هلّ الهلال
ها قد أظلنا شهر ليس ككل الشهور، شهر بارك به الرحمن الرحيم وجعل في طياته الرحمة والمغفرة والعتق من النار، شهر أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان، إنه شهر الصيام والقيام، شهر رمضان الفضيل، أعاده الله علينا جميعًا باليمن والبركات.
أحببنا في هذا الموضوع الذي يتزامن مع هذه المناسبة الإسلامية الجليلة، أن نسبر أغوار الملاعب الأوروبية والعالمية، لنتقصى أخبار أبرز اللاعبين المسلمين هناك، ونرصد أبرز المواقف والأحداث التي دارت في فلك دينهم الحنيف.
الإسلام في أوروبا
لم يعد قدوم الشهر الفضيل حدثًا عابرًا في القارة الأوروبية كما كان قبل عقود، بل أخذ بُعدًا أكثر أهميةً بعد انتشار الدين الحنيف هناك، بفعل الهجرات والجاليات وتلاقح الحضارات أولًا، وكثمرةٍ من ثمار عصر التكنولوجيا والعولمة الذي نعيش أطواره اليوم، فلا غرابة أن نجد كبرى شوارع مدن القارة العجوز ومتاجرها وقد زُينت بلافتات تهنئ بأعياد المسلمين ومناسباتهم، أو أن تقرأ عبارات التهاني على حسابات مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بأرفع الشخصيات هناك، ولم تكن الرياضة – بطبيعة الحال – في معزل عن ذلك، فتواجد اللاعبين المسلمين في الملاعب الأوروبية أصبح واضحًا وعلى أعلى المستويات، وتأثير العقيدة الإسلامية الغراء أصبح ظاهرًا للعيان، سواء بين صفوف اللاعبين المسلمين أنفسهم، أو حتى فيما يتعلق بالأجواء المحيطة بهم في أنديتهم ومنتخباتهم.
مواقف وأبطال
نسرد لكم فيما يلي بعض المواقف والأحداث التي شهدتها الملاعب الأوروبية الخضراء، وكان أبطالها من اللاعبين المسلمين:
– الحادثة الأهم التي ظهر فيها تأثير اللاعبين المسلمين في الملاعب الأوروبية، جرت في إنجلترا، وتحديدًا في الدوري الممتاز (البرايمر ليغ)، فقد كانت القوانين تنص على أن تكون جائزة أفضل لاعب في المباراة عبارة عن زجاجة شمبانيا، ولكن اعتراض بعض النجوم المسلمين وإحجامهم عن استلامها – كما فعل نجم مانشستر سيتي الإيفواري يحيى توريه ونجم تشيلسي السنغالي ديمبا با -، أجبر الاتحاد الإنجليزي على إصدار قرار أواخر عام 2012 يقضي باستبدال هذه الجائزة بكأس صغيرة.
– نبقى في إنجلترا مع النجم السنغالي المسلم ديمبا با، الذي اشتهر حين لعب لنادي نيوكاسل يونايتد بطريقة احتفاله المميزة، عبر أداء سجدة شكر لله تعالى عقب تسجيل كل هدف، تلك الطريقة – التي سبقه إليها لاعبو منتخب مصر في كؤوس أمم أفريقيا حتى لُقبوا بمنتخب الساجدين – أصبحت عادةً في الاحتفال عند براعم نادي نيوكاسل وناشئيه ممن يحبون هذا النجم الخلوق، ليس هذا فحسب، بل قامت شركة “إي آي سبورت” الشهيرة إثر تألقه الملفت وأهدافه الغزيرة، ببرمجة طريقة “السجود” كأحد طرق الاحتفال بالأهداف في لعبة الفيفا الشهيرة التي تصدرها سنويًا، وذلك ابتداءً من نسخة عام 2013.
– وننتقل إلى إسبانيا وتحديدًا إلى مدينة إشبيلية عاصمة الأندلس، حيث تألق النجم المالي المسلم فريدريك عمر كانوتيه مع ناديه عدة سنوات، وكانت له وقفةٌ مشرفةٌ مع أبناء دينه عام 2007،عندما تناهى إلى سمعه أن أحد شركات العقارات ستقوم بهدم مسجدٍ في المدينة بداعي انتهاء أمد استئجار أرضه، فما كان منه إلا أن قام بشراء هذه الأرض لمنع هدم المسجد، بعد أن دفع مبلغ 700 ألف يورو، وهو ما يعادل راتبه كلاعب لمدة سنة كاملة!
