تراث أصيل
رغم كثرة بطولات تنس المحترفين وتعددها في يومنا الحالي، تبقى لبطولة ويمبلدون البريطانية الكبرى مكانتها المرموقة في عالم الكرة الصفراء، تلك المكانة التي زادت ونمت مع حفاظ هذه البطولة – عبر أعوام عمرها الـ 138 – على إرث ماضيها العريق، فهي الوحيدة، سواء بين بطولات التنس الكبرى “الغراند سلام” أو حتى بطولات الأساتذة “الماسترز”، التي أبقت على الحلة العشبية القشيبة لأراضيها، وهي الأصل في ملاعب التنس، فضلًا عن حفاظها على تقاليد أخرى تتعلق بدقة مواعيد إقامتها والتزام جميع اللاعبين المشاركين فيها بارتداء زي أبيض موحد لم يتغير منذ انطلاقتها، مما يضفي على أجواء هذه البطولة رونقًا تراثيًا خاصًا يميزها عن جميع بطولات التنس الأخرى.
عراقة الماضي
تبدو جذور هذه البطولة ضاربة في عمق تاريخ الكرة الصفراء، فذكرى انطلاق أول نسخة منها تعود إلى القرن التاسع عشر، وتحديدًا إلى عام 1877 الذي شهد تنظيم “نادي عموم إنجلترا للتنس والكروكيت” لأول بطولة عامة للعب التنس في التاريخ، على ملاعب منشآته في ويمبلدون بلندن، بعد أن بقيت هذه اللعبة حكرًا على القصور الملكية البريطانية لأكثر من 300 عام، وقد اقتصرت البطولة الأولى على مشاركة 22 لاعبًا من أبناء المملكة المتحدة فقط، وانتهت بفوز اللاعب سبنسر غور بأول ألقابها، بعد فوزه على ويليام مارشال بثلاث مجموعات بيضاء.
وحافظت البطولة على مكان وزمان إقامتها سنويًا منذ ذلك الحين، فكان آخر يوم إثنين في شهر يونيو من كل عام موعدًا دائمًا لعشاق التنس مع بطولة ويمبلدون، التي خرّجت في مراحلها التأسيسية أبطالًا خلدت أسماءهم في سجلات البطولة حتى يومنا هذا، أبرزهم ويليام رينشو الذي يحمل الرقم القياسي لعدد مرات الفوز بالبطولة برصيد سبعة ألقاب، منهم ستة متتاليين بين عامي 1881 و1886.
وشهد عام 1907 تغييرًا هامًا في قانون البطولة سُمح بمقتضاه بتدويل المشاركة فيها، بعد أن كانت مقتصرة على البريطانيين فقط منذ تأسيسها.
وتتالت نسخ الويمبلدون تباعًا دون أي توقف حتى عام 1915، الذي اضطر فيه منظمو البطولة إلى إيقافها قسريًا بسبب الحرب العالمية الأولى، واستمر التوقف أربع سنوات، واصلت من بعده البطولة رحلتها السنوية المعتادة.
ليشهد عام 1922 تغييرًا جذريًا في قانون البطولة، تساوت بمقتضاه فرص جميع المشاركين في الفوز، بعد أن كان القانون السابق يعفي حامل اللقب من خوض أية مباراة سوى النهائي، هذا التغيير حمل معه مزيدًا من المتعة ومنح فرصة تتويج مزيد من الأبطال، مثل الأمريكي دون بادج، والبريطاني فرد بيردي الذي بقي اسمه يتردد لمدة 77 عامًا، كآخر بريطاني يفوز بلقب الويمبلدون.
وعادت البطولة للتوقف قسريًا ابتداءً من عام 1940 بسبب الحرب العالمية الثانية هذه المرة، ودام التوقف ست سنوات حتى عام 1946، حيث عادت عجلة البطولة إلى الدوران مجددًا دون أي توقف حتى يومنا هذا.
