ما إن يحل شهر رمضان المبارك، حتى يبدأ الناس بتبادل التهاني والتبريكات كتبادلهم الهدايا في أي وقت آخر، حيث لا يترك الشخص منّا أحدا يعرفه الا ويهنئه بقدوم الشهر الكريم بأي وسيلة كانت كالاتصال مثلا، او برسالة نصية او برسالة على مواقع التواصل الاجتماعي أو بأي شكل آخر يراه الشخص مناسبا ليتبادل التهاني مع من يحب.
هذا التصرف ومنذ اللحظات الأولى من الشهر الكريم يدلل على أن رمضان هو شهر للروح قبل أن يكون شهرا للجوارح، حيث إن تبادل التهاني هو ايذانا بأن شهر الروح قد اقترب، وأن قُرب الانسان من روحه أكثر وأكثر هو ما يستحق أن يبدأ الانسان به شهره الكريم.
ومع تقدم أيام الشهر، يبدأ الشخص منّا في عمل الطاعات والعبادات، وهي أعمال للجوارح ولكنها بشكل أو بآخر أعمال للروح تنميها وتغذّيها، فالشخص عندما يصلي لأول مرة في هذا الشهر لأنه شهر الطاعات والأجر العظيم من الله، هو يقترب من روحه قبل جوارحه، هو بذلك يخاطب قلبه بأنه كفى غفلة عن الله، وكفى بعدا عن السجود بين بدي الله. هذا الانسان ينتقل من كون الصلاة عبادة يتقرب فيها الى الله، ليصل الى أنها عبادة يتقرب منها الى الله ثم قلبه الذي يحتاج الى التذكير.
إن الشخص الذي يكثر من الاعمال التطوعية في رمضان، لا يمكن بأي حال من الأحوال فهم طبيعة هذا السلوك الا أنه نابع من الروح قبل الجوارح، فالشخص الذي يأخذ من وقته وراحته، ولا يدخّر جهدا في أن يشارك بعمل تطوعي يخفف فيه عن غيره، هو يريد أن يثبت لروحه أنه قادر على العطاء، ويريد أن يغذّي هذه الروح بمعاني الخير والعطاء فتترفع عن الصغائر والمشكلات، وتسمو به إلى حيث يوجد الخير والبركة.
إن المرأة التي تقوم بتجهيز الافطار أو السحور لأهل بيتها، وتقوم برعاية المنزل والأبناء في نفس الوقت، بالاضافة الى صومها وعطشها، ولا تتذمر من ذلك، بل تزداد قوة وقدرة، هي بذلك تخاطب روحها التي أنشغلت طوال العام، بأن الأجر على قدر المشقة، وأن تجهيز الطعام فيه من البركة والأجر ما يجعلها تستمر على ذلك، وكأن روحها تتغذّى على هذه الأعمال فتزاد قربا منها. ولثناء الرجل على جهد أمه أو اخته او زوجته او بنته خلال شهر رمضان عاملا مهما في تغذية الروح لهم، فيشعروا بأن جهدهم لا يذهب سدى، وأن هناك من يهمه بأن تكون المرأة في البيت على قدر كبير من النقاء والراحة الروحية، ولا ننسى بأن الرجل بثنائه على ذلك هو يغذّي روحه أيضا التي انشغلت عن الثناء على أهل بيته طوال شهور عديدة خلال العام، فهو بذلك يقترب من خصلة الرحمة والعطف الموجودة في نفسه فيغذّيها.
إن من يقرأ القرآن (وربما للمرة الأولى) هو يفعل ذلك لأنه يريد أن يجد فيه ما يغذّي روحه قبل أن يتحرك لسانه في ترديد آيات الله، هو يبحث عن الآيات التي تهز كيانه، حتى وان تظاهر بأنه يرتل القرآن فقط لكي يحصل على أجر الختمة في هذا الشهر الكريم. إننا نجد البعض وخصوصا مع وجود مواقع التواصل الاجتماعي يرددون الكثير من الآيات التي يشعرون انها تخاطبهم، والتي يحسون بأنها تجعل منهم أكثر قربا لذواتهم وأرواحهم، وكأنهم يقرؤون هذه الآيات للمرة الأولى في حياتهم. إن هذا الأمر لا يمكن فهمه إلا أنهم يحاولون أن يجدوا التغذية لأرواحهم فتنعكس على سلوكهم وأعمالهم.
