يمكن للمرء حين يجد نفسه، ويجد الكثيرين يواجهون ارتباكًا عامًا بالنسبة إلى كثير من التطورات التي تشهدها عدّة بلدان عربية، بل والوضع العربي جملة كذلك، أن يتفهم هذا الارتباك ويفسّره، ولكنه لا يملك أن ينسحب الأمر نفسه على الوضع الفلسطيني.
إن كل ما يجري في الوضع العربي، بل وفي الوضعين الإقليمي والعالمي لا سابق له منذ عشرات السنين التي اقتربت من المائة، فثمة تغييرات كبيرة حدثت في موازين القوى، الأمر الذي أفقد القوى العالمية القدرة على السيطرة على النظام العالمي أو التحكم في مسار الأزمات الدولية فيما بينها، أو الصراعات الإقليمية عمومًا، ولا سيما في إقليمنا العربي – التركي – الإيراني.
ولعل كلمة الفوضى شبه الشاملة هي الوصف الأقرب من الحالة الراهنة بعيدًا عن وصف “الفوضى الخلاقة” السخيف والمبتذل، وذلك لما يحمله وصف “الخلاقة” من إيحاءات التحكم والسيطرة مما يناقض الموصوف، أي الفوضى لأن من غير الممكن للفوضى أن تكون منظمة، أو تحت سيطرة قوّة عليا، وتكون فوضى، فشرط الفوضى هو اللانظام واللاسيطرة والفزع والارتباك والرمال المتحركة.
وإذا استطاع أحدهم، وبعد جهد جهيد، أن يجد مثالًا واحدًا لفوضى “خلاقة” أو مسيطرًا عليها فإن الفوضى الراهنة عالميًا، ولا سيما عربيًا، لا ينطبق عليها ذلك، بل هي فريدة في نمط فوضاها، وفي عدم السيطرة عليها وفيما راحت تفرزه من ظواهر شاذة وحالات تكاد تصبح مستعصية على الحل إلاّ بعد أن تأخذ مداها وتستنفذ ما لديها من دماء، ويغدو الاستمرار من قِبل الأغلبية الغالبة، أو المتنفذة في جبهتها عملية انتحارية وجنونًا مطبقًا.
من هنا حين يُستثنى الوضع الفلسطيني من كل ذلك، ولنقل إلى حد بعيد، يكون هذا الاستثناء صحيحًا لأن طبيعة الصراع بين الشعب الفلسطيني والكيان الصهيوني لم تتغير، ولم يتغير اللاعبون الأساسيون، ولا حتى إستراتيجياتهم وسياساتهم وأساليب عملهم.
نتنياهو وحكومته يشكلان تكرارًا بليدًا لما كانا عليه قبل اندلاع الفوضى العالمية والإقليمية والعربية خلال الأربع سنوات الماضية، وإن أجهد أحد نفسه ليجد فرقًا أو فروقًا فسيكون ذلك في حدود كمية ضئيلة لن تغيّر من المعادلة والصورة شيئًا، ولكن يمكن، بل يجب، أن يضاف أنهما ازدادا ضعفًا بسبب ازدياد عزلتهما الدولية خصوصًا مع الرأي العام الغربي، واضطراب علاقاتهما بالإدارة الأمريكية وعدد من الحكومات الأوروبية.
ومحمود عباس لم يغيّر في إستراتيجيته وسياساته ونهجه شيئًا بالرغم من أنه راح يتخبط بالفشل، وعندما حاول أن يهرب إلى الأمام من خلال اللجوء إلى المنظمات والهيئات الدولية لاحَقَهُ الفشل إلى هناك كذلك، فهو مُصرّ كالسابق على مواصلة إستراتيجية المفاوضات والتسوية مع سياسة قمع كل مقاومة مسلحة أو شعبية ضد الاحتلال من خلال التمسّك بالتنسيق الأمني وإطلاق الأجهزة الأمنية لتفتك بالمناضلين والمناضلات حماية للاحتلال والاستيطان، عمليًا وموضوعيًا، بالرغم من السياسة المعلنة المطالبة بوقف الاستيطان.
