تحتاج قضية “المثلية الجنسية” إلى فحص طويل ومعمق، وأعد منذ زمن للكتابة عن الموضوع، وما جمعته من قضايا وأفكار ينبغي تناولُها للوصول لتصور وافٍ مبدئيا للقضية يحتاج في تقديري خمس مقالات مطولة، ومن اللافت أن تناول القضية مختزل بالذات عند مؤيديها الذين ينسخون ويلصقون كليشيهات غربية غير مفحوصة ولا مدققة، وهذه سمة عامة لسائر نقاشاتنا التي تحترق قبل أن تنضج لأن الخطوط رسمت سلفًا والمواقف تحددت مبدئيًا وتم توزيع أوسمة التقدمية وانفتاح الذهن سلفًا.
الموضوع في نقاط شديدة الاختصار:
أولاً: هل هم “مثليون” أم “ذوو سلوك مثلي”؟
1- الأولى خطأ فادح في نظري لأنها تسمية هوياتية، وهذه إحدى أهم التجليات الحديثة – الغربية بطبيعة الحال – للظاهرة، أي تحويلها إلى صفة هوياتية يُعرف بها المرء نفسه أكثر من كونها سلوكًا يمارسه المرء.
2- تبعًا للنقطة الأولى، نتجت مفاهيم شديدة التشوه عن الظاهرة في النقاشات العامة والفن والسينما، من قبيل أن المرء “يكتشف” توجهه الجنسي، كأن يتزوج وينجب ثم “يكتشف” فجاة أنه مثلي ويتصالح مع نفسه! أي تصوير السلوك الجنسي كماهية ذاتية أو مقوم ثابت، لا كمكون متطور وسائل تؤثر فيه الجينات والتربية وصورة الأب والأم وخبرات المراهقة والتحفيزات الأولى والاستجابات المقابلة وغيرها.
3- وينتج أيضًا الكلام غير العلمي عن أن الشخص “يتحول” من هذا إلى ذاك، والصحيح أنها كلها نزعات طبيعية موجودة في الإنسان يمكن تحفيزها أو تثبيطها.
4- لا تقدم الأفلام أمثلة على “تحول” معاكس، وهذا يضعف النظرية أصلاً، أليس من الممكن أن يكون شخص ما ذا سلوك مثلي ثم “يكتشف” توجهه الحقيقي؟
5- جميع البشر عندهم نزوع غيري ونزوع مثلي وبدرجات شديدة التفاوت، وإذا كنتَ في شك، فحاول أن تتذكر بعض السلوكات التي كنت تراها من أولاد الصف في المراهقة تجاه بعضهم، وتخيل لو كان السلوك المثلي كعموم مقبولاً في المجتمع، ألم يكن كثير من هؤلاء سيكبرون ويعرفون أنفسهم كمثليين؟ لكن هم أنفسهم تعرض هذا النزوع فيهم للتثبيط وهم أنفسهم لا يتصورون أبدًا اليوم احتمال أن يكونوا مثليين، بل تزوجوا وأنجبوا ولا يفكرون أبدًا إلا في المتعة مع أنثى .. (الصياغة ذكورية لكن الأمر نفسه على الطرف الآخر).
6- يرتبط بما سبق الخطأ الشديد في استعادة أسماء تاريخية من الماضي باعتبارهم “مثليين”، نعم وُجد سلوك مثلي لدى كثير من الفنانين والأدباء والشعراء، لكن “المثلية” بالمعنى الهوياتي اختراع حديث جدًا.
ثانيًا: هل هي ظاهرة “طبيعية”؟
1- ما معنى “طبيعة”؟ هل هو كل ما في الطبيعة؟ السكري والفصام والسرطان كلها ظواهر “طبيعية”، وبهذا المعنى فالسلوك المثلي ظاهرة طبيعية، هل هو كل ما تساهم فيه الجينات؟ الجينات يمكن أن نتنج الانتحار والرغبات العدوانية والأمراض.
2- هل يرضخ الإنسان للطبيعة ويأخذ قيمَه منها؟ مكون أساسي في تاريخنا كبشر هو صراعنا مع الطبيعة، صراعنا ضد السرطان والسكري والفصام والانتحار والرغبات العدوانية هو صراع مع “طبيعتنا” وحرب ضد جيناتنا نحن، الطبيعة لا تملي علينا القيم، نحن نوجه الطبيعة لمصلحتنا.
3- هل “الصحة” أكثر طبيعية من “المرض”؟ وهل “الحياة” أكثر طبيعية من “الموت”؟ كل من طرفي هذه الثنائيات ظاهرة طبيعية؛ الموت طبيعي كالحياة، والمرض طبيعي كالصحة، ونحن نعمل دائمًا من أجل إطالة الحياة وتحسين الصحة، أي نحن نفضل “طبيعة” على أخرى.
