعينهن، “ومن ثم كنا ندلف بسرعة إلى المنزل وننتظر بجانب الهاتف” يقول الخطيب، وأحيانًا تتصل واحدة من هؤلاء الفتيات، ويتم الترتيب للقاء في السوبر ماركت، وعندما تظهر الفتاة في الموعد والمكان المحددين، يشعر الشباب بالإثارة، رغم كونها تصطحب محرمًا معها، “ولكن في الواقع، التحدث مع الفتاة كان أمرًا غير وارد بتاتًا” قالها الخطيب وهو يرفع حاجبيه، وأضاف “أعتقد أن المجتمع تطور كثيرًا منذ ذلك الحين”.
بزوغ التناقضات وتحطيم العوائق
في الوقت الحالي أصبح الكثير من الأزواج يلتقون في أماكن العمل، حيث يتحدثون على الهاتف، ويتبادلون الصور عبر الفيسبوك أو برنامج السناب شات، وعدد كبير منهم لم يعد على استعداد للإقدام على الزيجات التقليدية المدبّرة، وهناك عدد متزايد من النساء اللواتي يعزفن عن الزواج من رجل سيصبح ولي أمرهن للأبد، ووفقًا للأرقام الرسمية، 45% من النساء فوق سن الـ 30 غير متزوجات، و40% من الزيجات في السعودية تنتهي بالطلاق.
الزواج هو أحد أسس المجتمع السعودي، وهذه المؤسسة سوف تنتهي وتتآكل في حال عزوف النساء عن الالتزام بقواعد الزواج؛ فالجدران والعوائق التي تم تشييدها ما بين الجنسين، والتي دافع عنها المتدينون لعقود من الزمن، يجري هدمها وتحطيمها ببطء، وكلما انخرطت المرأة في سوق العمل بشكل أكبر، كلما وضحت وزادت حدة التناقضات في المجتمع بشكل أكبر، وكلما ازدادت أيضًا صعوبة الحفاظ على سياسة الفصل ما بين الجنسين.
التناقضات الاجتماعية في السعودية التي تبزغ جرّاء انخراط النساء في سوق العمل، تبدو واضحة من خلال بعض الأسئلة البديهية؛ فلماذا يوجد مداخل منفصلة للرجال والنساء في المكاتب، مع أنهم قادرين على الجلوس بجوار بعضهم في الطائرات على سبيل المثال؟ ولماذا يُسمح للسائق الأجنبي أن يقود سيارة النساء، ولكن لا يُسمح بأن يقودها ابن عمها أو أحد أقاربها المقربين؟ ولماذا يمكن للعاملات في المحلات التجارية التحدث مع الزبائن، ولكنهن ممنوعات من رؤية أزواجهن المستقبليين أو التحدث معهم قبل الخطبة؟ وعلاوة على كل شيء، لماذا تنفق الدولة أموالًا طائلة لتثقيف النساء رغم عدم وجود فرص عمل ملائمة لهن؟
في أواخر أبريل، وضمن مركز المؤتمرات في فندق هيلتون على الساحل الغربي في جدة، كانت اللوحات الجدارية المذهبة تزيّن الجدران، والثريات الثقيلة تتدلى ببهاء من السقف، وتحتها تجتمع حشود من النساء، اللواتي اجتمعن أمام أجنحة شركات إيكيا، وإرنست ويونغ، والفرع السعودي لبنك HSBC، بعضهن كن يرتدين العباءات الحريرية الفاخرة، وأخريات يرتدين ملابس سوداء أكثر تحفظًا، ولكن جميع الحاضرات يضعن سيرتهن الذاتية (CV) في محفظتهن، ويتشاركن الآمال في العثور على وظيفة عن طريق معرض الأعمال القائم.
معرض أعمال خاص للنساء فقط، هو أمر طبيعي تمامًا في جميع أنحاء العالم المتحضر، ولكن نادر الحدوث في المملكة العربية السعودية، رغم أن العديد من النساء لا يعرفن كيف يُفترض بهن أن يعثروا على وظيفة، وأصحاب العمل، الذين يكون معظمهم من الرجال، لا يعرفون كيف يفترض بهم أن يجدوا نساء للعمل لديهم.
