ترجمة وتحرير نون بوست
مع تقدم المحادثات النووية بين إيران والقوى العالمية، في أعقاب انتخاب الرئيس حسن روحاني، أصبحت قضية الهوية أو الكرامة جزءًا حاسمًا ولا غنى عنه في الحوار؛ فقبل أيام قليلة من الاتفاق المؤقت المبرم في جنيف في نوفمبر 2013، انتشر مقطع يوتيوب لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، تحت عنوان “رسالة إيران: هناك طريق للتقدم إلى الأمام”، والنقطة الأساسية التي يدور في فكلها حديث ظريف في المقطع هي كرامة الإيرانيين، وكيف يجب احترامها في المفاوضات، ومنذ ذلك الحين، أصبح هذا الموضوع مطلبًا متكررًا في الخطاب النووي الإيراني.
في اجتماع عقده مؤخرًا مع نظيره اليوناني في 28 مايو 2015، قال ظريف إن بلاده ترفض أي حل يقلل من الاحترام، ويقلل من الكرامة، وأكد حينها أن إيران، التي تمتد ثقافتها على مدى آلاف السنين من التاريخ، لن تخضع للترهيب، ومن الملاحظ من كافة المناقشات الإيرانية التي تتناول عامل الشرف أو الكرامة، أنها تشير بطريقة أو بأخرى إلى التطورات التاريخية التي مرت بها إيران، بما في ذلك إطاحة الولايات المتحدة وبريطانيا بحكومة مصدق المنتخبة ديمقراطيًا في عامي 1952 – 1953، والطريقة التي تعامل بها الغرب مع إيران خلال الحرب العراقية – الإيرانية 1980 -1988، كما أن بعض النقاد المحافظين في طهران ذهبوا إلى حد مقارنة تنازلات إيران النووية بمعاهدة تركمان جاي المذلة في عام 1828، التي خسرت من خلالها بلاد فارس قطعة أخرى كبيرة من أراضيها الشمالية لصالح روسيا القيصرية، وتبعًا لذلك، يمكننا القول بإن الحساسية الإيرانية تجاه الكرامة تكمن في صفحات التاريخ.
النوع الاجتماعي للدولة أو جنس الدولة هو أحد الأبعاد البارزة التي ظلت مهملة بشكل غريب، رغم التأثير الهائل للطروحات والمفاهيم التي تتناول ذكورة الدولة، وهو المبدأ الذي تقوم عليها الهوية الذاتية للجمهورية الإسلامية، كما أنه يمثل الطريقة التي شكلت بها إيران سلوكها النووي، ويمكن لتحليل النوع الاجتماعي في إيران أن يساعدنا على تفسير المقاومة الشديدة للمحافظين، ضد الدبلوماسية النووية التي يعتنقها روحاني برمتها، كما يمكن لهذا التحليل أن يفسر سبب المعارضة الشديدة لجماعات مثل الحرس الثوري لهذه السياسات الجديدة.
حيازة النووي هو “الناموس” الإيراني
تصور طهران العميق للهيبة الوطنية والمكانة الدولية ينبع من وجهة نظر معينة قائمة على أساس النوع الاجتماعي أو الجنس، وهي بذلك تحتفل وتحتفي بالذكورة، وتستنكر وتشجب الأنوثة، والسبب بهذا يعود بالمقام الأول لكون الذكورة ترتبط بالقوة والمتانة والمقاومة، وبالتالي يجب التأكيد عليها وتبنيها، في حين أن الأنوثة تجمع ما بين الضعف والمرونة والليونة، وبالتالي يجب تجنبها والتبرء منها، والمفارقة تكمن هنا بأن اعتناق الذكورة يوجب حماية الأنوثة باستمرار، بغية إثبات الأصالة الذكورية والحفاظ عليها، ولكن في ذات الوقت يجب تجنب التلوث بالصفات الأنثوية، ومن هذا المنطلق، فإن أحد المفاهيم الأساسية المستخدمة لتأطير البرنامج النووي الإيراني، وأحد المفاهيم التي تحكم تصرف إيران بحقوقها النووية، هو مفهوم “الناموس”، وهو مفهوم يُروّج له بشكل رئيس من قِبل المتشددين أو المحافظين في الجمهورية الإسلامية، والناموس هو مصطلح ذو أصول يونانية، قائم على التمييز الجنسي، ويشير أساسًا ضمن الاستخدام الشعبي الإيراني إلى الجانب الأنثوي من علاقة عاطفية أو عائلية، ويعتبر حاملًا مهمًا ومقدسًا للشرف الذكوري.