أبطال وأرقام
شهدت بطولة ويمبلدون في سنواتها الستين الأخيرة ظهور أبطال، طبعوا كل حقبة من حقبها بطابعهم المميز، فصبغ نجوم أستراليا فترة الخمسينات والستينات بألوانهم عبر أبطال كبار أبرزهم: لو هود، روي إيمرسون، رود ليفر، وجون نيوكمب، الذي استمر بحصد الألقاب حتى مطلع السبعينات، وهي نفس الفترة التي بدأت خلالها بوادر سيطرة المدرسة الأمريكية بالظهور مع جيمي كونورز، قبل أن يأتي دور الأسطورة السويدية بيورن بورغ ليخطف الأضواء من الجميع، بإحرازه لقب الويمبلدون خمس مرات متتالية بين عامي 1976 و1980، ومن ثمّ صعد نجم الأمريكي الشهير جون ماكنرو الذي أحرز اللقب ثلاث مرات مطلع الثمانينات، قبل أن يدون الألماني بوريس بيكر اسمه في تاريخ البطولة كأصغر من يفوز بلقبها وذلك عام 1985، وليتبعه بلقبين آخرين أواخر فترة الثمانينات، التي تناوب السيطرة عليها مع ستيفان إيدبرغ آخر عظماء المدرسة السويدية العريقة.
وكانت حقبة التسعينات أمريكية بامتياز، بدءًا بالنجم الشهير أندريه أغاسي الذي أحرز لقب عام 1992، قبل أن يأتي دور غريمه التقليدي بيت سامبراس والذي أحرز سبعة ألقاب في ثماني سنوات بين عامي 1993 و2000، وضعته في قمة لائحة أبطال ويمبلدون عبر تاريخها إلى جانب نجم القرن الماضي رينشو.
وفي الـ 2001 فاجأ الصربي غوران إيفانسوفيتش، الذي كان مصنفًا في المركز 125 بين لاعبي التنس المحترفين، الجميع، بإحرازه اللقب ليكون اللاعب الأقل تصنيفًا الذي يحقق الويمبلدون عبر تاريخها، الذي شهد ذلك الحين بزوغ كوكب التنس السويسري روجر فيدرير، الذي طبع البطولة بطابعه عبر إحرازه خمسة ألقاب متتالية بين عامي 2003 و2007، قبل أن يشهد عام 2008 النهائي الأطول في تاريخ بطولات الغراند سلام على الإطلاق، والذي استغرق أربع ساعات و48 دقيقة، وانتهى بتجريد المايسترو السويسري من لقبه على يد غريمه الإسباني الشهير رافائيل نادال في النهائي الثالث على التوالي الذي يجمع بينهما في البطولة.
وتناوب النجمان الفوز في العامين التاليين، فظفر فيدرير بلقب عام 2009 على حساب الأمريكي أندي روديك، الذي فشل في النهائي الثالث الذي يخوضه أمام السويسري، وعاد نادال للفوز في الـ 2010 على حساب التشيكي توماس بيرديتش، في النسخة التي شهدت أطول مباراة في تاريخ التنس، وهي تلك التي جرت في الدور الثاني للبطولة، ولُعبت على مدى ثلاثة أيام، وانتهت بفوز الأمريكي جون إيسنر على الفرنسي نيكولاس ماهو بعد 11 ساعة ونيف.
وفي الـ2011 دخل الصربي المتألق نوفاك دجوكوفيتش على خط البطولات؛ وأحرز لقبه الأول في الويمبلدون بفوزه على نادال في النهائي بثلاث مجموعات لواحدة.
وفي الـ 2012 سطر المايسترو السويسري فيدرير اسمه في سجلات أكثر الفائزين بالبطولة، بالاشتراك مع رينشو وسامبراس، بإحرازه لقبه السابع فيها بعد فوزه الصعب بثلاث مجموعات لواحدة على البريطاني الطموح آندي موراي، والذي استطاع في العام التالي تحقيق آمال جماهير ويمبلدون العريضة، التي طال انتظارها 77 عامًا لمشاهدة بطلًا بريطانيًا يرفع كأس البطولة من بعد فرد بيردي عام 1936، عندما فاز في نهائي 2013 على الصربي دجوكوفيتش بثلاث مجموعات نظيفة.
وفي نسخة العام الماضي عاد النجم الصربي إلى منصات تتويج البطولة مرة ثانية، بفوزه في نهائي مثير على المايسترو فيدرير بثلاث مجموعات لاثنتين، حارمًا إياه من فرصة الفوز بلقبه الثامن، والانفراد بالرقم القياسي لعدد مرات الفوز ببطولة ويمبلدون.