من الطبيعي في السعودية أن تجد شابة عاطلة عن العمل ضمن هذا المعرض، تتمتع بمؤهلات عالية، مثل إيمان الزهراني، وهي فتاة عزباء بالغة من العمر 32 عامًا، عادت لتوها من مونتريال بعد أن حازت على درجة الماجستير في علوم الكمبيوتر، الزهراني، امرأة صغيرة وحازمة، اكتشفت أن بلادها على عكسها، لا تقدّر قيمة شهادتها العليا التي دفعت ثمنًا باهظًا للحصول عليها، فهي لم تستطع أن تجد عملًا في السعودية رغم أنها تحمل شهادت عليا في علوم الكومبيوتر.
عالم معكوس
أكثر من 150.000 سعودي يدرسون حاليًا خارج المملكة، ونصفهم يدرس في الجامعات الأمريكية، وبعد الصينيين والهنود والكوريين الجنوبيين، السعوديون هم أكبر قوة طلابية أجنبية، ثلث الطلاب السعوديين الذين يدرسون في الخارج هم من النساء، ولكن على عكس الأجيال النسائية السابقة، عندما تعود هذه النساء بعد تخرجهن بشهادات عليا إلى وطنهن، لا يرضين بمهنة التدريس في المدارس أو إدارة المشاريع الخيرية، لأنهن يسعين للعمل في مجالات أكثر أهمية كتطوير برامج الكمبيوتر، أو إدارة الشركات والمشاريع، أو تصميم وبناء المنازل.
تمشي الزهراني منتقلة من مقصورة شركة إلى أخرى، وتقوم بتعبئة طلبات العمل، وتوزع سيرتها الذاتية (CV) على مكاتب الشركات الموجودة في معرض الوظائف، ولكنها تسمع ذات الإجابة في كل مكان: لسنا بحاجة إلى خبيرات في تكنولوجيا المعلومات (IT).
إنه عالم معكوس؛ فالمرأة التي تبحث عن وظيفة كعاملة في متجر تستطيع الحصول على آلاف عروض العمل، ولكن من الصعب للغاية بالنسبة للمرأة ذات الشهادات العليا أن تحصل على وظيفة في السعودية، علمًا أن ثلث الخريجات الجامعيات عاطلات عن العمل، و60% من خريجي الجامعات من النساء.
بعد ساعة كاملة من السعي بين مكاتب ومقصورات الشركات في معرض الوظائف، تستسلم الزهراني، وتلقي بنفسها على كرسي مجاور، وتقول بغضب “الحكومة تدعم عمل النساء، ولكن مجتمعنا لا يزال متحفظًا للغاية في هذا الموضوع”.
يمكن للزهراني أن تسلك الطريق الأسهل، المتمثل بالذهاب لأمريكا، التي تحمل جنسيتها، وإيجاد عمل بسهولة هناك، ولكنها تسعى لإحداث تغيير في بلدها الأم، ولا ترغب بانتهاج الطريق السهل، لأنها لم تتعود أن تنصاع للطرق السهلة؛ الزهراني تمتلك أربعة أشقاء ذكور، ووالدها ضابط في الجيش السعودي، ووالدتها ربة منزل، وحينما تقدمت بطلب للحصول على منحة الدراسة الدولية، قامت بذلك بشكل سري، ولم تخبر ذويها، حتى تمت الموافقة على طلبها.
قبل ذهابها إلى كندا، عملت الزهراني في قسم الإدارة ضمن مستشفى عسكري، ووجدت متعة لا توصف هناك، على حد قولها، كونها المرأة الوحيدة بين الرجال، والعمل في قطاع الجيش يمثل حاليًا خطتها البديلة، في حال لم تستطع أن تحصل على عمل في مجال دراستها وخبرتها، ولكن بجميع الأحوال، تضع الزهراني أولوياتها بصرامة، الوظيفة أولًا، ومن ثمّ الزواج، وهي لا تتمنى أن تحيد عن خطتها المرسومة، خشية أن ينتهي بها الأمر كربة منزل، كالعديد من النساء قبلها.
