كان شابًا من دير الزور، في أواسط العشرينيات ربّما، ظهر في المقطع المرئيّ المروّع مطروحًا على بطنه، مقيّد الذراعين إلى الخلف، يُحاولُ ـ بلا جدوى ـ أن يقنع جلّاديه بأية حجة تحول بين رقبته والسكّين، يبدأ كلامه بالقسم: “وحياة الله..”، فيقطعُ أحد الجلادين عليه الكلام: “الله ما عندوش حياة يا كافر يا مرتدّ!!”، رغم أنه لا يخفى على مسلم: “الله لا إله إلا هو الحيُّ القيّوم”! أشهرُ الآيات في الكتاب الكريم، وأكثرُها تردادًا بين المسلمين!
يقتربُ جلادٌ آخر من الشابّ المسكين، يحملُ رأسًا مقطوعةً لرفيقه الذي كان حيًا قبل لحظات، يُقرّب الرأسَ منه حتى يجعل وجه القتيل بمحاذاة وجهه، ثم يطلب منه وسط قهقهة: بوس شواربه.. بوس شواربه!!
تزيدُ توسّلات الشابّ المحزنة لإنقاذ نفسه هيجانَ الذبّاحين، عبثًا يحاول، فقد تقرّر مصيرُه: “أنت ستُذبح أخي!”، هكذا قال له ذابحُه قبل أن يفريَ رقبته بالسكّين!
يحرصُ الدواعش ـ معظم الوقت لا كلّه ـ على تبرير طرائقهم الشيطانيّة في قتل خصومهم، بتأصيلات شرعيّة يستلّونها من التراث الممتدّ طولًا وعرضًا. فعلامَ يستندون يا تُرى في تبرير هذه الرغبة المحمومة في التفنّن بالقتل، والتسلية الدمويّة! أي نصٍّ يا تُرى استلهموا منه فكرة “تبويس الشوارب”، بين رأسٍ مذبوحةٍ، وإنسانٍ آخر يرتقبُ ذبحه! لا شيء غير الشّبق الساديّ الذي لا يعرفُ حدودًا جغرافية ولا زمنيّة ولا أيديولوجيّة، تعرفُه في صوتِ الفرحة المتوهّجة من نبرة الذابح وهو يقول: “أنتَ ستُذبح”، وفي تقافز مشجّعه وشريكه وضغطه على مخارج الحروف وهو يقول: “أيوا دوس بإيدك.. تعالا من القفا أيوا.. إيه ده.. مفيش جزار هنا؟!”.
عند كلّ جريمةٍ داعشيّة، يتسابقُ كثيرون لتسجيل المواقف، وتصفية الحسابات، أعداءُ الإسلاميّين، وأعداءُ الجهاد، وأعداءُ الثورات، بما فيهم مجرمون أكثر من داعش، كالأسد وحلفائه، وأعداءُ التراث الإسلاميّ بطبيعة الحال! هؤلاء الذين لا يفوّتون فرصةً للحطّ من تاريخهم، وقيمهم، وميراثهم الحضاريّ.
والحقيقة أنه لا يمكنُ تحميلُ التراث الدينيّ الإسلاميّ وزر هذه الفظائع بحال، لا أقول هذا دفاعًا عن الإسلام، بقدرِ ما هو قصدٌ لمعرفة الحقيقة، والتوصّلِ لما وراء هذا الإجرام!
عن قدسية الروح في النصّ الإسلاميّ
للرّوح أهميّة كبرى في التراث الإسلامي، ونوعٌ من القُدسيّة، فهي منسوبةٌ إلى الله عزّ وجلّ نسبة تشريف: “فنفخنا فيه من روحنا”، وهي سرٌّ من أسرار الخالق: “يسألونك عن الروح، قل: الروحُ من أمر ربّي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا”. ولذلك جاءت النصوص النبويّة داعيةً لاحترام الرّوح قصدًا، لا بدافع الرّحمة فقط! ففي الحديث: “لعن النبيُّ، صلّى الله عليه وسلّم، مَن اتخذ الروح غرضًا!”، والغرضُ في الحديث هو الشيءُ الذي يُوضع هدفًا للرماية، ويسمّيه العسكريون المعاصرون: “الشاخص”. ورغم أنّ التدريب على الرمي مستحبٌّ جدًا في الشريعة الإسلامية، واستعمال هدفٍ حيّ ومتحرّك له ميزةٌ في التدريب، إلا أنّ النهي جاء منعًا لاتخاذ الروح لُعبةً وتسلية!
