في مارس الماضي، قامت مجموعة من النشطاء الهنود في مدينة أورانغاباد بتنظيم مورتشا (تظاهرة) للاعتراض على سلسلة من الإجراءات المناهضة لحقوق المسلمين اتخذتها حكومة مدينة مومباي، والتي يديرها حزب بهاريتا جنتا الذي ينتمي له رئيس الوزراء الحالي نارندرا مودي، وهو الحزب القومي الهندوسي الذي حقق انتصارًا كاسحًا في مايو 2014.
كما جرت العادة، بدأت المورتشا بنصب خيمة ملوّنة في الشارع المواجه لمكتب المدعي العام الخاص بالمدينة، بينما قامت بعض القيادات بإلقاء الخُطَب عن ضرورة العصيان المدني على طريقة غاندي، أمام حوالي 250 مسلمًا، ثم انطلقت المجموعة ناحية المكتب لتقديم طلباتها، وستكون المورتشا بالطبع معلمًا يوميًا يراه الملايين من المارة في واحدة من أكثر المدن ازدحامًا في العالم، إذ لن يرحل هؤلاء حتى تنفيذ طلباتهم.
كان من بين هؤلاء بعضٌ من الـ”قريشي” Qureishi كما يُعرَفون، وهم الجزارون المسؤولون عن ذبح الماشية، والذين خسر الكثير منهم وظائفه، وهُم حوالي 20،000 في مدينة أورانغاباد، نتيجة القوانين الجديدة التي حظرت ذبح الماشية، بالاتساق مع ما يعده الحزب الحاكم القواعد الهندوسية التي تقدس الأبقار، رُغم علمه بأن مسلمي الهند البالغ عددهم رُبع مليار، والملايين من المسيحيين واليهود في البلاد أيضًا، يعتمدون عليها كمصدر أساسي للبروتين الحيواني.
رويدًا رويدًا، بدأت أجندة رئيس الوزراء الجديد وحزبه الصاعد في التأثير على المجتمع المسلم، رُغم تعهداته الطويلة بألا تكون معاملة المسلمين مختلفة عن الأغلبية الهندوسية، وهي تحولات بطيئة لا تزال بعيدة عن أعين الإعلام الغربي، والذي أعرب عن قلقه خلال السنوات الماضية من تقدم مودي على حساب حزب الكونجرس الأكثر مدنية والذي أسسه غاندي، ولكنه منذ دخول الأول للسلطة ينصب اهتمامه على سياسات السوق المفتوح التي ستتبناها الحكومة، والشراكات غير المحدودة التي ستنشأ بينه وبين الهند اقتصاديًا وتكنولوجيًا.
بيد أن المسلمين على الأرض يلاحظون تلك التغيّرات الطفيفة يومًا بعد يوم، ففي شهر مارس خرج علينا سوبرامنيان سوامي، أحد أبرز قيادات حزب بهاريتا جنتا في ولاية مدراس (تاميل نادو)، وقال في خطاب له بأن المساجد ليست أماكن مقدسة كالمعابد الهندوسية، وبالتالي يحق للدولة أن تزيلها في أي وقت، وتبع ذلك بيومين إعلان من حاكم ولاية هريانا المنتمي للحزب بأن تعاليم البهاجواد گيتا، الكتاب الهندوسي المقدس، ستصبح إلزامية في كافة مدارس الولاية.
ليس المسلمون بالطبع هم الضحايا وحدهم، إذ شهد المسيحيون الاعتداء على كنائس عدة في البلاد، كما تعرضت راهبة منهم للاغتصاب الجماعي في ولاية غرب بنغال التي تشهد توترًا بين الهندوس وغير الهندوس نتيجة تدفق اللاجئين المسلمين إليها من بنغلادش (وهم من نفس اللغة والعرق ولكن انقسموا بعد تقسيم الهند عام 1947)، بيد أن عدد المسلمين الكبير بالطبع يجذب الأنظار لهم بشكل رئيسي، لا سيما وأن الهند ثاني أكبر وطن للمسلمين في العالم من حيث التعداد بعد إندونيسيا.
بين مودي والـ”سانغ”
يُعَد مودي الابن البار لتنظيم الـ”سانغ”، المعروف بـRSS، وهو التنظيم الهندوسي القومي الأكبر في البلاد، والمماثل في تعداده وتأثيره وأنشطته لجماعة الإخوان المسلمين في العالم العربي وإن كان أكثر تطرفًا منها (فهو لا يسمح بعضوية النساء على سبيل المثال)، وقد بدأ مودي تاريخه السياسي كحاكم لولاية كوجرات بأحداث عام 2002 الشهيرة التي راح ضحيتها حوالي ألف مُسلِم، واتُهِمت فيها الشرطة آنذاك بالتقاعس عن حماية المسلمين كما ينبغي.