الرغبة بالتغيير
المنظم المسؤول عن تنظيم معرض الوظائف هو خالد الخضير، حيث قام بتنظيم هذا المعرض لتقديم فرص عمل للنساء مثل إيمان الزهراني، من ذوي المؤهلات العالية والمتحضّرات والمفعمات بالطاقة، ويمكنك أن تلاحظ فخره ودهشته تلتقيان معًا عندما رأى هذا الجمع الغفير من الخريجات الشابات في المعرض، علمًا أن هذا ليس أول معرض عمل ينظمه، ولكن الطلب على النساء في الوظائف في تناقص مستمر.
الخضير شاب يبلغ من العمر 31 عامًا، يرتدي الزي التقليدي الخليجي مع عباءة الرأس التقليدية “الشماغ” باللون الأحمر والأبيض، ولكن مظهره الخارجي التقليدي مضلل، كون الخضير شاب متحضر، ودرس في الولايات المتحدة، ومتزوج من امرأة عاملة، ومكتبه حضاري وعصري مزين بالأرائك الجلدية البيضاء والشعارات التي تملأ الجدران.
عندما أنهى دراسته الجامعية، أمضى بعض الوقت عاطلًا عن العمل، قبل أن يحصل على وظيفة في شركة KPMG، وهي شركة مختصة بالأعمال المحاسبية، ويقول الخضير “كثير من النساء، كن أكثر ذكاء مني بكثير، ولكن مع ذلك يعانين بشكل أكبر بكثير للحصول على العمل”، وهنا بزغت في ذهنه فكرة مساعدة المرأة للحصول على العمل، واستغرق منه الأمر سنوات لتؤتي هذه الفكرة ثمارها.
خالد الخضير، استطاعت شركته إيجاد وظائف لأكثر من 10000 امرأة سعودية
مدججًا بالفطنة ومدفوعًا بالرغبة بالتغيير، قام الخضير بتأسيس أول شركة لتوظيف المرأة تدعى جلوورك “Glowork” في عام 2011، وفي ذاك الوقت لم يكن عدد النساء السعوديات العاملات يتجاوز الـ 70.000 امرأة، و95% منهن يعملن كموظفات مدنيات.
سعى الخضير للحصول على دعم شركات كبرى مثل مايكروسوفت وسيسكو، لذا عمل على زيارة فروع هذه الشركات في الرياض، وهناك كان الأشخاص متحمسون لفكرته، عدا مدير الشركة السعودي، الذي قاوم هذه الفكرة، وادعى بأن المرأة ليست مؤهلة لتسلم المناصب، والسبب بهذا التعنت راجع لكون هذه الشركات لم تعهد بتاتًا توظيف النساء من قبل، وعلاوة على كل شيء، زعمت الشركة بأن توظيف المرأة مكلف للغاية، لأنه سيتطلب إنشاء مكاتب مستقلة، مراحيض منفصلة، غرف استراحة منفصلة، ومداخل منفصلة.
كان من الممكن أن تبقى الأحوال على ما كانت عليه، لولا الحدث التاريخي الذي داهم العالم العربي، والمتمثل باندلاع ثورات الربيع العربي في أوائل عام 2011، وإبان الانتفاضات في تونس ومصر والبحرين، أضحت الحكومة السعودية متوجسة من استياء شباب المملكة، وبغية استرضائهم، أنفق الحكام السعوديون المال بسخاء، حيث تم تخصيص مبلغ 550 دولارًا شهريًا لكل عاطل عن العمل، وبحلول ديسمبر 2012، استفاد 2.2 مليون سعودي من هذه المنحة، وكان 1.6 مليون من هؤلاء من الإناث، وتبين بالمحصلة أن الدعم يكلف خزينة الدولة ما مجموعه 10 مليار دولار سنويًا.