– نفس اللاعب كان له موقف آخر لابد أن يُذكر به فيُشكر، ففي مطلع أحد مواسمه مع إشبيلية، تغيرت الشركة الراعية لقمصان النادي لتصبح شركة خمور، وفُرض على لاعبي الفريق تقمص ألبسةٍ عليها شعار تلك الشركة، فما كان من كانوتيه إلا أن رفض ارتداء القميص ذي الشعار، وأجبر إدارة ناديه على تصميم قميصٍ خالٍ من الشعار ليرتديه.
– ذات الحالة السابقة تمامًا انطبقت على لاعب نيوكاسل السنغالي بابيس سيسيه، إذ قام معنيو ناديه بتصميم قميص خاص به، خالٍ من شعار شركة القروض الربوية التي ترعى النادي.
– وفي إسبانيا أيضًا جرت قصة لاعب برشلونة الفرنسي إيريك أبيدال، الذي عانى من مرض سرطان الكبد أشهرًا، فشلت خلالها معه جميع طرق العلاج الدوائية، واضطر للخضوع إلى تدخل جراحي خطير جدًا لاستئصال كبده المصاب وزرع آخر، وظن حينها كل أصدقائه ومحبيه بأن مسيرته الرياضية – بل حتى مسيرة حياته – ستنتهي، ولكن النجم الفرنسي – الذي اعتنق الدين الإسلامي وغير اسمه إلى بلال – استطاع – بفضل الله أولًا، وبفضل روحه المعنوية المرتفعة المستمدة من عمق إيمانه والتزامه بتعاليم دينه – أن يحتفظ بتماسكه ورباطة جأشه، ليقهر المرض الخبيث ويشفى منه شفاءً تامًا، لا بل واستطاع استكمال مسيرته الرياضية كلاعب في صفوف نادي برشلونة ثم موناكو، وعن ذلك قال زميله داني ألفيش: “إنه شخصٌ خلوقٌ ومتدين، ولذلك أعطاه الله القوة والشجاعة لقهر المرض الخبيث”.
– أما مواطنه نيكولا أنيلكا نجم ريال مدريد وأرسنال السابق، فله مع الإسلام قصة رواها بنفسه فقال: “أثناء وجودي في إسطنبول للاحتراف بنادي فنر بخشة أعجبت بصوت الآذان، فذهبت إلى أحد رجال الدين الأتراك في أحد المساجد، وطلبت منه أن يشرح لي بعضًا من آيات القرآن، فبدأ بسورة يوسف، فتأثرت كثيرًا بعفة النبي الكريم وأجهشت بالبكاء، وقررت حينها اعتناق الدين الإسلامي، وغيرت اسمي إلى بلال”.
– بلال” أيضًا، كان الاسم الذي اختاره النجم الفرنسي فرانك ريبيري، عندما قرر تغيير اسمه بعد اعتناقه الدين الإسلامي والزواج من فتاة جزائرية مسلمة، ليس هذا فحسب، بل قام بلال باصطحاب زوجته إلى المشاعر المقدسة من أجل تأدية مناسك العمرة.
– وفي عودةٍ إلى إنجلترا وناديها نيوكاسل، نجد أن القائمين عليه أصدروا الموسم الماضي قرارًا بتخصيص غرفةٍ ضمن منشآته لتكون مسجدًا للاعبيه المسلمين السبعة من أجل أداء صلواتهم التي تتخلل التدريبات، وقد جاء في بيان النادي: “لدينا الآن لاعبون مسلمون أكثر من أي نادٍ آخر في الدوري الممتاز، ومن المهم أن نسهر على راحتهم ونعتني بهم”.
– وبالحديث عن نجومنا العرب المحترفين في أوروبا، نجد المصري المتألق محمد صلاح – لاعب تشيلسي الحالي وفيورنتينا وبازل سابقًا – لا يفرط بأي من فرائض دينه من صلواتٍ وصيام، فهو يحرص على أداء الصلوات الخمس في أوقاتها، حتى ولو كان ذلك أثناء السفر بالطائرة كما حدث معه في أحد رحلاته مع ناديه بازل، كما يصر على استكمال صومه حتى أثناء المباريات المصيرية، ومثله يفعل كل من حارس نادي ويغان العُماني علي الحبسي، ونجمي منتخب هولندا – مغربيي الأصل – إبراهيم أفيلاي وخالد بلحروز.
– أما الفرنسي – جزائري الأصل – سمير نصري نجم مانشستر سيتي، فقد عايد الأمة الإسلامية بطريقته الخاصة، إذ صادف أن سجل هدفًا لفريقه أول أيام عيد الفطر، فاحتفل برفع قميصه لتظهر عبارة (عيد مبارك) مكتوبة تحته.
