مدٌ من المهاجرين من العالم الإسلامي يغير المشهد في أوروبا، الوضع الديموغرافي في القارة يتغير بفضل سياسات الهجرة المفتوحة نسبيًا، ومعدلات الخصوبة المرتفعة بين الجاليات المهاجرة، وكذلك تغيرت الحالة الدينية في القارة؛ حيث أصبح الأوروبيون القدامى علمانيين على نحو متزايد، ويتوقع بعض الباحثين أن يصبح الإسلام أحد الأديان الأكثر وضوحًا وممارسة في المنطقة خلال العقود المقبلة.
يتوقع إريك كوفمان (من جامعة لندن) أن السكان المسلمين سيشكلون ما يصل إلى 15% من الأوروبيين الغربيين بحلول عام 2050، وبالنظر إلى أنه من المتوقع أن يكون 25% من أوروبا من الملحدين بحلول عام 2050؛ فهذا من شأنه أن يزيد من نسبة الإسلام إلى 20% داخل القارة، وهذه النسبة قد تكون أعلى بكثير إذا تضمن الخروج من سوق الدين في أوروبا غير الملحدين الذين يرفضون الهوية الدينية.
ولكن هذا هو نصف القصة فقط…
يرى الباحثون أن المسلمين عمومًا يسعون لعيش حياة أفضل في الغرب ويريدون أن يظل الإسلام جزءًا أساسيًا من ثقافتهم، ويلومون فشل أوروبا وأمريكا الشمالية في بناء مجتمعات حقيقية متعددة الثقافات لدفع الوافدين الجدد تجاه الجماعات الإسلامية المتطرفة مثل تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية، صحيح أن التهميش يدفع بعض الشباب المسلمين إلى حافة الأصولية المتطرفة، لكن المتطرفين أعدادهم قليلة ومتباعدون، وهناك إدراك بسيط حول السلوك الديني للمهاجرين الشباب والجيل الثاني من المهاجرين الذين تربوا كمسلمين.
لقد أدى تبني الغرب للتعددية الثقافية العلمانية إلى موجة كبيرة من المسلمين غير المتدينين، على الرغم من افتقار البحث الكمي لتوثيق هذا الاتجاه، كتاب سيمون كوتي “المرتدون: عندما توفر المسلمين اترك الإسلام”، يقدم للقراء صورة قوية عن هذه المجموعة، يعرض كوتي كيف تتحدى العلمانية الغربية الفكر الإسلامي بطرق تؤدي بالبعض إلى التخلي عن عقيدتهم؛ وهي النتيجة الأكثر شيوعًا من العودة إلى الأصولية.
وتُظهر بيانات من دراسة اجتماعية عامة في الولايات المتحدة أن 32% من الذين تربوا على الإسلام لا يعتنقونه في مرحلة البلوغ، و18% لا يحملون أي هوية دينية، ترتفع معدلات الرِدة في أوروبا وكندا، لكن في الولايات المتحدة احتمالات عودة المسلم لتبني الأصولية المتطرفة هي أقل من ذلك بكثير، على الرغم من أننا لا نمتلك المقاييس الدقيقة لاستخدام الأصولية الإسلامية في الدراسات الكمية.
ولكن ترك المعتقد ليس مجرد قرار شخصي؛ فالرِدة يتبعها تهديد حقيقي بالعقاب، في كثير من الدول الإسلامية، يتم إعدام المرتدين، وحتى أدنى إهانة للدين يمكن أن تؤدي إلى التعذيب أو السجن، أو كليهما.
تبدو “جرائم الشرف” لترك الإسلام مألوفة؛ بل إنها حدثت في الغرب، وجدت دراسة أجراها مركز بيو للدراسات مؤخرًا أن 64% من المسلمين في بلدان جنوب أسيا و41% من المسلمين في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يؤيدون إعدام المرتدين، وللأسف، نحن لا نعرف الكثير عن الآراء المتطرفة للمسلمين في الغرب، وسيكون من الصعب الكشف عن هذه الآراء في بحث استقصائي؛ نظرًا للتحيز الاجتماعي ضد هذه الآراء.
يستخدم كوتي البيانات النوعية من مقابلات أجراها مع 35 من المسلمين المرتدين في المملكة المتحدة وكندا لدراسة تاريخ حياتهم الدينية، مع التركيز على انتقالهم من الإيمان إلى ما بعد الإيمان وفي نهاية المطاف ترك دينهم، جمع كوتي هؤلاء الأفراد عبر الإنترنت من موقع مجلس المسلمين السابقين في بريطانيا، وهي مجموعة دعم مؤثرة للذين يتركون الإسلام في المملكة المتحدة وكندا.