أما فصائل م.ت.ف فتواجه عمومًا إرباكًا متفاوتًا في حدّته وشدّته وشكله؛ فهي من جهة لم تعد مقتنعة باستمرار محمود عباس في سياساته بعد كل الفشل الذي مُنِيَ به، ولكنها مصرّة على إبقاء التحالف معه في الآن نفسه، ففي المجلس المركزي الأخير أصدرت قرارًا (أو توصية) بوقف التنسيق الأمني، ولكن محمود عباس صعّد التنسيق الأمني بعده، ولم تفعل شيئًا لتغرق في الارتباك وذلك في وقت تستطيع معه أن تنزل إلى الشارع الملتهب بالغضب ضد الاحتلال والاستيطان وما تتعرض له القدس من تهويد وانتهاكات.
هذا الارتباك غير مفهوم وغير مسّوغ ولا يجوز أن يستمر.
وحركتا حماس والجهاد فقد خرجتا مع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منتصرتين في حرب صيف 2014 مما كان يفترض الانتقال بوضع المقاومة إلى صدارة المشهد ومقدمة التأثير، ولكن تدخل مصر السيسي في رعاية المفاوضات غير المباشرة وإنهائها وإحكام الحصار على قطاع غزة حَرَمَ المقاومة (التي أنجزت في الميدان نصرًا كبيرًا) من أن تجني انتصارًا سياسيًا مقابل ذلك، فقد أُربك الوضع في غزة الذي لا يريد أن يدخل في معركة جانبية مع مصر بسبب هذا الحصار، وما ينبغي له أن يفعل، ولكن هذا الإرباك يجب أن يُحّل بسياسات غير السياسات التي طُبّقت حتى الآن، فطوني بلير وأمثاله يجب أن يُبعدوا عن التوسّط لأنهم جاؤوا ليزيدوا الوضع إرباكًا.
ففي يد المقاومة في قطاع غزة (بيد حماس والجهاد) أكثر من ورقة قوية في الرد على العدو الصهيوني أو في إطلاق حملة واسعة لرفع الحصار المضروب عن معبر رفح.
فما دام الصراع مفتوحًا مع العدو الصهيوني وهو دائمًا في حالة اعتداء سواء أكان على قطاع غزة أم في الضفة الغربية أم القدس كما على المسجد الأقصى، فإن من غير المسوّغ أن يقع أي ارتباك مهما كان شكله داخل الساحة الفلسطينية، فالانتفاضة يجب أن تكون على رأس الأجندة في الضفة والقدس، فهي الإستراتيجية والتكتيك اللذان يجب أن يوحّدا فصائل المقاومة من حماس والجهاد والحراكات الشبابية إلى فصائل م.ت.ف، ويكاد القلم يكتب إلى محمود عباس لولا حالته الميؤوس منها.
وهذه الانتفاضة يجب أن تكون جزءًا من إستراتيجية فك الحصار عن قطاع غزة كذلك.
أما السلاح الذي بيد المقاومة في قطاع غزة فلا يسوّغ أي ارتباك، وقد أثبت جدارته في الميدان.
ثم هنالك الشعب الفلسطيني في القدس والضفة والقطاع ومناطق الـ48 وفي كل مناطق الشتات ينتظر ليتحرك بقوة دعمًا لانتفاضة شاملة تحرّر القدس والضفة وتفك الحصار عن قطاع غزة وتطلق كل الأسرى، وبلا قيد أو شرط.
حقًا من غير المفهوم وغير المسوّغ ولا يجوز أن يكون هناك ارتباك في الساحة الفلسطينية وعندنا الاحتلال والاستيطان والقدس والمسجد الأقصى، وعندنا الانتفاضة والسلاح والأنفاق في قطاع غزة، وعندنا الشعب المنتفض والمقاوم أبدًا، وعندنا الأبطال في القدس والضفة الغربية وفي السجون والذين يضربون حتى الموت من أمثال خضر عدنان ولا لا يرجعون إلاّ بكسر إرادة العدو المهزوم لا محالة.
وهذا كله يتوفر الآن في ظل ميزان قوى عالمي وإقليمي في غير مصلحة الكيان الصهيوني، بل حتى الفوضى التي تضرب في أرضنا العربية ليست بمعوّق أمام انتفاضة الشعب الفلسطيني إذا ما اندلعت وأشعلت الميدان لتفرض تصحيح البوصلة باتجاه فلسطين.
المصدر: عربي 21