بعد 12 سنة من حُكمه للولاية، وبعد نجاحه في تنميتها اقتصاديًا وفتحها للسوق العالمي بشكل كبير، نجح مودي في حملته الانتخابية العام الماضي في الوصول لمقعد رئيس الوزراء، وكانت دعاياه الانتخابية منصبة بالأساس على رصيده التنموي في كوجرات، وإن استند بالطبع لشعبيته كزعيم هندوسي قوي بين الشرائح المحافظة، ومنذ تقلده للمنصب حرص مودي أن يخلق مسافة نوعًا ما بينه وبين السانغ ليطمئن المسلمين، والذين يشكر بعضهم في الواقع في عامِه الأول.
مودي مع قيادات السانغ قبل أن يصبح رئيسًا للوزراء
“إنه يحاول أن يخلق توازنًا بوجه التأثير الكبير للسانغ، ويمكن لنا أن نرى من لغته ولغة جسده أنه يحاول بالفعل تحقيق شيء جيد للبلاد،” هكذا يقول مقدوم فاروقي، عميد جامعة أزاد المسلمة العريقة، والتي سميت على اسم مولانا أبو الكلام أزاد، أبرز القيادات المسلمة التي انضوت تحت لواء غاندي أيام مقاومة الاستعمار البريطاني، والتي أسسها رفيق زكريا، أبو الإعلامي الأمريكي المعروف حاليًا فريد زكريا.
بيد أن السانغ وموجة القومية الهندوسية أكبر وأقدم من شخص مودي، لا سيما في بلد شديد اللامركزية، حيث يقول الهنود بأنفسهم بأن منصب رئيس الوزراء في بلدهم ضعيف مقارنة بنظرائه في النظم البرلمانية الأخرى في العالم، ولا يدلل على ذلك أكثر من عدم اتخاذ مودي أية تدابير لكبح جماح التصريحات الصادرة عن القيادات الإقليمية والمحلية لحزبه في الولايات المختلفة، والسيطرة على القوى الهندوسية الأخرى والأكثر تطرفًا والتي تقوم بهجمات على مصالح المسلمين بين الحين والآخر.
لطالما اشتكى الهنود من نظامهم السياسي شديد الديمقراطية، والذي يلومونه على نموهم البطيء مقارنة بصعود الصين السريع المعتمد على التخطيط المركزي، وهي حُجة ينادي بها أنصار مودي الآن ممن يروا فيه القدرة على التحليق بالبلاد دون قيود النظام البرلماني، وكذلك بعض المسلمين ممن يعتقدون أن منصب رئيس الورزاء سيقيهم شرور الحركة الهندوسية المنتشرة في الكثير من الولايات، بيد أن تلك الرؤية قد تكون قاصرة بعض الشيء.
مسلمو الهند: أحوالهم وخياراتهم
تتشابه أحوال مسلمي الهند اليوم مع أحوال الأمريكيين من أصل أفريقي في الولايات المتحدة، حيث يعانون تهميشًا كبيرًا في بلد شكلوا ثقافته بشكل كبير، ولا يمكن تخيله بدونهم، وقد قدمت لجنة ساتشار البرلمانية عام 2006 تقريرها بخصوص المسلمين وقالت أن الإحصائيات والدراسات تشير بالفعل إلى تهميش كبير يعانيه المسلمون في كافة الولايات، حيث قال المسلمون أنهم كثيرًا ما يشعرون بانعدام الثقة فيهم (واتهمامهم التعاطف مع باكستان أول التُهَم الجاهزة)، وكذلك بغيابهم شبه التام عن المناصب الإدارية مقارنة بتعدادهم على الأرض.
ماذا فعل المسلمون إذن على مدار السنوات الماضية؟ لا شيء سوى الاستمرار في التصويت لحزب الكونجرس، كما يفعل الأمريكيون الأفارقة مع الحزب الديمقراطي، باعتباره الأكثر دفاعًا عن علمانية ومدنية الدولة، وهو البديل الوحيد أمامهم كما يقول البعض نتيجة تفرق المسلمين بين الولايات وبالتالي قلة تأثيرهم كتعداد في كافة المدن، مما يعرقل القدرة على إنشاء حزب مسلم هندي يمثلهم، إلا أن هذا قد بدأ يتغيّر مؤخرًا نتيجة الضعف الشديد الذي يعانيه الكونجرس، والذي لم يجد على مدار العقد الماضي سوى الدفع بابن حفيد جواهرلال نهرو عديم الخبرة والكاريزما، ليُجبر المسلمين على البحث عن خيار آخر.