حتى في الحالات التي أباح الإسلامُ فيها القتل عقوبةً، فإنّ تنفيذه يخضعُ لقانونٍ نبويّ: “إذا قتلتُم فأحسنوا القِتلة”، والإحسانُ هنا: بالرحمة بالمقتول، واختيار أيسر الطرق وأهونها عليه، وأقلّها إيلامًا. اعتبر الفقهاء هذا التوجيه النبويّ قانونًا عامًا، وما سواه استثناءً، ممّا يُشنَّعُ فيه معاملةً بالمثل أو غير ذلك. أما في الحالة الداعشيّة، فيُلاحَظُ تجاهلٌ شبه تامّ لهذا التوجيه، إذ يتعمّدُ القتلةُ ابتداع الطرق الأكثر إيلامًا ووحشيّة، ويزيدونه فظاعةً بالتصوير والمونتاج، والمؤثرات الصوتيّة والبصرية، ومن بين ثنايا ذلك تستشعرُ إمعانًا في التلذّذ والتسلية!
ثمّ يُهرع بعد ذلك “شرعيّو داعش” إلى كتب التراث، منقّبين عن وجهٍ لفِعالهم، متجاهلين الآيات البيّنة، والأحاديث المتكاثرة، الداعية إلى نقيضه! وقد أكثروا اعتمادهم على قاعدة “المعاملة بالمثل”، لبساطتها واشتهارها، واتساع بابها، وأفرطوا في تطبيقها أيّما إفراط، إذ لا يمكن بحال المقارنة مثلًا بين قصفٍ صاروخيّ، ووضع إنسانٍ في قفصٍ، وصبّ البترول عليه، وإحراقه بعدُ بفتيلٍ نارٍ طويل!
ويبدو أن قاعدة “المعاملة بالمثل” ـ على اتساعها ـ لم تعد تشبع نهم الدواعش، فأطلقوا أخيرًا يد الإبداع والتفنن في إزهاق أرواح الخصوم، فأغرقوا بالماء، وقطعوا الرؤوس وفتّتوا الرقاب بسلاسل تفجيريّة، لم يسبقهم إليها أحدٌ من العالمين!
هذا الخروج عن القواعد كلّها، مع ما صدّرت به المقالة، من مشهد التلذّذ الساديّ حدّ طلب تبويس شوارب رأس مقطوعة، من قبل جاهلٍ يذهل عن أشهر آيةٍ في كتاب الله، وينفي عن ربّه صفة الحياة! يدلّ بوضوح على أنّ أكثر هؤلاء القتلة لم يفتح يومًا كتابًا من كتب التراث، فضلًا عن أن يقرأه ويتأثر به!
لماذا يجبُ تبرئة التراث الإسلامي من جريمة لم يقترفها؟!
أسوأ عواقب الفُجور الداعشيّ هو أن يكره المسلمون أنفسهم، وأن يحقدوا على تراثهم، وأن يحمّلوا أنفسهم مسؤوليّة هذا الإجرام الساديّ، وهو أخطرُ من تشويه الإسلام لدى من لا يعرفونه، ولا يهتمّون به، ولم يحتاجوا إلى كلّ هذا حتى يشنّوا الحروب على أبنائه وبلاده! ولذلك لا بدّ من التأكيد على ما ذكره كولن ولسون في كتابه “تاريخ الإجرام البشري”: “البشر لا يحتاجون إلى أيديولوجيا شريرة أو سيئة لدفعهم لارتكاب سلوك غير إنساني؛ لأن هذه المشاعر تسيطر علينا بسهولة وبدون أي أيديولوجية”. فالدواعشُ لا يستلهمون التراث في إجرامهم بقدر ما يستخرجون سواد الساديّة البشريّة من أعماق النفس المظلمة.
ثمة تفسيرات أخرى عبقريّة لهذه الوحشيّة، مثل ما ذهب إليه الباحثُ أحمد أبازيد، حين استحضر البيئة الهوليودية التي نشأ فيها مخرجو داعش الغربيون، ورأى أنّ السينما الأميركية كانت أكثر إلهامًا بكثير لساديّي داعش من كتب التراث الإسلاميّ!
