“الأرض تهتز من تحتنا جميعا وعلينا أن نُبقي كل الخيارات مفتوحة” هكذا وصف أحد القيادات السياسية الحالة التي يمر بها الشرق الأوسط هذه الأيام، لحظة انتقال وتحول في التحالفات الإقليمية والمحاور الاستراتيجية، تحولات لم تستكمل شروط تشكلها بعد، ولكنها تمر بلحظة مراجعة وإعادة تقييم .
شهدت المنطقة ثلاثة أحداث كبيرة في الأسابيع القليلة الماضية: الانقلاب العسكري في مصر على حكومة محمد مرسي، الصفقة الأمريكية الروسية لنزع سلاح سوريا الكيماوي بالإضافة إلى المحادثة الهاتفية بين أوباما والرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني.
قبل سقوط نظام حسني مبارك في مصر، انقسم الشرق الأوسط إلى محورين رئيسيين، الأول سُمي بمحور الاعتدال، ويضم مصر والسعودية والأردن بالإضافة إلى الإمارات والكويت، وكان هذا المحور مقربا من الغرب، داعما للسلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة محمود عباس، ومؤيدا لتسوية سياسية مع إسرائيل، في مقابل محور ثان كان يسمى محور الممانعة ، ويضم إيران وسوريا بالإضافة إلى كل من حماس وحزب الله، وكان هذا المحور على علاقة متوترة مع الغرب، ويعتبر التسوية السياسية مع إسرائيل تنازلا واستسلاما، وعلى مسافة غير بعيدة من هذا المحور ، ومن دون انحياز تام له، وقفت كل من قطر وتركيا، مع احتفاظ بعلاقات مع محور الاعتدال.
سقوط نظام حسني مبارك في يناير ٢٠١١ أخرج مصر من محور الاعتدال مما أدى عمليا إلى اضطرابه، كما أن اندلاع الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد دفع بحماس السنية خارج محور الممانعة بعد خروج قياداتها من سوريا، ونأى بكل من تركيا وقطر بعيدا عن هذا المحور بعد دعمها المعلن للثورة السورية، وتحول محور الممانعة إلى محور للنفوذ الإيراني الشيعي، ممتد من طهران عبر حكومة المالكي في بغداد ثم نظام الأسد بدمشق وصولا إلى حزب الله اللبناني، وبقي هذا المحور صلبا ومتماسكا بفضل الدعم الإيراني القوي لنظام الأسد.
ومع انتخاب محمد مرسي رئيساً لمصر، ظهر تقارب بين تركيا وقطر ومصر، لم يصل إلى التشكل في محور واحد، ولكنه تقارب قدم الدعم المالي والسياسي للحكومة المصرية، غير أن هذا الثلاثي بقي على علاقة حسنة مع ما تبقى من محور الاعتدال، فكانت الزيارة الأولى لمحمد مرسي إلى السعودية، وشكلت كل من قطر والسعودية وتركيا لجنة لتنسيق الدعم لثوار سوريا، وانضمت الأردن والإمارات إلى هذه اللجنة في وقت لاحق.
الانقلاب الذي أطاح بمرسي في ٣ تموز ٢٠١٣ كان زلزالا استراتيجيا بامتياز، استقبل بالترحاب من قبل ما تبقى من دول محور الاعتدال : السعودية والإمارات والكويت والأردن، وهنأ الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود الرئيس المصري المؤقت بعد وقت وجيز من إعلان الإطاحة بمرسي، وأُعلن عن حزمة مساعدات سعودية إماراتية كويتية تجاوزت ١٢ مليار دولار، بينما كان الملك عبد الله الثاني أول زعيم عربي يزور القاهرة بعد الانقلاب.
وعلى الجهة الأخرى طالبت قطر بإطلاق سراح محمد مرسي وسرعة العودة للمسار الديمقراطي، بينما ندد أردوغان بشدة بالانقلاب، وانطلقت مسيرات شعبية في تركيا مؤيدة لمرسي ومطالبة بعودة الشرعية.
أما إيران، فلم تكن آسفة على الإطاحة بمرسي، لا سيما بعد موقفه الداعم للثورة السورية، لكنها بدأت تشعر بالقلق، لأن مصر ستصطف في محور ينابذها العداء.
الهزات الارتدادية المصاحبة للزلزال الكبير في القاهرة لا تزال مستمرة في المنطقة، فمحور الاعتدال الجديد الذي استعاد مصر بعدما كانت (مختطفة) وفق تعبيره، كانت لديه طموحات واسعه، ولكن طموحه كان أكبر مما يمكن تحقيقه، كما أن حساباته السياسية والاستراتيجية لم تكن دقيقة، فعلى المستوى المصري كانت الدول الداعمة للانقلاب تأمل في حسم سيطرة العسكر في غضون أسابيع قليلة، لكن الساحة المصرية لم تهدأ طوال الشهور الثلاثة الماضية، فالمسيرات والتظاهرات واستمرار حالة منع التجول المسائي بالاضافة الى الحملات العسكرية والأمنية ضد سيناء وعدد من القرى والمدن الرافضة للانقلاب تُددخل البلاد في شلل اقتصادي، وتجعل فاتورة إنقاذ مصر من الانهيار الاقتصادي هائلة.