ولكن ماذا سيحدث لو لم يقتصر دور الحكومة على مجرد دفع مبالغ للعاطلين عن العمل، ألن يكون من الأفضل لو استثمرت هؤلاء من خلال تدريبهم، واستثمارهم، ومساعدة النساء على إيجاد الوظائف؟ هذه كانت أفكار الخضير التي طرحها على وزير العمل السابق عادل فقيه، الذي وافق بدوره عليها، وبالنتيجة أصبحت شركة جلوورك الآن تشغل 63 موظفًا في مقرها، وساعدت أكثر من 10.000 امرأة على إيجاد وظائف، ابتداءً من العمل كعاملات في مصانع المصابيح، ومرورًا بالعمل كنادلات في المقاهي، وانتهاءً بالعمل كموظفات في قسم الموارد البشرية أو كمحاسبات، وبالمجمل ازداد عدد النساء في الوظائف بحوالي ثمانية أضعاف منذ عام 2011.
عندما تعمل النساء
يتجول الخضير في قاعات وأجنحة معرض الوظائف، وهو يمسك بيده فنجانًا ورقيًا مملوءًا بالقهوة، ويتجه قدمًا نحو زوجين باشرا شركة ناشئة لغسيل السيارات، والفكرة المبتكرة لهذه الشركة، هي أنه يمكنك طلب غسيل سياراتك باستخدام تطبيق على الأجهزة الذكية خاص لهذه الغاية، وبطبيعة الحال، يقول الخضير، هذه الفكرة ابتدعتها المرأة، وكانت هي القوة الدافعة وراء هذا المشروع، الأمور في الواقع تكون دائمًا على هذا النحو، يشير الخضير، ويتابع قائلًا مع ابتسامة خفيفة “النساء سيغيرين هذا البلد أكثر من أي شخص آخر”.
الخضير شخص متفائل، ويؤمن باستمرار أن الأمور ستتغير للأفضل، حيث بدأ لتوه بمشروع جديد يسمى جلوفيت “Glofit”، وهي صالة رياضية للنساء، ويفكر الآن بإطلاق مشروع جديد يدعى جلوكار “Glocar”، وهي شركة سيارات أجرة خاصة بالنساء، “في غضون عامين ستعمل المرأة في كل مكان في مراكز التسوق” يقول الخضير، ويردف قائلًا “المحافظون يتخلون ببطء عن مقاومتهم، لقد أصبحوا أكثر قبولًا لعمل المرأة، أنا آمل أن يضعف الرابط ما بين التقاليد الاجتماعية والدين، هذا الغراء الذي جمع شتات المملكة منذ تأسيسها”.
بشكل عام، كلما زاد عدد النساء العاملات، كلما أصبحت الإجراءات والقواعد أقل صرامة؛ فحاليًا، نادرًا ما تقوم الشركات ببناء مداخل منفصلة للجنسين، وكثير من النساء لا يرتدين الحجاب في أماكن العمل، والكثيرات أيضًا يركبن سيارات الأجرة للوصول إلى العمل، هذه الأمور التي كانت جميعها حتى وقت قريب من المحرمات المجتمعية “التابو”.
ولكن الأمور لم تجرِ بسلاسة كما تبدو، حيث لم تمر هذه التغييرات بدون مقاومة؛ ففي أواخر عام 2011، أعلن المفتي العام للسعودية عبد العزيز آل الشيخ، أن بيع النساء للملابس الداخلية هو “جرم وحرام”، وتمنى أن يصاب وزير العمل في ذلك الوقت، عادل فقيه، بمرض السرطان ويموت منه، كما أنه عندما قام الخضير بالتفاوض على تعيين الإناث كأمينات صندوق في المراكز التجارية في الرياض، ثارت ضجة كبيرة خوفًا من إفلات الإناث من قبضة الرجال، ومؤخرًا، حذّر باحث سعودي من أن المسّوقات على الهاتف “Telemarkting” من الإناث قد يعملن على إغواء الرجال من خلال “نبرة صوتهن الغنجة”.
بالإضافة إلى ما تقدم تهدد الشرطة الدينية السعودية مرارًا وتكرارًا باعتقال البائعات، وتدّعي بأن الاختلاط والخلوة آخذين بالارتفاع نتيجة لهذه الممارسات، ولكن الملك المتوفى عبد الله استمر بإطلاق هذه الإصلاحات على الرغم من المقاومة التي تواجهها، كما أسس أكبر جامعة للمرأة في العالم، حيث سجل بها حوالي 40.000 طالبة.