ومن خلال التركيز على تاريخ حياة الأفراد، يتجاوز كوتي التفاهات التي تملأ منتديات المسلمين السابقين على فيس بوك مثل مقولة إن “الدين يسمم كل شيء”، ويتعمق في كيفية خروج الفرد من مجتمع ديني يتبنى عقوبات قاسية ضد الكافرين في هذه الحياة وما بعدها.
يبدأ كتاب “المرتدون” مع حالة شاب مرتد اسمه إرتازا حسين، انتحر منذ عام بعد إجراء مقابلة أثناء تأليف هذا الكتاب، الشعور بالوحدة واليأس، والرفض الواضح خلال مقابلة كوتي، وكذلك في تقييم منشورات هذا الشاب على مواقع الإنترنت والمقابلات التي أُجريت مع الأصدقاء في مجتمع المسلمين السابقين؛ جميعها أمور شائعة في أوساط المهاجرين الشباب الذين يواجهون الرفض من أقرانهم غير المسلمين وفرص محدودة للتفاعل الاجتماعي في مجتمعات الأقليات.
قال أحد أصدقاء حسين: “كان إرتازا مثلنا تمامًا، شاب ينشأ في غير موطنه الأصلي نظرًا لصعوبة الأوضاع داخل الوطن، والقضايا المالية، ومشاكل العمل، والشعور بالوحدة، واليأس، والتوتر والإحباط والاكتئاب”، أدى رفض حسين للإسلام إلى تفاقم هذه المشاكل من خلال التسبب في صراع مع أفراد الأسرة وعزله عن معظم مجتمعه العرقي، ولذلك؛ توضح مقدمة كوتي الكئيبة ضرورة خلق مجتمعات آمنة للمسلمين السابقين، وتُظهر أيضًا أن مثل هذا الشيء من الممكن أن يحدث، وعلى الرغم من أن الشاب شعر بالعزلة الشديدة، لكن أصدقاءه من المسلمين السابقين أقاموا حفل تأبين بعد انتحاره، في مراسم التأبين، تحدث والد حسين عن حياة ابنه وأسعد الأوقات التي عاشها، وحتى في هذه الظروف الصعبة، تواجد المسلمون والمسلمون السابقون معًا في سلام.
العديد من الأزمات الدينية، مثل الأزمة التي عانى منها حسين، تبدأ بمجموعة من المشاكل الداخلية والخارجية؛ عندما يتساءل الشباب عن التناقضات في النصوص الدينية المقدسة وطلب توضيح أو توجيه من الأسرة وعلماء الدين.
في جميع المقابلات التي أجراها كوتي، أراد الكثير من هؤلاء الأفراد أن يكونوا مسلمين صالحين، بالنسبة لهم، لم تكن الإجابات التي حصلوا عليها من علماء الدين مرضية بدرجة كافية، وفي كثير من الأحيان ناشدهم علماء الدين بالتوقف عن التشكيك في عقيدتهم، في الواقع، كان هؤلاء المرتدون يدرسون القرآن والحديث بجدية كبيرة، ولكنهم كلما تعلموا أكثر، ازدادت شكوكهم. الحج إلى مكة لم يبعث الإيمان في قلب أحد الأفراد، وجعلها تشعر بالعزلة عن الإسلام.
ذكر العديد من الأفراد أن شكوكهم حول الإسلام ووجود الله تأججت بسبب حركة “الملحد الجديد” والباحثين العلمانيين، مثل ريتشارد دوكينز وكريستوفر هيتشنز؛ بسبب سلطة الانتقادات العلمية للأساطير الدينية، والاعتراضات الفلسفية والأخلاقية على الأحكام الشرعية والمحظورات الإسلامية، وأفاد العديد منهم أنهم يطالعون بانتظام بعض المواد على الإنترنت ويشاهدون بعض المقاطع على موقع يوتيوب لملحدين ومشككين آخرين.