– بدوره يحرص النجم الألماني – المنحدر من أصل تركي كردي- مسعود أوزيل على قراءة سورة الفاتحة قبل كل مباراة، فهو يشعر معها بالثقة والقوة كما يقول، وهو نفس الشعور الذي ينتاب النجم المالي علي سيسوكو الذي يتمنى تعلم اللغة العربية ليتمكن من قراءة القرآن.
– أما مواطنه حميد ألتينتوب فله قصةٌ تستحق أن تروى، إذ أتم عام 2011 انتقاله إلى نادي ريال مدريد الإسباني، وصادفه هناك منتهى الحظ العاثر عندما تعرض لإصابة بليغة في أول تدريب له مع النادي، علم بعدها أنه لن يستطيع اللعب لعدة أشهر، فما كان منه إلا أن طلب الاجتماع بإدارة النادي، ليخبرهم أنه لن يتقاضى قرشًا واحدًا من راتبه حتى يعود إلى اللعب، فأخلاقه وتعاليم دينه لا تسمح له بتقاضي مالٍ دون تعب.
– المعاناة الحقيقية، هي تلك التي عاشها لاعب إنتر ميلانو الغاني سولي علي مونتاري، حين دخل في خلاف مع مدربه البرتغالي الشهير جوزيه مورينو، الذي يرى بأن صيام لاعبيه في شهر رمضان يؤثر سلبًا على مستواهم وأدائهم في المباريات، بعكس اللاعب الذي يرى بأن حالة الطمأنينة والراحة النفسية التي يمنحها له الصيام تساعده على الارتقاء بأدائه نحو الأفضل، فما كان من المدرب المتعنت إلا أن عاقب لاعبه الصائم بإبعاده عن المشاركة مع الفريق حتى نهاية الشهر الفضيل.
– الحالة نفسها تكررت مع عدد من لاعبي منتخب فرنسا المسلمين، الذين أصروا في خضم مباريات فريقهم في مونديال البرازيل الأخير على التمسك بفريضة الصيام، رغم اعتراض بعض إداريي المنتخب، ولكن موقف مدربهم ديديه ديشان كان أكثر تفهمًا من مورينو، حين صرح قائلًا: ” ليس لدي ما أفرضه على لاعبي فريقي المسلمين، فهذه أمور حساسةٌ ودقيقة وأنا أحترم تعاليم دينهم، كما أنني لست قلقًا من أن يهبط أدائهم، فهم معتادون على اللعب وهم صائمون وليس هذا الوضع بجديدٍ عليهم، والجميع سيتأقلم مع الأمر”.
ونختتم جولتنا في الملاعب الأوروبية مع نجمٍ مسلمٍ يعتبر من أساطين اللعبة، هو الفرنسي – جزائري الأصل – زين الدين زيدان، الذي وصل إلى أرفع درجات سلم المجد الرياضي بفوزه بجائزة أفضل لاعب في العالم ثلاث مرات، فرغم ما يعرف عنه بعدم التزامه بأداء فرائض دينه، إلا أن تواضعه وأخلاقه العالية، شجعت السنغالي ديمبا با على دعوته علنًا لمرافقته في أداء فريضة الحج، فما كان من “زيزو” إلا أن تقبل دعوة أخيه السنغالي بصدرٍ رحبٍ ووعده بتلبيتها قريبًا.
ابتهال رمضانيّ
كانت هذه بعضًا من الومضات المضيئة في حياة لاعبي أوروبا المسلمين، ارتأينا أن نأتي على ذكرها في شهر رمضان المبارك الذي نعيش أيامه الفضيلة، جعلها الله عتقًا لرقابنا من نار الآخرة، وصونًا لها من فتن ونوائب الدنيا، وسبيلاً للتقرب من جلالته بالصيام والقيام وتلاوة القرآن، واقتفاءً لأثر نبيه المصطفى – عليه أطيب الصلاة وأتم التسليم – في حسن الخلق والتواضع وإغاثة الملهوف والرحمة.
الرحمة يا أرحم الراحمين!
اللهمّ اجعل نفحاتها تداعب القلوب الحزينة فتواسيها، وتلفح القلوب القاسية فتليّنها، وبذلك يتمّ لنا خير رمضان وبركاته.
مبارك عليكم الشهر الفضيل، جعله الله نذير فرج ورحمة للأمة، وكل عام وأنتم بألف خير.