تخطي الحدود
ولكن الملك الجديد أدرك فجأة عدم صحة الحرية التي أدخلها سلفه إلى الدولة، فعمد الملك سلمان في أواخر أبريل، إلى تسريح المرأة الوحيدة في الحكومة، نائبة وزير التربية والتعليم، التي تسلمت منصبها منذ عام 2009، ولم يكن هذا التغيير من قبيل المصادفة، كونه لا يوجد منصب أكثر رمزية على الإصلاحات التي أُدخلت حديثًا إلى المملكة، من المنصب الذي كانت تحتله نائب وزير التربية والتعليم، كما تشير الإحصائيات، أنه منذ تسلم الملك سلمان خلال النصف عام الماضية، تم تنفيذ حكم الإعدام بحوالي 100 شخص، كما تحولت الأصوات المنتقدة لتصبح أكثر هدوءًا، نتيجة لسياسة الملك الجديد المعارضة للتحديثات.
“لكن التغيير أصبح موجودًا، ولم يعد من الممكن التراجع عنه، حتى إذا لم نتقدم، فنحن على الأقل أنجزنا الكثير” تقول رجاء الصانع، التي تشير إلى أنها حزينة لأنها لم تولد بعد سنوات قليلة من ولادتها الفعلية، وتبرر ذلك قائلة “الشابات اليوم يعشن أيامًا أسهل بكثير من التي عشناها”، على الرغم من أنها تبلغ من العمر 33 سنة فقط.
الصانع درست طب الأسنان، وخيارها هذا كان خيارًا عمليًا يلائم الواقع الذي تعيشه، كون الدراسات والاختصاصات الأخرى التي كانت تفضلها، كان يصعب عليها كامرأة في ذلك الوقت أن تحصل عليها، والآن تعمل في عيادة أسنان تابعة للدولة، وتقول “لكن إذا كان عليّ إتخاذ قرارًا اليوم، فإنني أود أن أصبح محامية أو صحفية”.
الصانع لم تكن يومًا متهيبة من تخطي الحدود؛ فقبل عشر سنوات، نشرت رواية “بنات الرياض”، التي أصبحت أفضل الكتب مبيعًا في المملكة العربية السعودية بعد القرآن الكريم، وكانت روايتها فاضحة، لأنها صورت شابات السعودية وهن يشربن الشمبانيا ويقدن السيارات، وكانت مقتبسة عن الواقع، حيث رسمت صورة لجيل الشابات المتنمرات، ولكن كما تقول الصانع، شابات اليوم مختلفات عن الجيل السابق الذي صورته في روايتها، فالجيل الجديد أكثر استقلالًا وانفتاحًا، وأقل تشابهًا.
في ذلك الوقت، كانت رواية بنات الرياض محظورة في السعودية، ولكن تم تهريبها إلى داخل البلاد، وبيعها بمبلغ يصل إلى 500 دولار، وبعد سنة واحدة، قامت السلطات الرقابية برفع الحظر، لأنهم لم يستطيعوا منع الرواية من الانتشار، والصانع تقول إن هذا ما يحدث دائمًا، يحاول المتشددون تضييق الخناق على التغييرات والأشياء الجديدة، ولكن عندما يلاحظون أنهم لا يستطيعون وقفها، فإنهم يسمحون بها، والتغيير في المملكة العربية السعودية من هذا المنطلق، يعني اختبار الحدود الخارجية لمقاومة المحافظين ولكن بحذر.
وتتابع الصانع قائلة “الإصلاحات يجب أن تأتي من الداخل، فكلما رفعت النساء صوتهن للمطالبة بحقوقهن، كلما ضيقن الخناق على الحكومة لتنفيذ مطالبهن، ولكن التركيز على الضرورات الاقتصادية هو أكثر فعالية من مجرد المطالبة بالحقوق”.