4- هل كل ما هو في الطبيعة مشروع؟ هل كل ما تنقله الجينات مشروع؟ اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع “السايكوباثي والسوسيوباثي” من أكثر اضطرابات الشخصية قابلية للوراثة، ومع ذلك لا نقبل بسلوكات أصحابها وينتهي بهم المطاف في المصحات العقلية والسجون.
ثالثًا: هل حُذِفت “المثلية الجنسية” من دليل الأمراض النفسية؟ “DSM”؟
1- نعم حُذفت في السبعينات.
2- قرار الحذف صحيح من وجهة نظري، لكنه لا يخدم قضية مؤيدي السلوك المثلي، لأن الحذف يعني أنها ليست مرضًا، وبالتالي فهي سلوك ينبغي أن يخضع للحكم الأخلاقي لا الطبي، لا يمكن محاسبة الناس أخلاقيًا على أمراضهم، ولكن يمكن محاسبتهم على سلوكهم.
3- قرار الحذف لم يتم لأسباب علمية وهذا معروف، إحدى أهم أساتذتي في الطب النفسي – وهي مثلية – تقول دائمًا بسخرية: اجتمع مجموعة من الرجال البيض كبار السن وقرروا في اجتماع واحد أن المثلية ليست مرضًا!
رابعًا: هل هناك علاج للسلوك المثلي؟
1- السؤال مخادع .. حين تحذف سلوكًا من قائمة الأمراض النفسية فأنت تلغي الأساس الذي يمكن على أساسه لمراكز البحث والجامعات وشركات الأدوية أن تبحث أصلاً عن علاج، يستحيل مثلاً في ثقافتنا أن تقوم جامعة أو شركة أدوية بإجراء أي تجربة من أي نوع لإيجاد علاج لـ “تعدد الزوجات”، لكن يمكن للغربيين أن يفعلوا.
2- لذا، إن كان ثمة من علاج للظاهرة فلا يمكن أن تبحث عنه إلا ثقافة تعتبرها ظاهرة خاطئة أو مرضية أو مخالفة لقيمها، وهذه مأساتنا التي أذكر بها دائمًا، نحن نريد من العالم أن ينفق أمواله من أجل إثبات معتقداتنا نحن! لو كان عندنا مجتمع علمي واهتمام علمي وأموال تنفق على العلم ومجلات وأبحاث وقول مسموع في العلم في العالم لأمكننا ترجمة قيمنا إلى حقائق علمية متداولة، لكننا للأسف نظن أننا ما زلنا نعيش في زمن الجدال الكلامي و “إن قيل كذا، قلنا كذا وكذا”.
3- حتى ضمن المنظومة الغربية، أرى أنه من الخطأ الفادح عدم توفير فرصة لتغيير السلوك المثلي – إن كانت كلمة علاج مستفزة – فإذا كان السلوك الغيري طبيعيًا والمثلي طبيعيًا فمن حق صاحب السلوك المثلي أن يختار تغيير توجهه، الطب الحديث يتيح للمرء تغيير جنسه إذا رغب في ذلك، مع أن جنس المرء تحدده الجينات وفوقها أعضاء تشريحية واضحة، فمن باب أولى أن تُتاح الفرصة لمن يرغب في تغيير توجهه الجنسي لأي سبب يريده.
خامسًا: الحكم الأخلاقي والحكم القانوني
مشكلة الغرب الأساسية هي هيمنة الشق القانوني على الظاهرة، القضية تطرح دائمًا باعتبارها قضية “حقوق مدنية”، ومن هذه الناحية فقرار المحكمة متسق مع القواعد وليس مفاجئًا، بل أكاد أقول إنه خطوة ضرورية – في سياق الغرب طبعًا – ليصبح ممكنًا نقاش القضية علميًا وأخلاقيًا بشكل أفضل، لأنه دون امتلاك هذه الفئة لحقوق مدنية كاملة فسيظل الأمر وكأنه “تربية أخلاقية أو دينية بقوة القانون” وهذا ما لا تحتمله المنظومة الحقوقية الليبيرالية أبدًا، فالحقوق المدنية يجب أن تكون كاملة ومكتسبة بمجرد المواطنة، أما التصرف فيها فهو الذي يخضع للتربية والأخلاق واختيارات الفرد، وهذا موضوع جدلي يطول فيه الحديث.
للحديث بقية ..
المصدر: حساب د. همام يحيى على فيسبوك