ترجمة وتحرير نون بوست
عندما اجتاح المصريون الميادين داعين لإسقاط الديكتاتور حسني مبارك، انقسم الصحفيون إلى قسمين: من قفز من السفينة الغارقة، ومن تمسك بالدفاع عن “الرئيس”.
بعضهم، مثل إبراهيم عيسى، انضم لدعوات المتظاهرين، وأسس لاحقًا جريدة التحرير، أما غيره، مثل خيري رمضان، مقدم البرامج في التليفزيون الحكومي فقد هاجم الثوار وأكد حينها أنهم كانوا يمولون من قِبل المتآمرين الأجانب.
لكن الآن، عيسى وكثيرين غيره أصبحوا من أشد المدافعين عن الحكومة العسكرية التي يديرها الديكتاتور عبدالفتاح السيسي، وبدون أي قدر من الحماس الثوري أو حتى الموضوعية والمهنية، يتردد الصحفيون في مصر من الحديث عن شهداء الثورة، إذ يقول بعضهم إن 36 شخصًا فقط لقوا حتفهم في انتفاضة 2011، في حين تؤكد التقارير المستقلة والحكومية التي صدرت بعد الثورة أن هناك أكثر من 900 شهيد سقطوا برصاص الشرطة في أيام الانتفاضة الثمانية عشر.
لكن تقريرًا صدر يوم الخميس من قبل لجنة حماية الصحفيين أكد أن عدد الصحفيين المصريين المسجونين هو الأكبر من أي وقت مضى، حيث تستخدم السلطات حجة “الأمن القومي” للقضاء على حرية الصحافة، هناك 18 صحفيًا على الأقل وراء القضبان، إذ يُستخدم التهديد بالسجن لفرض الرقابة على أي أصوات ناقدة للعسكر.
سأقول أي شيء يأمرني الجيش بقوله
اليوم، يبدو كبار مقدمي البرامج وصحفيي ومذيعي التليفزيون في مصر صريحين بشكل ملحوظ عند حديثهم عن استعدادهم للقيام بدور أبواق الحكومة.
في أحد البرامج الأكثر مشاهدة في مصر، يقول أحمد موسى “سأقول أي شيء يأمرني الجيش أن أقوله، بدافع حبي واحترامي لمؤسسات الدولة”.
موسى ليس لديه مشكلة في الاعتراف على الهواء بعمله لصالح “مؤسسات الدولة”، وليس لديه أزمة في دعوة الصحفيين لخدمة تلك المؤسسات، كما أنه ليس لديه مانع في خدمة الأمن أيضًا، إلا أنه تابع “سأفكر قليلاً قبل أن أعمل مع الداخلية”.
محمود سعد، مقدم البرامج الحوارية المخضرم على قناة النهار، يقاسم أحمد موسى شعوره تجاه الجيش، “لا ينبغي أن نتحدث عن الجيش أبدًا، أبدًا، كما كان يحدث من قبل”، ويتابع وهو يهز رأسه “يجب أن ندعهم يقررون ما يسمحون لنا بقوله ومتى نقوله، فنحن لا نعلم ما سيضر الأمن القومي”.
لكن محمود سعد لديه حسابات أخرى أيضًا، فهو مغرم بقدرته على التأثير في الناس، فقد قال “إنه شعور جميل أن تعلم أنك عندما تتوجه يمينًا”، يقول ذلك وهو يحرك نصف جسده العلوي ناحية اليمين “فإن الشعب سيذهب لليمين”، ويتابع وهو لا زال يحرك جسده “وعندما تتحرك لليسار، فإن الشعب أيضًا سيتحرك إلى اليسار”.
الرواية الرسمية تطمئن الناس
قبل عام 2011، كانت هناك قاعدة غير معلنة بين المذيعين والصحف: يمكننا انتقاد الجميع عدا الرئيس وعائلته، وبالنسبة للبعض، امتد ذلك لوزيري الدفاع والداخلية.
يقول مراسل جريدة الوطن أحمد غنيم إن “امتلاك وسيلة إعلام خاصة تجعل من السهل بمكان أن تضغط على الحكومة إذا واجهتك بعض المتاعب كرجل أعمال لكن ليس هناك مالك للقناة سيطلق العنان لصحفييه لانتقاد الحكومة”.
لكن بعد سقوط مبارك، انفجرت وسائل الإعلام في التهاني، وتقديم الاعتذارات والوعود بعدم العودة إلى “أيام الذل” التي شهدتها فترة مبارك، أعلن عمرو أديب ذلك وعيناه مغرورقتان بالدموع على تليفزيون أون تي في.
حينها قال أديب “كنا جبناء، استخدمتنا السلطات لإملاء المحتوى التي تريده”، لكن أديب نفسه كان قد أعلن أن مبارك شخصيًا حمى حقه في حرية التعبير، وكذلك مع كل الصحفيين.
يستمر مقدمو البرامج ليكونوا قادة الرأي العام بلا منازع في مصر، حيث يعيش أكثر من ربع السكان في أمية مدقعة، ولكنهم انتقدوا الجيش والحكومة بوضوح في وقت مبكر من 2011 بعد قتل مئات المتظاهرين خلال الأشهر الأولى بعد الثورة، لكن دور الإعلاميين في النقاش في الإعلام أصبح أشد غموضًا بكثير.
ونظرًا لمناخ الضغط الحكومي المعروف، يسخر العديد من الشباب من الإعلام منتقدين الإعلاميين بشدة، لكن المشاهدين من كبار السن لديهم نظرة أكثر ليونة، تقول أمل الطاهري، المدرسة المتقاعدة التي تبلغ 63 عامًا من عمرها “حتى إذا دافعوا عن مبارك، ما المشكلة؟ الجميع فعل ذلك!”.