منع النساء من القيادة
الدعم الحكومي للمرأة بدأ بالانحسار بالتزامن مع هبوط مستوى الرخاء في أغنى الدول الخليجية، وحاليًا، تدعم السياسة الحكومية النساء رسميًا؛ فالصحف المطبوعة تنشر تقاريرًا ناضرة شبه يومية عن النساء، وتحتفي بأول رئيس تحرير أنثى في البلاد، وبأول طيارة سعودية، وأول امرأة سعودية تصعد إلى قمة جبل إيفرست.
السعودية هي الدولة الوحيدة في العالم التي تمنع النساء من قيادة السيارات
ومع ذلك، حوالي نصف المشاركين في الدراسة، التي أجراها مركز خديجة بنت خويلد في جدة، مازالوا يعتقدون أن مكان المرأة ليس خلف صندوق محاسبة المراكز التجارية، ولا في المصانع ولا في العالم السياسي، ولكن بذات الوقت، ووفقًا لنفس الدراسة، 80% من الرجال و90% من النساء يعتقدون أن عمل المرأة مفيد من الناحية الاقتصادية.
لكن شيئًا واحدًا لا يزال مفقودًا بين جميع هذه التناقضات، فالمرأة لا تزال ممنوعة من قيادة السيارة، “لا يمكنك أن تتخيل مدى صعوبة أن نرفع أصواتنا”، تقول ناشطة سعودية تجلس في مقهى بفندق بالرياض، تفضل عدم الإفصاح عن هويتها، ولكنها تتحدث بصوت عالٍ، لدرجة أنها استقطبت أنظار الرجال الثلاثة الذي يجلسون على الطاولة المجاورة، حيث قالت بانفعال “كل من ينتقد مجتمعنا أو الدين أو الحكومة، سرعان ما ينتهي به المطاف إلى السجن، ويمكن أن تُعاقب أسرته بأكملها”، قالت ذلك وهي تؤشر بيديها بعنف، حتى انحسر الحجاب عن رأسها أكثر وأكثر إلى الوراء.
هذه الناشطة السعودية اُعتقلت لعدة مرات، لجلوسها خلف عجلة القيادة في السيارة، ولتصويرها لنساء أخريات وهن يقمن بذات التحدي، علمًا أن هذا النوع من الاحتجاجات ليس الأول من نوعه؛ فمنذ عام 1990، تحدت المرأة القوانين السعودية المجحفة التي تمنعها من قيادة السيارات، وجلست مرارًا وتكرارًا خلف مقود السيارة احتجاجًا على الحظر الجائر المفروض على النساء.
المملكة العربية السعودية هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تسمح لنسائها بقيادة السيارات، وكما هو الحال مع الكثير من الأشياء الأخرى هنا، لا يوجد أي تفسير أو تبرير رسمي لهذا الحظر الغريب، فهو موجود بذاته ببساطة وكما هو، وأحيانًا يذكر بعض علماء الدين أسبابًا سخيفة لتبرير الحظر، لدرجة أن أحدهم ادعى أن مبايض المرأة تتضرر جرّاء قيادتها للسيارة! ولكن على أرض الواقع، السبب الحقيقي لمنع المرأة من القيادة، يكمن في الحد من حريتها بالتنقل.
بعد فترة قصيرة من توليه منصبه، صرّح الملك المتوفى عبد الله أن اليوم الذي سيُسمح فيه للنساء بقيادة السيارات سيأتي لا محالة، وفي ذاك الوقت، اعتقد الكثيرون بأن يوم إلغاء الحظر لن يطول انتظاره، ولكن الحظر استمر، ونظرًا لغياب وسائل النقل العامة، فقد أصبح هذا المنع يشكل عائقًا يقف بوجه عجلة الاقتصاد، وهذا السبب، في نهاية المطاف، قد يعمل على التحفيز لاتخاذ القرار بإلغاء الحظر.