وذكر الكثير من الشباب أن بعض المسلمين السابقين، مثل آيان هيرسي علي (من جامعة هارفارد) وعلي سينا (مؤسس منظمة الحرية الدينية الدولية) ساعداهم في التخلص من شكوكهم وفهم رفضهم للإسلام بطريقة لا يمكن للملحدين الغربيين فعلها، ودعت هيرسي علي أيضًا إلى إصلاح للإسلام يشمل غير المؤمنين، فضلًا عن المؤمنين، ما يتضح لنا من عمل كوتي هو أن حركة الملحدين تجد متحولين بين المسلمين، وأن وجود شخصيات مثل هيرسي علي وسينا ليست حالة شاذة.
يلعب الجنس أيضًا دورًا قويًا في ترك المسلمين لدينهم؛ ففي الكتاب تشير العديد من الفتيات إلى قهر الإسلام للمرأة، وقالت المسلمات السابقات إن تعدد الزوجات كان أحد العناصر التي دفعتهم للشك في إيمانهم؛ فاحتمال الزواج المرتب يُلقي بثقله بشكل كبير على النساء التي تفكر في الرِدة، وعلى الرغم من أن كلًا من الذكور والإناث الذين تمت مقابلتهم ذكروا وجود توتر كبير مع أفراد الأسرة، لكن الفتيات كانوا الأكثر خوفًا من العنف الأسري، وبالنسبة للفتيات من الأسر المتدينة، كان من الصعب إخفاء تركهم لدينهم؛ حيث إن رفض الإسلام المحافظ يعني رفض ارتداء الحجاب.
بالنسبة لهؤلاء الشباب من المسلمين، غالبًا ما تأخذ عملية ترك الدين هيئة أشبه بالطقوس البدائية المنبثقة عن الأحكام والمحظورات في الإسلام، بالنسبة للكثيرين، كان الإعلان أو حتى كتابة شيء عكس الشهادة هو الخطوة الأولى نحو الردة، وبالنسبة للنساء، كان خلع الحجاب له طقوس أخرى، كما كان انتهاك تحريم الخمر وأكل لحم الخنزير من ضمن الأشياء التي تحدث عنها هؤلاء المرتدون، بالنسبة لكثير من المسلمين السابقين، صاحب الرفض المبدئي لإيمانهم عداء علني لكل ما هو ديني، ولكن، في نهاية المطاف، هدأ غضبهم، وشعر بعضهم بالإحراج من عدائهم السابق تجاه المسلمين نتيجة رفضهم للإسلام.
من السهل ترك الإيمان لكن من الصعب البقاء خارجه، يجب أن يتحمل المرتدون عواقب عدم اشتراكهم في المعتقدات والممارسات مع الأصدقاء والأقارب الذين يحاولون إعادتهم إلى الإسلام، بالنسبة للكثيرين، الحديث عن الإيمان هو منطقة محظورة، ولذلك؛ يتخذ العديد من الأفراد قرار عدم إخبار عائلاتهم وأصدقائهم، ويثقون في عدد قليل من الأصدقاء المقربين أو داخل المجتمعات الإلكترونية.
في الواقع، ما يقرب من نصف هؤلاء الأفراد “يخفون” ارتدادهم، وأكثر من النصف الآخر لم يخبروا أسرهم، ومع ذلك، من الصعب إخفاء المعصية، لاسيما خلال شهر رمضان، وعلى الرغم من أن هؤلاء الأفراد اختاروا الرِدة، لكن العديد من المسلمين الأوروبيين تعلمنوا دون التخلي عن هويتهم الإسلامية، كما هو واضح مع العديد من أشقاء وأصدقاء الأفراد الذين قابلهم كوتي.
ما يلفت النظر في كتاب كوتي هو سلاسته، الردة ليست خاصة بالإسلام فحسب، وتجارب هؤلاء المسلمين السابقين مماثلة لتجارب أي شخص يترك حركة دينية متشددة، ترك الإيمان لديه عواقب شخصية واجتماعية ذات أثر عاطفي كبير، في ظل زيادة المجتمعات الإسلامية المرتدة والعلمانية ستصبح المجتمعات الإسلامية العرقية أكثر اندماجًا في المجتمعات الغربية في الأجيال التالية، وبالتالي سوف تنخفض الضغوط الاجتماعية على الردة.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحملات الدولية لزيادة التسامح والحد من العنصرية والإسلاموفوبيا سوف تحفز الاندماج، وبدلًا من تمكين الإسلام الراديكالي؛ فإن تقبل الجاليات المسلمة كجزء من المجتمع سوف يضعف الراديكالية ويشجع المدنية، بدلًا من الهمجية.
المصدر: فورين أفيرز/ ترجمة: التقرير