وعلى مستوى المنطقة فقد كانت هناك مزيد من الطموحات ومزيد من الحسابات غير الدقيقة، فقد سعى محور الاعتدال الجديد إلى الإطاحة بنفوذ الحركات الاسلامية في تونس وليبيا، بينما بدأ الجيش المصري بهدم الإنفاق بين غزة وسيناء، رافقته حملة واسعة ضد حماس، على أمل إنهاء سيطرتها على قطاع غزة، وفي نفس الوقت دخل محور الاعتدال الجديد في خصومة مع تركيا، الدولة ذات الثقل الاستراتيجي الواسع في المنطقة، والتي كانت تعتبر بموقفها الداعم للثورة السورية المعادل السني لإيران الشيعية، ولكن الخطأ الأكبر في حسابات محور الاعتدال الجديد كان في تقديره للموقف الروسي والأمريكي من سوريا، فقد كان يأمل هذا المحور في سرعة إنهاء نظام بشار الأسد واستبداله بنظام موال لمحور الاعتدال، مع إقصاء الحركات الجهادية عن المشهد، وهو ما يروق بالفعل للغرب ولإسرائيل، وتحركت الدبلوماسية السعودية والإماراتية باتجاه دعم ضربة عسكرية أمريكية ضد بشار الأسد، كما تم التواصل مع روسيا لمنحها تطمينات وإغراءات تضمن عدم رفضها الفعال، غير أن الصفقة الروسية الأمريكية لنزع سلاح سوريا الكيماوي كانت مفاجأة غير محسوبة، ثم جاء التقارب الإيراني مع الولايات المتحدة وبريطانيا ليزيد المشهد تعقيدا، وينأى بحسابات محور الاعتدال الجديد عن المسار المأمول.
اليوم تعبر المنطقة مرحلة إعادة صياغة تحالفاتها، ولعل الدولتان الأكثر مصلحة في تقارب سياسي هما تركيا وإيران، فبعد الفتور الذي صاحب العلاقة بينهما طوال العامين الماضيين، فإن كلا منهما يدرك اليوم أنه بحاجة إلى اعادة رسم تحالفاته، فإيران المثقلة بالحصار الاقتصادي، المقبلة على حوار مع الغرب، معنية بحسم ملفي العراق وسوريا بشكل يضمن استمرار نفوذها ولكن يحقق استقرارا يمنع استمرار الصراع الدموي مرتفع الكلفة، أما تركيا، فإنها هي الأخرى معنية بوقف النزيف في سوريا والعراق وما لهما من تأثير على استقرارها الداخلي، وعلى نموها الاقتصادي، بالإضافة إلى أن تركيا تشعر بعد الانقلاب في مصر بأن علاقاتها مع محور الاعتدال قد تدهورت، وأنها بحاجة إلى تحركات دبلوماسية تضمن عودتها إلى الفاعلية الإقليمية.
من المتوقع ألا تقتصر التحولات في المنطقة على الدول، بل إن الحركات الإسلامية ستحاول هي الاخرى إعادة تقييم علاقاتها، ولعل المثال الأكثر وضوحا سيكون في كيفية إعادة تقييم حماس لعلاقاتها الإقليمية، وفيما إذا كانت المتغيرات الحالية، واستهداف الحركة في غزة والتضييق على حكومتها هناك، سيجعلها تراجع تموقعها الاستراتيجي، وتستعيد علاقات أكثر قربا من إيران.
غير أن المنطقة ككل عانت من سياسة المحاور المتنافرة لسنوات طويلة، ونتج عن ذلك حروب أهلية وصراعات مذهبية، وكان أكثرها كلفة على المنطقة العراق وسوريا، ومن الواضح الآن أن الصراع في سوريا قد وصل مرحلة باهظة الكلفة على كل من الطرفين، وربما ينجح البحث عن حل للازمة السورية في تقارب إيراني تركي عربي، فإن مصلحة الأطراف الثلاث تقتضي التوصل إلى تفاهم حول مستقبل سوريا، أما العراق فمقبل على انتخابات تشريعية في الشهور القادمة، ومن المتوقع أن تواصل إيران دعمها للمالكي لمنصب رئاسة الوزراء، غير أن حدة الاستقطاب الطائفي في البلاد تحصد مئات القتلى شهريا، ومن دون توافق بين السنة والشيعة والأكراد فإن العراق ستنجرف باتجاه مزيد من العنف، ولن يكون من صالح دول المنطقة اندلاع حرب طائفية جديدة في المنطقة.
ان استقرار المنطقة لن تحققه محاور متنافرة، بل جهود متساندة تضمن مصالح جميع الأطراف، ومن المفيد للمنطقة أن تصل الى قناعة بأن الاستقرار لن يتحقق إلا بتفاهمات بين دولها جميعا، غير ان ذلك يبدو اليوم بعيدا، وقد تعبر المنطقة مزيدا من الاضطراب والفوضى قبل ان تتعلم هذه الحقيقة.
الجميع يعيد تقييم تحالفاته، لكن من المبكر الحسم بشكل محدد للمحاور الجديدة في المنطقة، فالمتغيرات الاستراتيجية شديدة التدافع، سريعة التعاقب، ولم تستقر الصورة النهائية بعد، وعلى الأرجح أنها لن تستقر لسنوات قادمة، ولكن من المؤكد أن الجميع يبقي خياراته مفتوحة، في انتظار شيء من الثبات.