في بيغومپورا، إحدى إحياء أورانغاباد، يقف سيد أحمد حافي القدمين بين أكياس الدقيق في المطحنة التي يعمل فيها، ويتحدث عن السياسة، وعن أسباب عدم تصويته للكونجرس هذه المرة مثلما ظل يفعل طويلًا، واتجاهه لمجلس اتحاد المسلمين AIMIM، والذي فاز مرشحه امتياز جليل هذه المرة، “يجب أن تكون كل الأحزاب مدنية في رأيي، ولكن لأن الأحزاب الأخرى عديمة الفائدة قررت أن أصوت لمرشح مجلس اتحاد المسلمين وأجرب شيئًا جديدًا،” هكذا يقول أحمد.
سيد أحمد
يُعَد مجلس اتحاد المسلمين واحدًا من الأحزاب المحسوبة على الإسلام السياسي منذ أربعينيات القرن الماضي، وقد تمركز الحزب بالأساس في حيدرآباد ونادى بخلق كيان سياسي خاص للمسلمين بينما بدأت معالم دولة باكستان في الظهور آنذاك وسط الحديث عن التقسيم، وقد تم سجن زعيمه قاسم رضوي بعد الاستقلال وترحيله لباكستان، ليعود للساحة مجددًا في الثمانينيات والتسعينيات بقيادة سلطان صلاح الدين عويسي، والذي قاد حملة ضد هدم مسجد بابري الذي ادعى اليمين الهندوسي أنه بني على أنقاض معبد هندوسي (وقاموا بهدمه بالفعل عام 1992).
يقود الحزب الآن ابنه أكبر الدين عويسي، وهو معروف بلهجته الساخرة من الهندوسية وطقوسها وخطابه الطائفي الواضح، والذي ينفّر الكثير من المسلمين في الحقيقة، وفوزه بـ26 مقعدًا من أصل 113 في مجلس مدينة أورانغاباد، ليحل ثانيًا بعد الحزب الهندوسي الحاكم، يشي بالكثير عن نفاد صبر المسلمين وغياب البدائل المتاحة لهم في آن، ولكنه يقول الكثير أيضًا عن بعض الأسماء التي نزلت على قائمة الحزب، مثل امتياز جليل، الصحافي التلفزيوني صاحب الشعبية الكبيرة والخطاب المدني الهادئ، والذي حصل على 60،000 بتركيز هجومه على الكونجرس وعدم وفائه بوعوده للمسلمين.
“لقد قلت لهم أن الكونجرس باعهم وخانهم، وقد علقت تلك الكلمة بأذهان الناس،” هكذا يقول جليل، والذي يطمح ربما لخلق صوت أكثر عقلًا داخل الحزب، وتقديم البديل المدني الذي طالما مالت له أغلب شرائح المسلمين، بدلًا من الخطاب الأكثر تطرفًا الذي يقدمه عويسي، ولعل فوزه ودوره في تحقيق الحزب لتلك النتيجة غير المسبوقة سيتيحان له لعب دور أكبر في المستقبل.
سيد رضوان
من ناحية أخرى، لا يزال البعض غير مرتاح لفكرة خلق كيان سياسي مسلم بشكل عام، نظرًا للاستقطاب الذي قد تحدثه بينهم وبين الهندوس، والذي سيجعل الكفة السياسية بالطبع تميل للطائفة الأكبر عددًا، وهو ما يؤكده سيد رضوان، بائع المياه الذي يكتب منشورات خاصة بالإنجليزية ويوزعها، ويرى أن الاعتماد على الطائفية الإسلامية لمواجهة الطائفية الهندوسية لعبة خاسرة وإن حشدت أصوات المسلمين في تلك المرحلة، وأنه لا حل سوى إعادة بناء حزب الكونجرس بمبادئ غاندي، ونقل القيادة فيه من راول غاندي الضعيف إلى أخته الأكثر شعبية پريانكا، والتي لا تزال تصر على عدم دخولها للساحة.
المسلمون والديمقراطية المفتوحة من أسفل
هنا في أورانغاباد، تقول التحولات الجارية في المدينة الكثير عما يعانيه المسلمون، والذين هبطت نسبتهم من حوالي 40٪ إلى 25٪ على مدار العقود الأربعة الماضية بينما تضاعف سكان المدينة من رُبع مليون إلى حوالي مليون ونصف هندي، وبينما شهدت المدينة نموًا لا بأس به تشي به الإحصائيات وأعداد المدارس الخاصة والمطاعم ومصانع السيارات والآلاف من الدراجات العادية والنارية التي تملأ الشوارع، يجد المسلمون أنفسهم معتمدين على ماضيهم أكثر مما يصنعونه في حاضرهم ليظل تأثيرهم موجودًا، مثل جامعة أزاد التي تأوي 11،000 طالب وتخلق شريحة قوية من الطبقة الوسطى المسلمة.