ومع كل ما نراه ونسمعه في كل يوم نصحوا فيه، من اخبار القتل والدمار والعنف، نسأل أنفسنا: كيف نستطيع أن نحافظ على خصلة الخير فينا؟ كيف يمكننا أن نحافظ على أنفسنا من شرور أنفسنا؟ كيف يمكننا أن نبتعد عن الأفكار التي ترهق أرواحنا؟ كيف يمكننا أن نبتعد عن الاحباط والاكتئاب؟ وكيف يمكننا أن نتجنب التفكير بانهاء حياتنا؟ إن كل ما نسمعه ونعيشه من حولنا يحتاج منّا الجهد الكبير ليس من جوارحنا كالامتناع عن الأكل أو الشرب، وليس بأداء العبادات بالجوارح، إن كا ما يحيط بنا يجعلنا نقول وبأعلى أصواتنا “إن لأرواحنا علينا حقا”.
إن كل ما سبق من أعمال نقوم بها في كل عام، وبعضنا يزيد عليها، ولكن طريقة تفكيرنا في هذه الأعمال والهدف منها هو ما نقصده في هذا المقال، فتجاوز حالة العبادة بالجوارح وانتقالها لتعبّر عن الروح هو ما نريده من هذا الشهر تحديدا. إننا نريد أن يكون هذا الشهر معولا لبناء ذواتنا الداخلية التي تعين ذواتنا الخارجية التي تظهر للناس، وهذا يكون من خلال:
الاستمرار في العبادات والطاعات كالصلاة وقراءة القرآن والصدقة، وجعل هذه العبادات تتغلغل في نفوسنا فتعيننا على أن نغّذي أرواحنا.
الجلوس مع أهل المنزل الوقت الكافي الذي يحتاجونه هم وليس نحن، فلا نقوم من مجلس العائلة الا ونحن مطمئنون عليهم جميعا، وأثنينا على أعمال الخير منهم، وأسمعناهم من كلام العطف والحنان ما يسعدهم ويغذّي أرواحهم.
مساعدة أهل المنزل بأعمال المنزل، فلا يوجد أحلى على نفس المرأة من مساعدة الرجل لها في أمور المنزل، بل وتراه منه وكأنها ملكت الدنيا بأسرها، فلا يوجد ما يمنع من أن يقوم الرجل بتجهيز طعام الافطار وأن يدعو أهل بيته قبل دقائق من الأذان ليدعوا الله معا، وليس هناك أجمل من أن يجهز الرجل طعام السحور فيوقظ أهل بيته بكل هدوء وطمأنينة ليتناولوا الطعام معا، ولا أجمل من أن يربت الرجل على كتف أهل بيته ويخبرهم “الجلي اليوم لن يقوم به أحد غيري”. إن هذا كله يتعدى كونه أعمال للجوارح، لتكون أعمال لتغذية الروح واظهار ذواتنا الداخلية.
المشاركة في الأعمال التطوعية ليس بنية العمل على تخفيف الأعباء عن الناس (وان كان ذلك مهما) ولكن بنية أن نقترب من ذواتنا أكثر ونغذّي أرواحنا باخبارها بأن في الحياة من يحتاجون الى كل ذرة جهد منّا. إن بتغذية أرواحنا على ذلك يهون علينا بعدها شعور الاحباط واليأس كلما تقدمت بنا الأيام.
مقابلة الأصدقاء والزملاء، والخروج معهم للتسامر وانعاش الروح، والتخفيف من أعباء الحياة، وجعل ذلك ليس لمجرد التسلية أو تضييع الوقت، وإنما ليساعد الأصدقاء بعضهم، وليكونوا بجانب بعضهم، وليدفعوا بعضهم بعضا على البعد عن الأفكار السيئة، فكم من شخص انهى حياته أو أصابه الاحباط والكآبة لمجرد أنه وجد من أصدقائه البعد بحجة مشاغل الحياة (على غير قصدهم)، وكم منهم فقدوا الشغف بكل جميل لديهم بحجة أنه لم يوجد حولهم من يغذّي أرواحهم بكلمات التشجيع والفرح.
إن الأفكار كثيرة ومتنوعة، ولكل منّا أفكاره التي يمكن له أن يقوم بها ليجعل من روحه أكثر قوة وارادة ، وأكثر انتعاشا وفرحا. إن شهر رمضان فرصة عظيمة للتقرب من أرواحنا، واعطائها حقها الذي نغفل عنه طوال العام، إنه فرصة لأن نكون بعد رمضان أكثر قربا لذواتنا الداخلية وصفاتنا الانسانية، إنه فرصة لكي نعيش في راحة نفسية مع محيطنا _على كل ما فيه_ فنستطيع من خلال ذلك أن نمضي قدما في هذه الحياة، وأن نستغل ما غذّينا به أرواحنا ليستمر بعد انتهاء شهر رمضان.