في الواقع، إن انتهاك أو تدنيس الناموس يستثير العنف الذكوري لارتكاب أعمال القتل دفاعًا عن الشرف، حيث عادة ما تكون الأنثى ضمن العلاقة العاطفية أو الأسرة هي ضحية هذا الانتهاك للناموس، وتتم معاقبة المنتهك، بغية الحفاظ على الشرف، وبهذا المعنى، فإن تأطير المشروع النووي الإيراني بغطاء الناموس، يساعد على بناء هالة من القداسة والحرمة حوله، وهذا يعني أن أي تدنيس أو اختراق أو تملك من قِبل الغرباء لهذا المشروع، يمكن أن يستثير استجابة راديكالية، وجدير بالذكر في هذا المقام، ما صرح به العميد حسين سلامي، نائب قائد الحرس الثوري الإيراني، في مقابلة تلفزيونية في 18 أبريل، حيث أكد أن طهران سترد بوابل من الرصاص على أي محاولة لزيارة مواقعها العسكرية، “أعتقد أننا لن نقتصر فقط على عدم السماح للدول الأجنبية بزيارة مراكزنا العسكرية، ولكننا لن نسمح حتى بأي تفكير حول هذه القضية”، وشبّه العميد الرخصة بزيارة المراكز العسكرية التي قد تُمنح للمفتشين الدوليين، باحتلال الأرض الذي يصل إلى درجة الإذلال الوطني، وخلص سلامي إلى القول “لذلك أي شخص يطرح مثل هذه التصريحات سنستجيب له بوابل من الرصاص الساخن”.
حماية “الحرمة” وإظهار “الغيرة”
مفهوم الناموس يرتبط بشكل وثيق مع كلمتين نابعتين من التفريق الجنسي، تظهران غالبًا على سطح المناقشات النووية ضمن النخبة داخل إيران، وهما “الحرمة” و”الغيرة”؛ فمن منظور الذكورة والأنوثة المطروح في سياق الخطاب النووي الإيراني، المواقع العسكرية هي عقدة السلطة الوطنية وموطن فعاليتها، وبالتالي تشكل جزءًا لا يتجزأ من حرمة البلاد، التي من المفترض أن تبقى بعيدة عن التواصل الغريب، وبالطبع بعيدة عن وطئ المفتشين، وذات هذه القاعدة تنطبق على العلماء النوويين الذي يُطلق عليهم اسم أبناء الوطن الأم، ومن المثير للاهتمام، أن مصطلح الحرمة في الثقافة الشعبية الإيرانية، يرتكز أساسًا على مفهوم الخصوصية الأنثوية، التي يُنظر إليها على أنها بحاجة للحماية، ومن هذا المنطلق يمكن تبرير الوصاية القائمة عليها.
في خطاب هام توجه به للخريجين العسكريين من جامعة الإمام الحسين، وثيقة العلاقة مع الحرس الثوري، في 20 مايو، أوضح المرشد الأعلى آية الله خامنئي رفضه القاطع للسماح بتفتيش المواقع العسكرية أو مقابلة العلماء النوويين الإيرانيين من قِبل الأجانب، حيث قال “حاليًا، وفي هذه المفاوضات، يتم إثارة مواضع جديدة مرة أخرى، كعمليات التفتيش؛ نحن قلنا بإننا لن نسمح للغرباء بإجراء أي نوع من التفتيش على مراكز الجيش، وهم يقولون بإنهم يجب أن يأتوا لإجراء مقابلات مع علمائنا، ولكن هذه المقابلات في الواقع، هي استجواب للعلماء، ونحن لن نسمح بأدنى إهانة لحرمة علمائنا النوويين لأي موضوع مهما كان هامًا وحساسًا”.
ولقطع الشك باليقين، أكد خامئني بشكل قاطع في خطابه بقوله “لن أسمح للغرباء بالقدوم إلى هنا، والجلوس والتحدث مع علمائنا، الأبناء البارزين والعزيزين للأمة الإيرانية، الذين وصلوا بسعة علمهم إلى هذه النقطة”، وإبان هذا الخطاب، تم تشكيل تجمع “لن نسمح”، كما خرجت مظاهرات في عدد من المدن الإيرانية الكبيرة بما في ذلك طهران ومشهد وأصفهان، وهذا الواقع يُظهر إلى أي مدى أحدث هذا الخطاب القومي الأبوي صدى عميقًا في جوانب مجتمعات المحافظين، في مجتمع لا يزال يغلب عليه طابع الحكم الأبوي.