في مدن أخرى بعيدًا عن أورانغاباد العريقة وصاحبة التاريخ الإسلامي، لا يتمتع المسلمون بأي من ذلك، فهُم في ولايات مثل بيهار يملأون الطبقات الدنيا اقتصاديًا واجتماعيًا، وينعدم وجودهم تقريبًا بين الطبقات الوسطى الصاعدة اعتمادًا على قطاع التكنولوجيا، كما لا يوجد لهم أثر في الحكومات المحلية والبيروقراطية، مما دفع بالبعض إلى طرح فكرة كوتا خاصة بهم، على غرار الطبقات الهندوسية التي تم تهميشها تحت النظام الصارم الذي قسم المجتمع لأربع فئات عانت الأخيرة منها (والمعروفة بالـ”داليت”) من الازدراء على غرار السود في أمريكا باعتبارها طبقة نجسة، وكذلك مثل بعض القبائل العريقة التي لا يسعها أن تؤثر على الانتخابات وتحتاج إلى تمثيل مصالحها.
لم تُبد أي من حكومات حزب الكونجرس المتعاقبة أي اهتمام بذلك لمقترح، لا سيما وأنه يتناقض مع علمانية ومدنية الدولة التي يدعو لها الحزب، في حين تغاضي تمامًا الحزب الهندوسي عنه نظرًا لرفضه للكوتا المستندة للدين وتأثيرها السلبي على السياسة الهندية، على العكس من الكوتا الخاصة بالـ”داليت” والتي تعزز المهمشين اجتماعيًا، وهي حجة يستخدمها الحزب كما يقول أعداؤه لكبح أي فرصة لظهور صوت مسلم على الساحة.
قد يبدو اقتراح الكوتا منطقيًا، ولكنه سيرسخ سياسة أكثر صلابة تتخندق فيها كافة الطبقات الاجتماعية والطوائف الدينية خلف نِسَب معينة، بشكل يجعل العملية السياسية أقل دينامية، ويؤثر سلبًا ربما على قدرة الدولة الهندية تحقيق التنمية والحد الأدنى من التوافق اللازم للمضي قدمًا على كافة مستوياتها كما يحلم الهنود، وهو ما يعني أن المسلمين في حاجة إلى استغلال طبيعة النظام السياسي الهندي المفتوحة بدلًا من البحث عن الحلول السهلة، ولعل صعود حزب أم أدمي (رجل الشارع) درسًا لعدم استحالة تحريك الشارع وخلق قوة سياسية جديدة في غضون سنوات قليلة.
تتميز السياسة الهندية بكم هائل من العمليات الانتخابية على كافة المستويات، القومي والإقليمي والمحلي، وتوزيع القوة التنفيذية بالتساوي بين تلك المستويات بشكل يتيح للشارع التأثير عليها بسهولة مقارنة بأي بلد آخر، وهو السبب ربما في شهرة أساليب مثل المورتشا للدفع قدمًا بمطالب معينة أو الضغط لإلغاء إجراءات جديدة، فالهنود قد يقفون لساعات في الشوارع لا لشيء سوى اعتصام أو مسيرة، وهو أمر يحدث بشكل متكرر في كافة الولايات ومن مجموعات مختلفة، مما يجعل الديمقراطية الهندية “مفتوحة” من أسفل عبر أدوات أخرى غير صندوق الاقتراع، ويتيح للمسلمين المئات من الوسائل لابتكار وسائلهم السياسية الخاصة للتواجد والحضور.
رُغم كونهم أقلية في بلد ذي أغلبية هندوسية، وهو أمر قد يجعلهم يحسدون غيرهم من المسلمين، إلا أن واقعهم على الأرض لربما يشي بأن المسلمين في شتى أصقاع الأرض قد يحسدونهم، وهم الذين تُتاح لهم منذ وقت طويل مساحة للتواجد والتأثير خارج إطار الديمقراطية التمثيلية الصلبة، والتي يتقيد بها على سبيل المثال المسلمون في تركيا وإندونيسيا، نتيجة لمرونة وتركيبية النظام الهندي، دون اللجوء اللجوء إلى الحركات العنيفة، كما يحدث في باكستان، ولكنها مساحة تنتظر أن يستغلها أهلها لتحسين أحوالهم التي تدهورت في العقود الأخيرة.