ويمبلدون 2015
تحمل نسخة العام الحالي لفردي الرجال الرقم 129 بين نظيراتها، وتُقام فعالياتها على مدى أسبوعين بين 29 يونيو و12 يوليو، ويشارك في دورها الأول 128 لاعبًا، يجري تقسيمهم بحسب قرعة مسبقة تعتمد على تصنيفهم الحالي بين لاعبي التنس المحترفين.
ويبرز اسم حامل لقب نسخة العام الماضي الصربي نوفاك دجوكوفيتش كمرشح، فوق العادة، لتجديد انتصاره هذا العام، وخاصةً مع المستوى المذهل الذي يقدمه منذ بداية العام الحالي، والذي مكنه من الابتعاد في صدارة تصنيف المحترفين، عبر الفوز بأربعة ألقاب ماسترز أضافها إلى لقبه الافتتاحي في أستراليا المفتوحة، فضلًا عن بلوغه نهائي رولان غاروس مؤخرًا، حيث تعرض لخسارته الوحيدة هذا العام أمام السويسري ستانيسلاس فافرينكا.
الأخير أعلن، عبر أدائه الخارق أمام نوفاك مؤخرًا، عن نفسه كمرشح بارز للفوز بالويمبلدون لأول مرة في تاريخه، وضمها إلى لقبي أستراليا المفتوحة والرولان غاروس الذين أحرزهما في العامين الماضيين تباعًا.
كما يبرز اسم البريطاني آندي موراي المصنف ثالثًا كمرشح محتمل لتكرار إنجازه الوحيد قبل عامين، وخاصةً أنه يلعب على أرضه وبين جماهيره المتحمسة، ويبقى السويسري المخضرم روجر فيدرير بخبرته الطويلة مرشحًا دائمًا للفوز بلقب بطولته المحببة، رغم صعوبة ذلك في ظل تناقص لياقته البدنية بفعل سني عمره التي شارفت على الـ 34.
ولا يمكن استبعاد الماتادور الإسباني رافائيل نادال من قائمة الترشيحات، رغم تعقد مهمته بعد هبوط تصنيفه إلى المركز العاشر بفعل إصاباته المتلاحقة، وهو أدنى تصنيف له منذ عشر سنوات، كما يستطيع الياباني كي نيشكوري، المصنف خامسًا، بسرعته وحيويته تشكيل خطرًا على أي من المرشحين السابقين، ونفس الأمر ينطبق على التشيكي، المصنف سادسًا، توماس بيرديتش والذي يتميز بطوله الفارع وإرسالاته القوية.
عامل الإرسال هذا لطالما لعب دورًا حاسمًا في هذه البطولة عبر تاريخها، وذلك نتيجة سرعة ارتداد الكرات على ملاعبها العشبية، مما يعطي ميزةً كبيرةً لأصحاب الإرسالات الساحقة قد تمكنهم من صنع العديد من المفاجآت على غرار مفاجأة إيفانسوفيتش عام 2001.
ومن المرشحين لذلك، إضافةً إلى المذكورين أعلاه، هناك الكرواتي مارين سيليش بطل أمريكا المفتوحة العام الماضي، ومواطنه العملاق إيفو كارلوفيتش، والأمريكي جون إيسنر.
كما يُتوقع أن تشكل بطولة هذا العام فرصةً مواتيةً لتألق العديد من لاعبي التنس الواعدين، وعلى رأسهم البلجيكي دافيد غوفين والأسترالي نيك كيرغيوس والأمريكي جاك سوك.
لمن تقرع الأجراس؟
أيام قليلة تفصلنا عن انطلاقة البطولة الأمجد والأعرق في عالم الكرة الصفراء، فلمن تقرع أجراس النصر في ويمبلدون؟ ومن سيكون الفائز بشيك الـمليون و800 ألف يورو التي تُمنح للفائز الأول، إضافةً إلى الألفي نقطة تصنيفية؟ أهو أحد الأسماء التقليدية المعتادة في عالم التنس؟ أم أن اسمًا جديدًا سيُنقش على كأس البطولة الفضي الأثري؟ هذا ما ستفصح عنه الأيام القادمة.الريا