إن الوصاية على الحرمات الوطنية وحمايتها من التدنيس، والإهانة، وتدخل الأيدي الغريبة، يتم من خلال “الغيرة”، وهي نوع من الشجاعة الأخلاقية الرجولية، تتميز بطابع ديني في بعض الأحيان، ومرتبطة بالناموس أو الحرمة، حيث تقوم بحراستهما ضد التدنيس الخارجي، وفي الواقع، الحفاظ على الشرف هو دليل على تمتع الشخص بالغيرة، وأولئك الذين يفشلون بالقيام بذلك، أو يقصّرون بهذه المهمة، يتم نعتهم باسم “پفیوزی” وهي السمة المميزة للرجل الذي يفتقر للغيرة، وبعبارة أخرى، “الپفیوز”هو رجل ذو أخلاق مهينة وغير شريفة، لا سيّما عندما يتعلق الأمر بحماية شرف أسرته وأهله، وجدير بالذكر هنا، بأن المواقف الليبرالية لبعض الأكاديميين الإصلاحيين في إيران، الذين انتقدوا سياسة إيران النووية المكلفة، تم نعتها بأنها تصرفات “پفیوزی”.
نعم للمرونة ولكن بشكلها البطولي
حتى عندما يتم تبني مبادئ المرونة “نرمش” والوسطية “سازش”، التي يُنظر إليها غالبًا على أنها طباع وخصائص أنثوية، فينبغي أن تُمارس بشكل بطولي، بغية التعويض عن الانحراف عن المبادئ الرجولية لصالح تبني بعض الصفات الأنثوية، وفي الواقع، خطاب المرشد الأعلى الشهير باسم “المرونة البطولية”، والذي أشار فيه إلى معاهدة السلام التي عقدها الإمام الحسن في عام 661 م مع الخليفة السني معاوية بن أبي سفيان، الذي يُنظر إليه كمغتصب للخلافة، هذا الخطاب هو الذي مهد الطريق لحكومة روحاني للاستمرار بالمحادثات النووية بشكل منتظم، على الرغم من المعارضة الشديدة ضد هذه الخطوة من قِبل المتشددين ومنتقدي التقارب مع الغرب.
الجدير بالذكر بأن هذا الخطاب القائم على جنس السلطة، أو بشكل أكثر تحديدًا الهيمنة الذكورية على السلطة، لا يقتصر فقط على المحافظين الإيرانيين، ولكن تم توظيفه أيضًا بشكل أكثر دهاء واستتارًا، من قِبل المعتدلين، ومن بينهم الرئيس روحاني نفسه، لترويج أجندتهم السياسية؛ ففي خطابه المثير للجدل الموجه للسفراء والممثلين الإيرانيين في الخارج في 11 أغسطس 2014، شن روحاني هجومًا حادًا ضد معارضي المفاوضات النووية، واصفًا إياهم “بالجبناء السياسيين، الذين يقولون نحن نرتجف بمجرد سماع قضية المحادثات”، “إلى جهنم بجبنكم هذا”، قال روحاني منفجرًا، وتابع “جدوا لأنفسكم مكانًا دافئًا، لقد خلقكم الله مترددين ورعديدين”، وذلك في محاولة لتصوير معسكره بصورة الشجعان الحقيقيين والثابتين، الذين وضعوا أنفسهم في طليعة الكفاح من أجل تأمين كرامة الأمة وحقوقها؛ لذا من الإنصاف، أن نستنتج أنه بالنسبة للكثير من المسؤولين في الجسم السياسي الإيراني، وفي القيادة الإيرانية، القدرة النووية تعني الذكورة، وبالتالي نزع الأسلحة النووية سيكون بمقام الخصي.
ولكن في النهاية، لنا أن نتساءل، ما هي الأهمية السياسية لهذه الهوية الذكورية الإيرانية، وكيف يمكن أن تساعد في تسهيل المفاوضات النووية في مرحلتها الأكثر أهمية الآن؟
باختصار، الكرامة النووية الإيرانية هي في الغالب ذات طابع ذكوري، لذا يُنصح المفاوضون الغربيون بأن يأخذوا هذا الموضوع بعين الاعتبار، من خلال الامتناع عن استخدام إطار مرجعي في المحادثات، قد يعمل على تقويض هذا النوع الذكوري من الهوية، وبشكل أكثر تحديدًا، إن اختيار المصطلحات قد يكون له أهمية قصوى في المفاوضات النووية، آخذين بعين الاعتبار القاعدة البديهية القديمة القائلة “الشيطان يكمن في التفاصيل”.
في الواقع، إن الجدل الدولي حول برنامج إيران النووي، هو بمعنى من المعاني، صراع على الذكورة، يتجسد من خلال استخدام الأدوات القسرية والسياسات التصعيدية ضمن هذا الجدل، مثل العقوبات الاقتصادية، التخريب، والتهديد بالعمل العسكري، وخلاصة القول، إن المفاوضات قد تتسبب بتمزق تاريخي لمبدأ المواجهة، وقد تعمل على الأقل على منع هذا المبدأ من التحول إلى الشكل الذكوري المسعور من ممارسة السلطة، المتمثل بالحرب.
المصدر: يور ميدل إيست