أحمد عبدالله، 55 عامًا، والذي يمتلك متجرًا في العاصمة، متناقض أيضًا في تعليقه: “وسائل الإعلام ليست حرة، لكني أفضل أن يسيطر عليها السيسي وليس الغرب”.
لكن الرقابة الحكومية لها إيجابية أيضًا كما يدعي شريف بديع، المنتج التليفزيوني: “الناس يؤمنون بالرواية الرسمية للأحداث لأنها تشعرهم بالراحة”؛ ما يعني كما يقول إن “المسؤولية الفردية ستنعدم من علي كواهلهم”.
لكن ماذا يمكن للمشاهد أن يفعل حيال ذلك؟ يتساءل شريف ويجيب على نفسه “سيغيرون القناة ليجدوا مذيعًا آخر يقول الشيء نفسه”.
الرقابة الذاتية
هذا الضغط الحكومي المتزايد دفع الصحفيين لمراقبة أنفسهم بمزيد من الصرامة.
يقول محمد، وهو مراسل لموقع دوت مصر، إنه لا يمكنه أبدًا أن يقدم تقريرًا عن عجز الموازنة في مصر والعملية العسكرية المصرية السعودية في مصر في مقال واحد، “لا أستطيع أن أربط في ذهن القارئ بين فكرة أن الحكومة لا تملك المال، لكنها تندفع في حرب للقتال في اليمن”، هذا قد يؤلب الرأي العام، وهذا ليس جيدًا بالنسبة لممولي الموقع ولا للنظام، محمد يعلم أنه إذا لم يراقب نفسه ذاتيًا مع محرريه فسيتم فصله من العمل ببساطة.
في صحيفة المصري اليوم، يقول المراسلون إنهم يعلمون أي الموضوعات يتجنبون، “لا أحد يستطيع أن يتساءل عن جودة تدريب جنود الجيش الذين يواجهون المتمردين في سيناء” كما يقول محرر الموقع أحمد رجب.
حتى عندما نشرت الصحيفة تقريرًا عن انتهاكات الشرطة، ورغم أنها سلطت الضوء على “بطولات الداخلية في الحرب على الإرهاب”، إلا أن الصحفيين تمت إحالتهم للنيابة العامة بعد أن أصدرت وزارة الداخلية بيانًا وعدت فيه بمقاضاة من كتبوا ما ادعت إنه “تقرير غير مهني”.
يقول محمود سعد “لم يجبرني أحد في أي وقت على قول ما لا أريد قوله، لكني أُجبرت على الصمت عما أردت أن أقوله”.
يشعل سيجارته ويتذكر سعد العديد من المحادثات التليفونية مع وزير الإعلام أثناء عهد مبارك، أنس الفقي والتي كانت تحوي سجالات بين الرجلين عما يسمح له بمناقشته، ومن يقابل، وكم المدة، “لقد اتصل بي ليخبرني بأن تظاهرات 25 يناير تم تنظيمها بواسطة الإخوان المسلمين، رفضت ذلك ولم أظهر على الهواء”.
لكن محمود سعد لم يعد يمتلك تلك الروح القتالية، “أنا رجل عجوز” يقول، ويتابع “أريد أن أقضي وقتي هنا في هدوء” هذا الهدوء يمتلك منه سعد الكثير في فيلته شديدة الإضاءة في ذلك المجمع المسوّر في الجيزة.
“أنا لا أريد أن أفسد يوم أي شخص، فسعد يرى أن “المشاهد متعب، لا يريد أن يسمع عن الفساد والسرقة”، تبدو هذه الرغبة في إسعاد المشاهد واضحة لمن يتابع برنامج محمود سعد الذي قال يوم أن تمت تبرئة مبارك من تهمة قتل المتظاهرين “هل من المهم حقا أن نتدخل في تفاصيل القضية؟ لا أعتقد ذلك!”.
ادعاء الاضطهاد أصبح موضة!
على الرغم من اقتراب الصحفيين بشكل مباشر من قضايا الرقابة والفساد في وسائل الإعلام في مصر، إلا أن معظمهم لم يقترب من انتقاد رئيس الحكومة بشكل مباشر.
“الادعاء بأننا مضطهدون تحول إلى موضة”، يقول مذيع تليفزيون سي بي سي خيري رمضان، ويؤكد “كل من يقول إنه يتعرض لضغوط فهو كاذب”.
أما يوسف الحسيني، مذيع أون تي في، فيذهب إلى أبعد من ذلك، بدعوى أن السلطات تريد أن تكون الصحافة متوازنة، لكن الصحفيين أنفسهم هم من يرفضون ذلك، السيسي، كما يدعي الحسيني، سأله عن الحديث عن معارضة حكومته قائلاً “أين هي الأصوات الأخرى؟ هل الجميع مؤيدون لي؟”.
لكن الإحباط في أوساط الصحفيين ينمو أيضًا، فالجميع ليسوا مستعدين لقبول رواية الحكومة، فالبعض استقال من عمله، والبعض الآخر يستمرون في إحناء رؤوسهم لتغطية النفقات.
يقول الصحفي الشاب أحمد أمير، والذي يعمل في برنامج أحمد موسى على قناة صدى البلد “أعطني وظيفة بدوام كامل، وسأترك عملي غدًا”.
“نحن أدوات، لسنا صحفيين، أصحاب وسائل الإعلام يستخدموننا لمهاجمة النظام عندما يريدون، ولدعمه عندما يريدون”، يقول أمير بأسى “هذه مهنة معدومي الضمير”.
تم تغيير بعض الأسماء في هذا التقرير.
المصدر: الغارديان