كما لا يمكن إغفال الميراث البعثيّ الصّدّاميّ البالغ الأثر في الحالة الداعشيّة، فصدّام ـ رغم ميتته الشريفة وما يُذكر له ـ كان ساديًا رفيع الطراز، لدرجة أنه أجبر أبناء عمومته على قتل أخيهم بأيديهم، فربطه لهم في نخلة، وأمرهم أن يقتلوه وإلا قتلهم! فقتلوه، وترك ذلك في قلوبهم حسرةً لم تمحُها السنون! وكان معروفًا بطرقه الإبداعية في القتل، منها وضع صواعق على قلوب الضحايا ثم تفجيرها عن بُعد! في مشهدٍ لا يبدو بعيدًا عن طريقة تفخيخ الرقاب الداعشية الجديدة! وإذا نظرنا إلى كون كثيرٍ من عناصر داعش الفاعلة هم في أصلهم بعثيون سابقون، فإنّ هذا الميراث جزءٌ من ملهمات داعش في إصدارها الأخير، مع توحّد التهمة في الحالتين: “الخيانة”!
للأيديولوجيا أثر، ولكن!
لا يصحُّ بحال إغفال أثر الأيديولوجيا الداعشيّة، والتبنّي المتطرف للفكرة السلفيّة، والفهم الحدّي لكثيرٍ من النصوص الإسلامية على سلوك القوم الإقصائي العنيف، وسهولة قتلهم لكلّ مخالف، وتكفيرهم لكلّ أحد! لكنّ مقصود المقالة هنا، هو مكمن العنف المبالغ فيه، الذي تُحاول داعش قدر ما تستطيع إظهاره! وهو ما يتناقضُ مع روح الشريعة الإسلاميّة. ولعلّ الناظر إلى كتابٍ توثيقيّ، ككتاب هادي العلوي “تاريخ التعذيب في الإسلام”، يرى كيف كانت طرق القتل البشعة وفنّياته وأساليبُه أكثرُ تشعّبًا وإبداعًا وساديّةً كلّما ابتعدنا عن زمن النبوّة والخلافة الراشدة، واستحكم الفسق والاستهتارُ وقلة الدين بالحاكم!
وهادي العلوي نفسه بعد أن كتب كتابه المذكور، أرسل إليه أحد أصدقائه المغتربين ألبوم صور لتاريخ التعذيب في أوروبّا، فلم يطق أن ينظر فيه، بل أمر ـ فوق ذلك ـ بإخراجه من بيته بالكلية!
وبالالتفات إلى أوروبا، فلديها تاريخ حافلٌ من هذه الأشياء سبقت به داعش وتفوّقت عليها ربّما، وقد شهد المشرقُ كثيرًا من هذه الفظاعات الأوروبية. وهذا نصٌّ أنقله بحروفه من تاريخ الجبرتي، ذكر فيه فقرة من نص الحكم على سليمان الحلبي، قاتل كليبر، والمجموعة التي اتهمت بالتستر عليه بزعم الفرنسيين: “وأفتوا أن سليمان الحلبي تحرق يده اليمين، وبعده يتخوزق، ويبقى على الخازوق لحين تأكل رمّته الطيور”.
“وأيضاً أفتوا على محمد الغزى وعبد الله وأحمد الوالي أن تقطع رؤوسهم، وتوضع على نبابيت، وجسمهم يحرق بالنار، وهذا يصير في المحل المعيّن أعلاه، ويكون ذلك قدام سليمان الحلبي قبل أن يجري فيه شيء!!”.
هذا ما صنعتهُ يدُ فرنسا آنذاك، لا بوحيٍ من أيديولوجيا ما، وإنّما مدفوعةً بدافع الغطرسة والانتقام، تمامًا كما تفعله داعشُ اليوم بعيدًا عن سنّة محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم، قريبًا من سنن أكابر المجرمين والساديين! وقد كان الكاتبُ “فارس الصغير” كتب مقالةً بديعةً تناول فيها “سيكولوجية الذبح عند داعش”، واستبعد جدًا الدوافع الأيديولوجيّة، مقتبسًا نصّ كولن ولسون السابق ذكره، وليس أدلّ على صدق ما ذهب إليه من تحقق ما بشّر به في ختام مقالته، بقوله: “ولأن الحرب النفسية تعتمد في أحد أهم ركائزها على “التكرار مع التنوع”، ولأن “طبيعة التوحّش” الإنساني إذا سيطَرت لا تتوقّف عند نقطةٍ بعينِها، ولأن الخبرات القادمة مع الأجناس المختلفة لم تُطبّق كلّها بعدُ… فمِن المتوقّع بقوّة أن نرى أفكارًا وأساليبَ إبداعية جديدة يمارسُها تنظيمُ الدولة الإسلامية في القتل”.
وهذا بالضبط ما شهدناه ويبدو أننا سنشهد المزيد!
المصدر:العربي الجديد