مع اتساع مساحات العمل للمرأة بدأت المطالبات السياسية بالظهور
“الحكومة لم تعد قادرة على الحفاظ على هذا الحظر السخيف”، تقول الناشطة السعودية التي تجلس في مقهى فندق بالرياض، وتستطرد “يوجد الآن عدد متزايد من النساء اللواتي يغادرن المنزل من أجل الدراسة أو العمل”، ولكن لا يسمح لهن بأن يكونوا لوحدهن في سيارة مع أي رجل ليس زوج أو أب أو أخ أو ابن، ولكن العمالة الوافدة استثناء من هذا المعيار، وهذه أحد الثغرات العديدة العملية ولكن غير المنطقية في هذا النظام.
الناشطة التي تحادثنا، تصطحب معها سائق أجنبي، وهو أمر تشير له على أنه مكلف ومعقد، وتقول لنا بعد تنهد طويل، “من المهم اختيار السائق بعناية، فبعد كل شيء، المرأة غالبًا ما تنفق معه وقتًا ينوف عن الوقت الذي تقضيه مع زوجها، نحن نعيش مع ذكر غريب في منازلنا، وكل ذلك ببساطة حتى لا يتسنى للمرأة أن تقود سيارتها بنفسها”.
مطالب مثالية
أحد الحجج المتكررة التي يُبرر بها حظر النساء من القيادة، تتمثل بأن المجتمع السعودي محافظ، والشعب يريد بقاءه على هذا النحو، وهنا تجيب الناشطة على هذه الحجج بغضب قائلة “من يقول ذلك؟ من يعرف حقًا ما الذي يدور في خلد الناس؟ سابقًا، كانت السياسة تُدار دائمًا من قِبل الحكام، والناس يذهبون إلى المساجد، ولكن الفئة التي أتفاعل معها من الشعب مختلفة عن هؤلاء، فجيل الشباب، المتعلم تعليمًا جيدًا، والمتصل تقنيًا مع بعضه البعض، يرى أن المناقشات المستمرة حول ما إذا كان من المناسب أن تقود المرأة السيارة، أو أن تظهر وجهها على العامة، هي نقاشات مفيدة لأفراد العائلة المالكة، لأنها تحوّل الأنظار عن القضايا السياسية”.
حتى الآن، لم تؤدِ الحرية الجديدة الممنوحة للنساء إلى نمو مشاركتهن بالقضايا السياسية، وربما ذلك عائد لكون تحريرهن يحل تمامًا مكان مشاركتهن في الحياة السياسة، حيث يسعى صناع القرار في السعودية إلى خلق حريات اجتماعية لا تشكل خطرًا حقيقيًا على النظام، والسؤال يبقى هنا، هل يمكن دائمًا احتواء التغيير؟ وهل سيتحول الرجال والنساء الواثقون من أنفسهم إلى مواطنين قادرين على المطالبة بحقوقهم؟
الحرية السياسية هي مطلب لا يزال بعيد المنال في المملكة العربية السعودية، وهذا الواقع يزيد من احتمالية اضطرار البلاد يومًا ما للخنوع والخضوع لتلبية طلبات الإصلاحات الجذرية، أو المخاطرة بتمزق المملكة إثر الصراعات التي ستنشب ما بين الشباب والجيل الواعد الحذق، وبين النظام المهترئ والمتحجر فكريًا.
العديد من الشباب المتنور السعودي، كما تقول الناشطة، هو أقل تدينًا من الجيل القديم، وهو بذات الوقت أشد اهتمامًا بالسياسة، ما يحتاجه بلدها، كما تقول، هو نظام ملكي دستوري، يتضمن دستورًا وبرلمانًا حقيقيًا، وهي تدرك مدى طوباوية ومثالية هذه المطالب، ومدى خطورتها على حد سواء، ولكنها مع ذلك تواصل الحديث، وتميل إلى الأمام وعيناها متوهجة.
تقول الناشطة إنها وصديقاتها، يأملن بتأسيس اتحاد علماني يشبه بنموذجه إلى حد كبير أوروبا أو الولايات المتحدة، “الولايات المتحدة العربية” همست الناشطة، وأردفت “ألن يكون ذلك رائعًا؟” تضحك قليلًا بلا وعي، بعد أن سمحت لنفسها أن تُستدرج إلى غياهب الأحلام، في منتصف يوم مشرق، في وسط العاصمة الرياض.
المصدر: دير شبيغل